Saturday, July 17, 2010

الحكومة و التعددية الجديدة

عالم اليوم ـ يوليو 1997ـ راجي عنايت

مجتمع التعدّدية الجديد
و دور الحكومة فيه


الثابت أن المجتمع و السياسة في الدول قد خضعا للتعدّدية .. خضع كلّ منهما بطريقة جديدة غير مسبوقة، و بطريقة تختلف في المجتمع عن السياسة . و على عكس التصوّر السائد من أن هناك مركز قوّة منظّم واحد، نعني الحكومة، فإن المجتمع و السياسة في الدول المتطوّرة يذخران الآن بمراكز القوة، المنفصلة عن الحكومة و الخارجة عنها
و لنبدأ بالتعدّدية الجديدة في المجتمع، و التي يكون تركيزها على الوظيفة و الأداء . إنّها تعدّدية تنظيمات الغرض الوحيد، كلّ منها تهتمّ بمهمّة إجتماعية واحدة : خلق الـثروة، أو التعلـيم، أو الرعاية الصحّية، أو تشكيل قيم و عادات الصغار . و من أهم ما يميّز هذه التعـدّدية الإجتماعيّة أنها غير سياسية بالمرّة
أمّا التعدّدية الجديدة في مجال السياسة، فتركيزها-على العكس من الأخرى- يكون على القوّة والسلطة والنفوذ . و هي تعدّدية جماعات القضيّة الوحيدة أو الإهتمام الوحيد، "حركات جماهيرية " من الأقلّيات صغيرة و على أعلى المستويات التنظيميّة . و كل منها تحاول الحصول من خلال القوّة على ما لا تستطيع الوصول إليه من خلال عدد أفرادها، أو إلحاحها . و كل منها سياسية تماماً
كل من هاتين التعدّديتين الجديدتين تعتبر تحدّياً للعملية السياسية، و للقيادة السياسية

المجتمع التعدّدي في عصر الصناعة

خلال عصر الزراعة الطويل، كانت المهام الإجتماعية إمّا ألاّ تجد من يقوم بها، أو كانت تقوم بها الأسرة أساساً، سواء في تعليم الصغار أو رعاية المريض و المسنّ . و ما أن إنتقلنا إلى عصر الصناعة، حتّى تكفّلت بهذه المهام تنظيمات و مؤسّسات : مشروعات النشاط الإقتصادي، و إتّحادات العمّال، و المستشفيات و نظم الرعاية الصحّية، و مراكز رعاية الطفل، و المدارس و الجامعات
كان لكل مؤسّسة من هذه المؤسّات غرضها الوحيد، و لم تكن سياسيّة بطبيعتها . و كلّما حاولت إحدى هذه المؤسّسات أن تتجاوز مجال إهتمامها الخاصّ، فقدت فعّاليتها على الفور . أساس هذه المؤسّسات كان: الوظيفة، و ليس القوّة
و في الوقت الذي بلغت فيه "سيادة" الدولة أوجها، خلال عصر الصناعة، بزغت قوّة جديدة حقيقيّة، نعني بذلك النشاط الإقتصادي الحر الحديث
و كان مركز القوّة الجديد المتمثّل في النشاط الإقتصادي الحرّ، هو العنصر الأوّل في زحف التعدّدية، و بدأ الناس يتناقشون حول العلاقة بينه و بين الحكومة، و بين القوّة العاملة ، أو المجتمع
و كانت الخدمات المدنيّة الحديثة هي الكيان التعدّدي الثاني، الذي ظهر في أعقاب كيان النشاط الإقتصادي، و راح ينمو في قوّته و حجمه

التعدّدية المعاصرة تختلف

و رغم أن التعدّدية ليست شيئا جديدا، إلاّ أن هناك إختلافات حاسمة بين ما كان قائما منها و ما يحدث الآن
جميع أشكال التعدّدية التقليدية كانت قائمة على "القوّة"، أمّا الجديدة فتقوم على "الوظيفة" . في التعدّدية القديمة، كان كل كيان يخضع لقوّة المستوى الأعلى، و يمارس قوّته على المستوى الأدنى منه، و كانت القوّة هي الأساس على مختلف المستويات . و على العكس من هذا، لا تهتم المنظمات التعدّدية الجديدة في المجتمع بالحكومة أو الحكم، إنّها مجرّد "عضو" في المجتمع، و نتائج جهدها تتمّ خارج الحكومة . "إنتاج" المشروع الإقتصادي يستهدف إرضاء المستهلك . و"إنتاج" المستشفى يستهدف علاج المرضى . و"إنتاج" المدرسة يستهدف الطالب، الذي سيسهم بعد عشرسنوات في مجال العمل، معتمداً على ما حصّله في المدرسة

خصائص التعدّدية الجديدة

التعدّدية الجديدة أكثر مرونة، و أقل إحداثاً للشقاق و الخلاف، من سابقتها . و المؤسّسات الجديدة لا تتعدّى على السلطة السياسيّة، أو تنتقص منها، كما كان الحال سابقا مع مؤسّسات التعدّدية القديمة، سواء جاء ذلك من جانب كنيسة العصور الوسطى أو بارونات الإقطاع . و على عكس ما كان حادثاً، لا تشترك المؤسّسات الجديدة في إهتماماتها، أو في رؤيتها للحياة
كل واحدة من مؤسّسات التعدّدية الجديدة تتمسّك بهدفها الخاص باعتباره أساساً لنشاطها، و قيمة نهائية لها، و الأمر الذي يهم أكثر من غيره . كل مؤسّسة جديدة من مؤسّسات التعدّدية، تتكلّم بلغتها، وتتمسّك بمعارفها الخاصّة، و سلّمها الوظيفي الخاص، و قبل هذا و ذاك قيمها الخاصّة . لا ترى أي منها نفسها مسئولة عن المجتمع ككل
ّ
الوضع الجديد للفرد

شبيه بهذا وضع الفرد . و هو بالمثل لا يتوافق مع مازالت تراه النظرية السياسية و الإجتماعية: الوضع العادي
يقول بيتر دراكر " خلال القرن التاسع عشر، كان هناك نموذجان متنافسان للمجتمع . الأول يرى المجتمع مكوّناً من من صغار المستقلّين : الفلاّح بقطعة أرضه و ماشـيته، وصاحب المتجـر الصغير و الحرفي . ومن الممكن أن
يتساوى هؤلاء . لا يحتكم أي منهم على نفوذ أو ثروة، و إن كان لا يعاني من الفقر المدقع أو الإعتماد على الغير . و قد صاغ توماس جيفرسون، في الولايات المتّحدة، هذا المفهوم بأكبر قدر من الوضوح، رغم وجود نظائر له في كل دولة أوروبية . و عندما توفي جيفرسون، عام1826، كان من الواضح للجميع أن المجتمع لا يمضي وفقاً لتصوّره ذلك .
و في النموذج الثاني، قامت المدينة الفاضـلة المضادّة، و التي وجدت التعبير النهائي و الأوضح لها على يد النبوءة الماركسية، حول مجتمـع يتكوّن من كتلة جماهيرية هائلة، من البلوريتاريّين المتساوين في فقرهم، و في خضوعهم للإستغلال، و في إعتمادهم على الحكومة

تعدّدية العمالة المعـرفيّة

لكن الذي حدث بعد ذلك جاء مغايراً، فلم تتحقّق أيّ من النبوءتين، نبوءة جيفرسون و نبوءة ماركس
. و الحق، أنّه لم بكن بإمكان أي أحد، قبل خمسينيّات و ستينيّات هذا القرن، أن يتخيّل مجتمعا من "العمّال المعرفيّين"، الذين لا يستغلّهم أحد، و لا هم يستغلّون أحد . الذين هم ليسوا رأسماليين كأفراد، لكنّهم كمجموعة يمتلكون أدوات إنتاجهم من خلال موارد معاشاتهم، و من مواردهم المتبادلة، و من إدخاراتهم . و هم يخضعون لتنظيم عملهم، و لكنّهم أيضا غالباً ما يكونوا رؤساء أنفسهم . هؤلاء العمّال، أو الموظّفين، يكونون مستقلين ، ومعتمدين على غيرهم في نفس الوقت . لديهم صلاحيات الحركة الحرّة، و لكنّهم أيضا يحتاجون إلى الدخول في تنظيم- بإعتبارهم (مستشارين) إن لم يكونوا موظّفين- لكي يكون لهم تأثيرهم

تحديات التعدّدية الجديدة

غالبا ما تتجاوز التعدّدية الجديدة الحدود الجغرافيّة
كان النشاط الإقتصادي الحر، هو الأول من بين تنظيمات التعدّدية الجديدة في تحقيقه ذلك . لقد إكتسب صفة "تعدد الجنسيات" منذ وقت مبكّر، في ستّينيّات و سبعينيّات القرن التاسع عشر . لكن العديد من المؤسّسات الأخرى بدأت تسلك نفس النهج، بشكل سريع . لقد فعلت ذلك مؤسّسات المحاسبة و المؤسّسات القانونية، و بالمثل المؤسّسات الإستشارية . حتّى الجامعات تصبح الآن " عابرة للجنسيّات". و هذا كلّه لا يتوافق مع النظريات السياسيّة التي ما زالت تسيطر على تفكيرنا، و على تعليمنا، و على تناولاتنا القانونية
و إذا ما إتّخذنا التاريخ هاديا لنا، فقد يقتضينا الأمر قرنا من الزمان، أو ما هو قريب من ذلك، قبل أن نصل إلى المبادئ القانونية و السياسية، التي تتّفق مع حقائق التعدّدية الجديدة . لكنّنا لا نستطيع الإنتظار حتّى ينتهي الفلاسفة من التفسير النظري لما حدث بالفعل . لقد أصبح من الضروري أن يبدأ السياسـيّون و المحاكم و رجال الأعمال و مديرو التنظيمات الجديدة عملهم و حركتهم..لكن هذا سيتم في مواجهة العديد من التحدّيات
لقد بدأت تظهر تحدّيات التعدّدية الجديدة في خمسة مجالات
أولا : المسئولية الإجتماعية لمؤسّسات التعدّدية
ثانيا : مسئولية المجتمع
ثالثا : المسئولية السياسيّة
رابعا : حقوق و مسئوليّات الفرد
خامسا : دور و وظيفة الحكومة في مجتمع التعدّدية

و إلى الرسالة التالية، لنستعرض المسئوليات الاجتماعبة و السياسية لهذه المؤسسات التعددية

No comments:

Post a Comment