Wednesday, January 27, 2010

مصر .. وغياب الرؤية

نهضة مصر (5 مايو2005 ) راجي عنايــت

الحكومة و المعارضة
وغياب الرؤية الضرورية للنجاح

لا أقصد بهذا إهانة أحد، أو النيل من كرامة حزب أو جماعة .. و أيضا، لا أعني به إدانتنا، كمصريين، بالفشل الحتمي الشامل .. كما أن هذه الأزمة ليست قاصرة على مصر وحدها ، فهي تنسحب بشكل أساسي على الدول النامية، بل و يكون أثرها واضحا أيضا على العديد من الدول الصناعية المتطورة . أحاول بهذا أن أدقّ جرس إنذار أخير ـ بحكم تقدّمي في العمر حاليا ـ لكنّي لم أتوقّف عن دقّه بإصرار على مدى ربع القرن المنصرم
لا أعتقد أن الحالة التي نمرّ بها هذه الأيام، و التي يطلق عليها البعض أوصاف الاحتقان و التأزّم، أو حالة ما قبل قرع الرؤوس، و نطاح الكباش، لا أعتقد أنها يمكن أن تقودنا إلى خير مصر، لا من جانب الحكومة، و لا من جانب المعارضة . لن يفيد مصر الدفاع عن الأوضاع التي وصلنا إليها، أو الهجوم عليها، و في نفس الوقت سيضرّ بنا أشد الضرر أن ننطلق في جهود إعادة بناء مصر بتوجيه من الإدارة الأمريكية، التي لا تستهدف سوى مصالحها الراهنة و القادمة
علينا أن نعترف بأننا نمضي في سبيلنا بلا بوصلة، لذا ترانا ندور و ندور و نعود إلى حيث كنا، و قد أصبحنا أكثر إجهادا و إملاقا

بين الحزب و الجمعية

لم أكف عن المطالبة بأن نتّفق على رؤية مستقبلية لمصر، قبل أن نقدم على فعل شيء، قد يزيدنا تخلّفا . شرحت ـ بالتفصيل الممل ـ لماذا نحتاج الآن إلى هذه الرؤية المستقبلية، أكثر من أي وقت مضى .. و تابعت جهود الإصلاح و التطوير و التخطيط، و عشرات المؤتمرات و الدوائر المستديرة، فلم أجد الفهم أو النية اللازمين لوضع إطار هذه الرؤية المستقبلية
حتّى في الجهد الأخير لما أطلق عليه تقرير لجنة السياسات بالحزب الوطني، التي يرأسها جمال مبـارك، لم نجده يصدر عن رؤية مستقبلية واضحة، رغم أن بداية لجنة السياسات هذه كانت تحت اسـم " حزب المستقبل " . و حتّى عندما حمل هذا في ثناياه تهديدا لتفرّد الحزب الوطني، تحوّر الكيان الجديد إلى جمعية أهلية، تحت اسم جمعية " جيل المستقبل ".. مع كلّ هذا الإصرار الواضح على الانتماء إلى المستقبل، لم يتمخّض جهد الجمعية أو اللجنة عن رؤية مستقبلية واضحة، تكشف عن فهم هذه المجموعة من خرّيجي الجامعات والبنوك الأجنبية لطبيعة الواقع الحالي لمصر، بشفافية و أمانة.. كما لم تظهر لنا فهمها للطبيعة المحدّدة لانتقال البشر من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات، و انعكاس ذلك على مجالات الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسـية، و ما يستوجبه هذا من اسـتراتيجية شاملة لإعادة بنـاء مصر، وفق أولويات يفرضها هدف التغيير، و إمكانات الحركة


ضرورة الرؤية المستقبلية

لماذا الآن ؟، لماذا تصبح الرؤية المستقبلية ضرورة ملحّة في الوقت الراهن ؟
أولا :لأننا نمرّ بمرحلة تحول حضاري كبرى، تؤثّر على الجنس البشري بأكمله، و تقود إلى تغيرات جذرية كبرى في جميع مجالات حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية، عند انتقالنا من حياة عصر الصناعة إلى حياة عصر المعلومات
ثانيا :و هذا يعني أن خبراتنا السابقة، و خبرات الآخرين، لم تعد تفيد في التعامل مع أوضاع اليوم، و مواجهة المشكلات المستجدة المترتبة على التحولات الكبرى التي نعيشها ..لم تعد تفيدنا معلومات وخبرات كبار الأساتذة الذين وقف علمهم عند حد معارف المجتمع الصناعي، و لم يجدوا في أنفسهم القدرة على التنازل عن المعارف التي بنوا عليها أمجادهم، رغم فقدان تلك المعارف لقيمتها، و انقضاء صلاحيتها
ثالثا :نحتاج التوصّل إلى منهج تفكير، يفيدنا في استنباط طبيعة الحياة القادمة في أعقاب ثورة المعلومات، و كيف أنها تختلف جذريا عن طبيعة الحياة التي عرفها العالم في عصر الصناعة، بل و تتناقض معها في أغلب الأحوال
رابعا : و بالاعتماد على مؤشّرات التغيير الكبرى و المتزايدة التأثير، و مع الاستفادة من طبيعة التحول الكبير السابق الذي مرّت به البشرية في انتقالها من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة . و مع فهمنا الأمين الصادق للواقع المصري، دون مواربة أو تدليس، نستطيع أن نرسي إطار الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر
خامسا : و من هذه الرؤية المستقبلية، القائمة على المعرفة الواضحة لطبيعة حياة البشر في مجتمع المعلومات، نستطيع أن نستنبط طبيعة التعليم الذي نستهدفه، و الذي يساعد على إعداد إنسان عصر المعلومات، المتوافق مع الحياة في مجتمع المعلومات . و سنكتشف أنه يختلف جذريا عن تعليم عصر الصناعة، حتّى و هو في أحسن صوره .. و سنكتشف أن المطلوب ليس هو التجويد أو التطوير أو الإصلاح، بل نحن في أشد الحاجة إلى إعادة بناء شاملة للمنظومة التعليمية
سادسا : و ما نقوله عن التعليم، ينسحب أيضا على الأسرة، و الاقتصاد، و الإدارة، و الممارسة الديموقراطية، و الإعلام، و الثقافة، و الأخلاق و القيم السائدة . و سنجد أن التغيرات الكبيرة في جميع هذه المجالات تنبع من نفس المبادئ و الأسس التي تقوم عليها الرؤية المستقبلية
سابعا : الرؤية المستقبلية الشاملة التي أتحدث عنها، تكون مفيدة في تحقيق التوافق بين الاستراتيجيات و الخطط و التطبيقات .. و تضمن للمكاسب أن تظل محتفظة بفائدتها، و لا تتناقض مع أوضاع مستجـدة، لم نعمل لها حسابا . هذا المنـهج في العمل هو الحـدّ الأدنى للجهـد المطلوب في إطار التغيرات الجذرية المتسارعة، و هو السبيل إلى أن تصبح جهود البناء متكاملة
غياب التفكير المستقبلي، و العجز عن العمل وفق رؤية مستقبلية، هو السر في حالة الضياع التي نعيشها، رغم تغيّر القيادات، و توالي الأجيال، و تعاقب الخطط، و تناسخ السـياسات

النقل، و الجهل، و المصالح

لماذا لم تثمر دعاوى المستقبل، التي تكفّل بها عدد من خيرة مثقفينا ؟ .. هناك عدة أسباب أهمها
التعليم السائد : على مدى القرن السابق، كان يرسّخ التلقين، و يضعف قدرات التفكير و الابتكار عند الدارسين .. فتغلّب النقل على العقل، و اقتصرت معظم معارفنا على حكمة الأسلاف . و لقد ساهمت الحكومات المتعاقبة في ترسيخ هذا التوجّه، بالوقوف في وجه كلّ فكر جديد
الجهل الذي أعنيه هنا: هو الجهل بأهمية التكنولوجيات الابتكارية ( مثل الآلة البخاريةسابقا و الكمبيوتر حاليا)، في إرساء النظم و الأسس المجتمعية الجديدة، و أيضا القيم و الأخلاق و العقائد الجديدة . الجهل بأن النظم التي عشنا في ظلّها على مدى القرنين الماضيين، لم تكن خاطئة، و كانت متماشية مع طبيعة المجتمع الصناعي .. لكنها لم تعد صالحة في ظل الأسس المجتمعية الجديدة لمجتمع المعلومات
و بالمصالح، أعني تناقض المصالح : تسارع المعلومات و المعارف، يسقط نظريات، بل و يقضى على علـوم بأكملها، ليفتح الباب لعلوم جديدة .. من هو أستاذ الاقتصاد بالجامعة ـ على سبيل المثال ـ الذي يمكن أن يوافقك على أن النظم الاقتصادية التي تعلمها، و يعلمها، قد انقضت صلاحيتها، و أن عليه أن يدرس من جديد ؟ . و من هو المستفيد من سلطة الحكم الذي يمكن أن يوافقك على الانتقال من المركزية إلى اللامركزية، على سبيل المثال أيضا ؟
هذا الكلام ينسحب على الحكومة و حزبها، و باقي الأحزاب الشرعية، و باقي قوى المعارضة الحالية، السلفية و الجديدة .. و يمكن أن يكون لهذا الحديث بقية، إذا سلمت النيّات، و انفتحت العقول

Wednesday, January 20, 2010

هل ينجح نداء تعزيز الشفافية ؟

عالم اليوم ـ 1997 ـ راجي عنايت
! .. أسطورة : حقّ الجمهور في أن يعرف


حقائق أمام الداعين لمشروع تعزيز الشفافية


ما الذي يجري ؟ .. هذا السؤال البسيط، يعتبر حقّا شرعيا لأي مواطن، خاصّة إذا كان في دولة تزعم أنها تتمسّك بالديموقراطية. لكن الواقع، على مستوى العالم أجمع، يقول أن معرفة حقيقة ما يجري ليس أمراً سهلاً في عالم اليوم، رغم أننا نعيش عصر وسائل الإعلام السريعة، أو الفورية إذا شئنا الدقّة . والسرّ في هذا ، هو ما يتم من مناورات و تكتيكات التلاعب بالمعلومات . حول هذا الموضوع، يقول الكاتب المستقبلي آلفن توفلر، في كتابه تحوّل القوّة : .. و مع احتلال المعرفة، بكل أشكالها، مكانة أكثر محورية في صراع القوّة، ومع تراكم البيانات و المعلومات و المعارف، و تدفّقها من أجهزة الكمبيوتر، تصبح(التكتيكات المعلوماتية) ذات دلالة متزايدة في حياتنا السياسية
و إلى أن نعيد النظر في أكثر إفتراضاتنا جوهرية حول الديمقراطية النيابية الجماهيرية، التي ابتدعها المجتمع الصناعي، و التي تعتمد على التمثيل السياسي و الأحزاب، و تسمح بممارسة هذه التكتيكات المعلوماتية.. سيظل الحديث عن" الحكومة الأمينة الصريحة"، و حول" المواطن القادر على الوصول إلى المعلومات"، وحول" حقّ الجمهور في أن يعرف"، سيظل هذا الحديث مجرّد لغو لا علاقة له بما يجري في الواقع

وثيقة ليندون جونسون

في 4يوليو من عام 1967، وقّع الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، في البيت الأبيض، وثيقة حول حرّية تداول المعلومات . و في حفل التوقيع، قال: تعتبر حرّية المعلومات شديدة الحيويّة، إلى حدّ أن التحفّظ عليها يجب ألاّ يتم إلاّ فيما يتّصل بالأمن القومي، و ليس لمجرّد رغبة الموظفين العموميين، أو بعض الأفراد من المواطنين
ما أن أنهى جونسون حديثه، حتّى سأله أحد المراسلين عمّا إذا كان بالإمكان حصوله على نسخة من النصّ الأصلي الذي إعتمد عليه في حديثه، و في ملاحظاته التي أبداها حول حرّية المعلومات . كان ذلك أوّل طلب يتلقّاه جونسون، إمتحانا لصدق أقواله حول حرّية المعلومات الجديدة، فلم يفعل سوى أن أبدى إستهجانه و تسخيفه لهذا الطلب
لقد مارس جونسون هنا تكتيك السرّية، و هو من أكثر التكتيكات شيوعا، في جميع الحكومات . أسهل شيئ على الحكومة، أي حكومة، أن تصف كلّ شيئ بأنّه(سرّي للغاية)، و أنّه من الأسرار العليا للدولة . وهذه السرّية هي السبيل لممارسة الحكم الغاشم و الفساد . و عملية التلاعب بالمعلومات و البيانات تتم على أربعة مستويات : مرسل الرسالة - القناة التي تسلكها- مستقبل الرسالة - مضمون الرسالة

المصدر غير المكشوف
وتوجيهات الرئيس

أوّل مجال لتدخّل اللاعب في صراع السلطة، هو مرسل الرسالة، أو المصدر . عندما يصل خطاب بالبريد، أوّل ما نطّلع عليه عادة هو مرسل الخطاب . ذلك لأن هويّة مرسل الخطاب تشكّل في واقع الأمر جانباً حيوياً من أيّ رسالة . فمعرفة المصدر، تساعدنا-على الأقل- في تقدير مدى المصداقية التي نوليها لهذه الرسالة . و هذا هو السرّ في كثرة استخدام الحكومات لما يطلق عليه : تكتيك المصدر غيرالمكشوف
و تغطية المصدر الحقيقي للرسالة قد يتخذ أشكالا عديدة . و يلعب المسئولون في مجالات العمل والحكومة تنويعات على هذه اللعبة . مثال ذلك، استخدام الشخص، صاحب الرتبة الأقل، إسم رئيسه لكي يحقّق مكسبا، و يضيف قوّة إلى كلامه . كأن يحرص المسئول على القول في كل مناسبة أن ما يفعله هو بتوجيهات من الرئيس .. و خير مثال لكثرة ترديد هذه الحيلة، هو ما كان يفعله وزير التعليم الأسبق حسين كامل بهاء الدين، فكان يختم حديثه دائما بعبارة : بفضل توجيهات السيد الرئيس

القنوات الخلفيّة
و الحرب العامية الثالثة

كلّ الرسائل تتحرّك عبر قنوات، إلاّ أن بعض هذه القنوات يختلف عن باقيها . و كلّ مسئول أو مدير يعرف أن القناة التي تحمل رسالته، هي التي تحدّد الشخص الذي سيتسلّمها، و من ثمّ يعتمد نفوذه في الحكومة أو المؤسّسة على ذلك . و من المعروف، أن عزل المسئول أو الموظّف عن القنوات، هو السبيل لإضعاف سلطته و نفوذه . و في كثير من الأحيان، يتعرّض لهذا العزل الشخص الذي يتربّع على قمّة الحكومة أو المؤسّسة
و من أشهر وقائع الإعتماد على تكتيك القنوات الخلفية، تلك الواقعة التي منعت قيام الحرب العالمية الثالثة . تمّ ذلك خلال أزمة الصواريخ الكوبية . كانت الرسائل تنطلق جيئة و ذهابا، بين الرئيس كينيدي وخروتشوف، بينما العالم يمسك أنفاسه، مترقّبا في خوف
كانت الصواريخ الروسـية في كوبا موجّهة إلى الأرض الأمريكية، فأمر كينيدي بحصار بحري لكوبا . في لحظة التوتر الشديد هذه، أرسل خروتشوف رئيس جهاز مخابراته إلى واشنطن، ليتّصل بالصحفي الأمريكي جون سكالي، الذي كان رجل المخابرات السوفييتي على معرفة سابقة به .
في اليوم الرابع للأزمة، مع تصاعد الخطر لحظة بلحظة، سأل الروسي ذلك الصحفي الأمريكي، عن رأيه فيما إذا كانت الولايات المتّحدة الأمريكية ستوافق على عدم غزو كوبا، إذا ما سحب السوفييت صواريخهم و قواعدها من كوبا . هذه الرسالة التي أوصلها الصحفي إلى البيت الأبيض، ثبت أنّها كانت مفتاح نقطة التحوّل في الأزمة
و من الأساليب الأكثر تعقيدا، ما يمكن أن نطلق عليه،"تكتيك القناة المزدوجة"، الذي يتضمّن إرسال رسالتين مختلفتين، قد تكونان متناقضتين، عبر قناتين مختلفتين ، لاختبار ردود الفعل، أو لبث الإرتباك بين مستقبلي هاتين الرسالتين . و أحدث مثال لهذا، ما يفعله بنيامين نتنياهو في مفاوضاته مع الفلسطينيين

التلاعب في استقبال الرسالة

بعد التلاعب في المعلومات على مستوى المصدر و القناة، نصل إلى التكتيكات المتّصلة بالشخص الذي يستقبل الرسالة، أو الطرف الآخر في عملية الإتّصال
تكتيك النفاذ، هو أكثرها شيوعا، يحاول فيه الشخص أن ينفذ إلى رئيسه، مستهدفا التحكّم في المعلومات التي يستمدّها من ذلك الرئيس . و هي حيلة يعرفها و يمارسها كبار المديرين، كما يمارسها صغار القائمين على أعمال السكرتارية
أمّا "تكتيك تخصيص المعلومات أو المعارف"، فهو الذي يشيع في أوساط أجهزة المخابرات، والحركات السرّية الإرهابية . و فيه يجري تخصيص مجموعة من البيانات و المعلومات و المعارف، و حجبها عن الجميع، باستثناء عدد محدود من المستقبلين، يتاح لهم التوصّل اليها
و هذا هو بالضبط عكس "تكتيك تخصيص عدم المعرفة"، و يفيد عدم وصول المعلومات إلى شخص معيّن، أو جهة معيّنة . و يشيع استخدام هذا التكتيك على يد الرجل الثاني في أي موقع، لحماية رئيسه، الذي يمكن أن ينكر معرفته بالموضوع، إذا ما ساءت الأمور
و من نفس الفصيلة، "تكتيك الإرغام على المعرفة"، أو حماية الظهر . و فيه يسعى الباحث عن القوّة أو السلطة إلى التأكّد من أن الشخص الآخر قد أعلم بالموضوع، بحيث يشركه في اللوم، إذا ما ساءت العواقب

! تنويعات الخداع، و خداع الذات

الكمّ الهائل من المعلومات الذي يتدفّق عبر العقول المفكرة في الحكومة أو المؤسسة يومياً، يخضع لما لا نهاية له من تنويعات الخداع، و خداع الذات، التي تستهدف جوهر الرسالة المنقولة و مضمونها . و قد أجرى آلفن توفلر حصرا طريفا لهذه التكتيكات، كالتالي
تكتيك الحذف : لأن الأمور السياسية غالبا ما تكون نقاشية و ذات أوجه، يجري إختيار الرسائل بطريقة واعية، مع الإعتماد على العديد من الثغرات، التي تتيح للشخص أن يطبّق هذا التكتيك، حاذفا الحقائق المضادة، أو التي تهدّد أهدافه
تكتيك التعميم : بإخفاء التفاصيل التي يمكن أن تقود إلى خلق معارضة سياسية أو بيروقراطية . والعلاقات الدبلوماسية حافلة باستخدامات هذا التكتيك
تكتيك التوقيت : بتأجيل تسليم الرسالة، حتّي يكون الوقت متأخرا لفعل أي شيئ من جانب المستقبل . وخير مثال لهذا ما تفعله الحكومة من تقديم مشاريع القوانين إلى مجلس الشعب في آخر جلسة من الدورة البرلمانية، لضمان تفويتها
تكتيك التنقيط : هنا يتمّ الإفراج عن البيانات قطرة بقطرة، على أوقات متباعدة، بدلا من جمعها في مستند واحد، بهدف تفتيت نسق الأحداث، و بحيث لا تبدو الأمور بالوضوح المطلوب لدى المستقبل
تكتيك الإغراق : عندما يشكو المسئول من أنه محروم من المعلومات المطلوبة لعمله، يعمد اللاعب الماكر إلى إغراقه بطوفان من الأوراق، يتوه فيها، و يصعب عليه استخلاص الحقائق من بينها
تكتيك الدخان : فيه يتمّ إطلاق سحابة من دخان الشائعات، تتضمّن بعض الحقائق، بحيث يصعب على المستقبل أن يميّز الحقيقي من الزائف
تكتيك الضربة المرتدّة : هنا، يتم زرع قصّة زائفة في دولة بعيدة أو مكان بعيد، بحيث يمكن إلتقاطها من هناك، و إعادة نشرها في الصحافة المحلّية . و هذا التكتيك تعتمد عليه كثيرا أجهزة المخابرات و وكالات الدعاية
تكتيك الكذبة الكبيرة : إكتسب هذا التكتيك شهرة واسعة على يدي جوزيف جوبلز، وزير دعاية أدولف هتلر. الفكرة في هذا التكتيك أن الكذبة إذا كانت كبيرة بدرجة كافية، يصبح الناس أميل إلى تقبّلها، بعكس حـالة العديد من الأكاذيب الصغيرة . من ذلك، التقرير الذي نشرته موسكو عام 1987، و الذي يتضمّن أن وباء الإيدز العالمي أطلقته من عقاله وكالة المخابرات الأمريكية، خلال تجاربها التي تجري في ميريلاند للحرب البيولوجية . و عندما تمّ كشف زيف هذه القصّة، سارع العلماء السوفييت إلى إستنكارها
تكتيك العكس : و يتمّ فيه عكس الرسالة لتعطي ما هو مضادّ لمضمونها الأصلي . و خير مثال لهذا، ما حدث في إسرائيل في وقت وزارة إسحق شامير، الذي كان الحب مفقوداً بينه و بين وزير خارجيته شيمون بيريز . ذات يوم أصدر شامير تعليماته إلى وزارة الخارجية، لكي تبلّغ سفاراتها في أنحاء العالم أن بيريز ليست له سلطة تنشيط جهود عقد مؤتمر دولي للسلام . تلقّي مكتب بيريز الرسالة، فألقيت ببساطة في سلّة المهملات، و جرى إرسال برقيّات إلى السفارات، تحمل عكس هذا التوجّه . عنما إستنكر أحد المسئولين بالخارجية هذا الإجراء، كانت إجابة مكتب بيريز: كيف تطرح مثل هذا؟ ..ألا تدري ؟، إنّها حرب

صراعات القوّة
و مذبحة الحقائق

الذي يمكن أن نأخذه مأخذ الجد من التصريحات و الرسائل، أو"الحقائق"، في الحياة الحكومية أو السياسية، هو أقل القليل . بل لا يكاد يوجد في هذا المجال ما هو خال من تأثيرات صراع القوّة
معظم البيانات و المعلومات و المعارف، التي تتدفّق في أروقة الحكومة و مكاتبها، تخضع لدرجة عالية من المعالجة السياسية . لو تساءلنا : لمصلحة من تتمّ هذه المعالجة و هذا التحوير و التبديل ؟، فإننا لن نصـل إلى الإجابة الصحيحة عن هذا التساؤل، سنظل غير قادرين على الغوص إلى الحقائق الكامنة خلفها
بالطبع، يحدث هذا قبل ان تبدأ وسائل الإعلام عملياتها التالية، في إعادة صياغة "الحقائق المحرّفة"، بحيث تتّفق مع متطلّباتها . فالرسالة الإعلامية، في جميع وسائل الإعلام المقروء و المسموع و المرئي، تحمل المزيد من : تحريف الحقائق

الذي لا يعرفه المسئولون

عواقب هذا الذي تحدثنا عنه، تنصبّ على جوهر العلاقة بين الديمقراطية و المعرفة
فالشرط المسبق للممارسة الديموقراطية، هو أن يكون الجمهورعارفاً، مزوّداً بالمعلومات و الحقائق . وما تقوم به الحكومة و الأحزاب من مناورات و تكتيكات معلوماتية، يجعل الجمهور غير قادر على ممارسة الديموقراطية الحقّة
إن ما استعرضناه في هذا المجال، لا يشكّل سوى القليل من الحيل و الخدع التي يمارسها السياسيون والمسئولون في جميع عواصم العالم . فالأذكياء من السياسيين و البيروقراطيين، يعلمون أن البيانات والمعـلومات والمعارف عبارة عن أسلحة قتالية، مشحونة بالذخيرة، متأهّبة للإنطلاق، على أرض صراعات القوّة، التي تشكّل جوهر الحياة السياسية
لكن، الذي لا يعرفه معظم المسئولين و السياسيين، هو أن كلّ هذه الألاعيب و الحيل، لاتخرج حاليا عن كونها عبث أطفال . فالصراع على القوّة و النفوذ تتغيّر طبيعته و آليّاته بدخولنا إلى مجتمع المعلومات، حيث السبيل الرئيسي للقوّة، هو الوصول إلى معارف عن المعارف الشائعة

Wednesday, January 13, 2010

الأعلام السوداء

نهضة مصر – الثلاثاء 6/12/2005 – راجي عنايــت

!! ..ما كلّ هذا الانحطاط السياسي ؟

من عجائب الإعلام المصري الرسمي العاجز، ظهور د. أسامة الباز، بصوته الغريب، ليقول أن الرئيس حسني مبارك ليس فرعـونا و لا يريد أن يحكم مصر طوال حياته .. و نحن نتساءل :" بأمارة إيه ؟!" .. نظامنا الحاكم لا يتعلّم، و لا يفهم الدرس تلو الآخر .. بل إنه لا يدرك أن الدروس قد انتهت
منذ زمن، توقّفت عن قراءة الصحافة الحكومية، لأسباب صحيّة متصلة بمستوى ضغط الدم بعد الأزمة القلبية التي أصبت بها، و اكتفينا بالأهرام لحرص زوجتي على متابعة صفحات الوفيات . كذلك امتنعت تماما عن مشاهدة القنوات التلفزيونية الحكومية، لنفس الأسباب السابقة، و اكتفيت بمصادر الأخبار العالمية، و بعض القنوات الخاصّة و العربية، الخالية من الفحش الإعلامي
و لكن .. بعد أن ضغطت أمريكا على النظام بشكل جاد، و أظهرت له العين الحمراء، مدّ حسني مبارك يده برفق مزحزحا المادة 76 من الدستور . و رغم مبادرة كبار كهنة النظام، و سعيهم الناجح إلى إخلاء الحركة من مضمونها، ظنّا منهم أنّهم بذلك قد نجحوا في الضحك على الأمريكان، دون يعيروا أهمية للرفض المصري الواسع لتدبيرهم .. مجرّد أن امتدت يد حسني مبارك إلى تلك المادة، و رغم الجهد غير المبارك من كهنة النظام، بدأ الانهيار المتلاحق للأوضاع السياسية في مصر .. انهيار لم تستطع أن توقفه جميع جهود الحرس القديم و الجديد معا .. فتبددت جميع الخطوط الحمراء الشهيرة

رأي الشعب في النظام

قاد إصرار النظام على مواصلة تصرفاته غير الذكية، أن وافق الشعب على التدخّل الأمريكي، رغم كراهيته العميقة لأمريكا و حكومتها .. و أن رفض ـ بقدر استطاعته ـ معظم من تقدّم بهم الحزب الوطني للانتخابات الحالية .. بل و رفض الأحزاب الهزيلة التي تفتّق عنها ذهن السـادات في (جلسة من جلسات الرواقة ) .. شيء إلى اليمين، و شيء إلى اليسار، و شيء فوق و شيء تحت ..
رفض الشعب كل الزيف السياسي الذي خطط له السادات، و بخطوة انتحارية ـ أرغم عليها ـ أعطى أصواته لجماعة الإخوان المسلمون ! ..بالمناسبة : تحديدا لموقفي .. لقد أعلنت في مقال الأسبوع الماضي الأسباب الموضوعية لرفضي حكم الإخوان، و اعتبار أنهم يشكّلون الخطر الأكبر على مستقبل مصر
و لو أن النظام الحاكم لم يستخدم جميع الممارسات السياسية و الأمنية القذرة، التي عرفتها الأنظمة الشمولية، من اعتقال و تزوير و ضغوط على ضعاف النفوس من القضاء الجالس و الواقف، و الذي ينتظر الثمن على ركبة و نصف .. لو لم يقم النظام بهذه الأعمال المشينة، لحصل الإخوان المسلمون على أغلبية مقاعد المجلس القادم، و ليس فقط ما يزيد عن ثلثها
! و الدكتور فاروق الباز

و كأننا لم تكفنا أقوال أسامة الباز، طلع علينا شقيقه د. فاروق الباز بتصريحات لجريدة " المصري اليوم " التي أستعيض بها عن الجرائد الحكومية .. فما الذي قاله العالم الجليل ؟
أولا : أشاد بالضغوط الخارجية، و اعتبرها سببا رئيسيا في إحداث تحسّن في مسار الحياة السياسية، و أفكار المصريين و الأجواء السائدة ... ولتصحيح هذا نقول أن هذا التدخّل أرغم القيادة على قبول ما كانت ترفضه، لكنه ليس السبب الرئيسي في تحسّن أفكار المصريين، باعتبار أن أفكار المصريين هي التي شجعت أمريكا على استكمال الضغط الداخلي بضغطها الخارجي
ثانيا : و أن رفض الإصلاح من الخارج يعطي انطباعا بأن هناك خللا في المجتمع المصري .. فالتغيير هو سنّة الحياة . و لتصحيح هذا نقول أن الخلل كان في الحكومة و حزبها أساسا
ثالثا : قال، من يتحدّث عن الضغوط الخارجية لا يثق في نفسه (!)، مطالبا بأن نكفّ عن الحديث عن الضغوط الخارجية . و القول أنهم سيغيرون ديننا مقولة غير مقبولة ... وهذا دفاع رخيص عن التدخّل الأمريكي في دول العالم، كما أن أحدا لم يقل أن أمريكا تريد تغيير ديننا .. نحن نعرف جيّدا أنها تريد ضمان استقرار المنطقة بأي ثمن، حتّى تضمن تدفّق البترول عليها بالسعر الذي يناسبها، و لتذهب شعوب الشرق الأوسط إلى الجحيم بعد ذلك . أنصح د. فارق بالرجوع إلى مطبوعات "راند" التابعة للبنتاجون الأمريكي، حتّى يفهم هذه الحقيقة
رابعا : انتقد منهج الإخوان المسلمين الحالي و إقحام الدين في السياسة ... و نحن نتّفق معه تماما في هذا، لكن ماذا نفعل في هذا النظام الغبي، الذي لا يريد أن يفهم، و الذي جعل الشعب على استعداد للارتماء في أحضان الشيطان، إذا كان هذا هو ثمن التخلّص منه
خامسا : إن نجاح الإخوان في الانتخابات البرلمانية جاء لعدة أسباب منها رغبة بعض المواطنين أن تقول لا للحزب الوطني، فاختاروهم ... سلّم زندك ! .. و هذا هو ما يقوله الجميع يا دكتور
سادسا : الإخوان المسلمون جماعة منظّمة، واثقة من قدرتها، تملك الشجاعة و تعرف ما تريد و ما يجب عليها فعله لكي تصل إلى أهدافها .. و باقي الأحزاب السياسية و المرشّحين لا يملكون هذه الميزات، و يتحدّثون فقط عن التغيير، دون أن يوضّحوا ما هو المقصود بالتغيير ... و هذا هو ما نقوله دائما، دون أن ندبّج قصائد الغزل هذه في الإخوان، بالإضافة إلى أن التغيير الذي ينادون به، تغيير إلى الوراء

كراهية الوطني .. لماذا ؟

يرجع د. فاروق الباز صعود الإخوان إلى رغبة المواطنين في قول " لا " للحزب الوطني .. لكنه لم يقل لنا لماذا هذه الكراهية الشاملة للحزب الوطني و قيادتة و حكوماته .. كراهية لا يشعر بها المنتفعون و اللصوص، و الإعلاميون الحكوميون من فئة الخدم السايرة
لقد قال أن الحزب الوطني و باقي الأحزاب : لا تثق في نفسها، و لا تملك الشجاعة، و لا تعرف ماذا تريد، و ما يجب عليها فعله لكي تصل إلى أهدافها .. و هذا قد ينسحب على باقي الأحزاب الشكلية التي اخترعها السادات .. و رغم انسحابه أيضا على الحزب الوطني، إلاّ أن مصيبة الحزب الوطني أكبر بكثير ..أنا قد أرفض الحزب الناصري أو حزب التجمّع أو حزب الوفد، لكنّي لا أكره أي منها .. فالكراهية قاصرة فقط على الحزب الوطني، بفضل ممارساته و أفعاله على مدى العقود


! الدبة قتلت صاحبها

الإعلام المصري الحكومي، صحافة و إذاعة و تلفزيون، هو الدبّة التي قتلت صاحبها
كنت أتصوّر أنّه بعد انتهاء المرحلتين الأولى و الثانية من مراحل الانتخابات البرلمانية، و خيبة أمل الحزب الوطني في كوادره و براعمه، أن تفيق قيادته من أحلامها، و تعيد النظر في السياسات الخاطئة التي التزمت بها.. و أن تخفّف من استخدامها لسلطاتها الغاشمة غير الشرعية، التي جلبت لها كراهية الأغلبية الناطقة و الصامتة
لكن الذي حدث هو العكس .. لقد بدأ النظام يتصرّف و كأن بينه و بين الشـعب المصري "تار بايت" ! .. و بدأ الطاقم الجديد من قيادات الصحافة الحكومية كفاحه المستميت لإثبات أنّه لا يقل عن الطاقم القديم قدرة على التهليل و التطبيل و إطلاق الأكاذيب .. و على ممارسة البجاحة الإعلامية
التلفزيون الذي تباهى بحياده في معركة الرئاسة المضمونة سلفا، فقد أعصابه عندما رجحت كفّة الإخوان المسلمين في المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية، و أدار وصلات (ردح ) رسمي في برامجه الحوارية، كان من نتيجتها استفزاز الناخبين، و إصرارهم على إنجاح المزيد من مرشّحي الإخوان في المرحلة الثانية .. و هبط التلفزيون إلى حضيض الفجاجة في برنامج حواري غليظ، كان من الممكن أن يضاعف مكاسب الإخوان، لولا الإجراءات الأمنية الاستثنائية في المرحلة الثالثة .. و التي كشفت عورة النظام على مختلف الأصعدة العربية و العالمية، و جعلتنا ملطشة للجميع

* * *
لا أجد ما أقوله لقيادات النظام الحاكم سوى : أفيقوا يرحمكم و يرحمنا الله .. و انتبهوا إلى المنزلق الذي تستدرجون إليه شعب مصر .. ففي حالتنا، لن ترتفع الأعلام البرتقالية كما حدث في أوكرانيا .. ذلك لأن الأعلام عندنا ستكون على الأرجح سوداء

Wednesday, January 6, 2010

مستقبل مصر

نهضة مصر ( الخميس 19 مايو2005 ) راجي عنايــت

أزمة الحكم في مصر
! بين الرؤية المستقبلية .. و فيل العميان الستّة

هل تذكرون قصة العميان الستّة، الذين التقوا بالفيل لأوّل مرّة في حياتهم، و حاول كلّ واحد منهم أن يصف ذلك الشيء الغريب . الذي أمسك بساقه، قال أنه أشبه بالعمود الضخم .. و الذي أمسك بإذنه، قال أنه رقيق مفلطح .. و الذي أمسك بزلومه، قال أنه يشبه الثعبان .. أمّا الذي أمسك بذيله، فقد أصرّ على أنه يشبه الحبل .. حكومتنا و أحزابنا جميعا بلا ، و الغالبية العظمى ممّن يتصدّون لإبداء الرأي و الإفتاء عندنا، يفعلون ما فعله هؤلاء العميان الستة في وصف الأوضاع المستجدّة المتغيرة، و التعامل معها، في غياب الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر .. تكمن أهمية الرؤية المستقبلية، في أنها بمثابة البصر الثاقب بالنسبة للعميان الستّة
ليست هذه نكتة طريفة نبتسم أو نضحك لها .. إنّها حقيقة مريرة، علينا أن نتجرّعها بشجاعة، إذا كنّا ننوي فعلا أن نرى أمرا في أوضاعنا المتردية الحالية، التي ساعدت ضغوط التغيير المتزايدة على كشف عوراتها . ضغوط التغيير المتصاعدة غير المسبوقة، و التي لا مهرب لنا منهاــ لأنّها تنسحب على الجنس البشري بأكمله ــ لا يمكن أن نتعامل معها بأدواتنا التقليدية التي انقضت صلاحيتها منذ زمن طويل . و لن نتوصّل إلى أدوات التعامل الجديدة، إلاّ عبر رؤية مستقبلية شاملة، تدخل في اعتبارها المسار المستقبلي للجنس البشري، و الواقع الحقيقي لمصر، دون تزييف أو أكاذيب
سكت دهرا، و نطق كفرا

كثر التساؤل في الشهرين الأخيرين : أين الحزب الوطني ؟ .. الأحداث تتسارع، و الأصوات التي طال صمتها تصرخ بأعلى ما عندها، و الخطوط الحمـراء التقليدية أصبح تجاوزها رياضـة يومية أشبه بنط الحبل .. و الإعلام العالمي يضع هذا في صدر نشراته، مبالغا في أغلب الأحيان، و شامتا في بعضها .. كل هذا و الحزب الوطني يستقرّ ساكنا في مقاعد المتفرجين، مذهولا في أغلب الظن
ثم تحرّك الحزب الوطني .. و يا ليته ما تحرّك
فعل ما اعتاد فعله من قبل لخدمة النظام، و تغطية الأخطاء، ناسيا أن الزمن غير الزمن، و أن الحال غير الحال .. إذا اعتاد المعارضون الوقوف على درج نقابة الصحفيين، أرسل من يسبقهم إلى ذلك .. جمع من الفتوات من قد يصلحوا لخناقة في بولاق .. و عندما رفعت بعض المظاهرات شعار " كفاية "، تفتّق ذهن أحد خبراء ال( ديرتي ويرك ) عن شعار " مش كفـاية "، و هو شعار يعكس حالة مرضية من التلذذ بتعذيب الذات .. واضح أن أقطاب الحزب الوطني، القدامى و الجدد، لم يفهموا بعد طبيعة الذي يحدث في مصر، و في العالم من حولهم

! من مصر ..إلى الوطني

و الحق، أنه من الظلم أن نطالب الحزب الوطني بفهم طبيعة ما يحدث في مصر و في العالم، أو أن يتصدّى لمهمة وضع رؤية مستقبلية شاملة لمصر . يتّضح هذا إذا ما رجعنا بالذاكرة إلى الوراء، لنري الطريقة التي تشكّل بها الحزب الوطني، و نوع الذين تدافعوا لعضويته . نتذكّر التصوّر الساذج للرئيس السادات، بإمكان ( فبركة ) أجنحة سياسية مصطنعة .. يسار و يمين، يستقرّ هو بينهما على رأس حزب وسطي، أطلق عليه اسم حزب مصر، الذي تدافع الباحثون عن مصالحهم من خلال الالتصاق بالسلطة، و انضمّوا لحزب مصر.. ثم، بحركة بهلوانية قفز السادات ـ لا أذكر لماذا ـ مبتعدا عن حزب مصر، و مؤسسا الحزب الوطني .. فما كان من جماهير حزب مصر أن تدافعت خلفه سعيا وراء مصالحها
بالطبع، سارعت الفئة الجاهزة دائما من محترفي السياسة و العلوم السياسية ( من عينة صفر الألمبياد )، فدبّجت الصفحات عن فكر و آراء الحزب الجديد .. لكن بقيت الحقيقة الأساسية، و التي تقول أن أسباب إنشاء الحزب، و الطريقة التي تكوّن بها، و الأهداف الرئيسية لأعضائه، لا يمكن أن تتيح له الفكر أو الآراء التي تسمح بأن يتوصّل إلى الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر، التي أدعو إليها

! المناورة المأساوية

و غياب الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر، لا يقتصر على الحزب الوطني، بل ينسحب على جميع الأحزاب التي تشكّلت مع الحزب الوطني و بعده .. و ينسحب أساسا على التيار الإسلامي الذي سخن بدنه نتيجة للتحرّش الذي قامت به الدكتورة كونداليزا
لقد أراد السادات أن يطمئن الولايات المتحدة إلى عزمه التحوّل عن سياسات عبد الناصر 180 درجة، و أن يقضي على بقايا نفوذ من أسماهم بمراكز القوى، فقام بمناورته الخائبة، التي كانت لها نهايتها المأساوية، عليه و علينا ! . لقد تفتّق ذهنه عن فكرة ضرب اليسار داخل الجامعة، بالتنسيق مع التيارات الإسلامية داخلها .. و بدأت المأساة التي لم نتخلّص منها حتّى الآن
و اليوم، تطل علينا جماعة الإخوان المسلمين كقوّة سياسية تتحدّى النظام الحاكم . و هي بالقطع قوّة تنظيمية، و رصيد جماهيري، لا يطمح إليهما الحزب الوطني
المشكلة مع التيار الإسلامي، أنه ليست له أي صلة بالرؤية المستقبلية، أو بأي فكر مستقبلي، لأنّه بطبيعته يتناقض مع التفكير الابتكاري الضروري للوصول إلى الرؤية المستقبلية . التيار الإسلامي، بجميع فصائله، السلمية و الدموية، لا يعرف شيئا عن الاقتصاد الجديد الذي يأتي به مجتمع المعلومات، أو الإدارة الجديدة، أو نوع الممارسة السياسية، أو النظام التعليمي .. لم أسمع لأي واحد منهم رأيا أو موقفا، في أي من هذه الأمور، التي يقوم عليها أي جهد لتصوّر الرؤية المستقبلية لمصر
الخلاصة، أن التيار الإسلامي، ليست لديه أية صلة بمستقبل مصر، فكيف يتصوّر أن يحكمها ؟

..اليسار التاريخي

نأتي بعد ذلك إلى حزب التجمّع، الذي يفترض فيه أن يمثّل اليسار التاريخي . و لكي نفهم ضرورة إضافة وصف " التاريخي "، نقول أن لفظ اليسار الآن لم يعد ينسحب على أنصار الماركسية، كما كان الأمر فيما قبل دخولنا إلى عصر المعلومات . لغة العصر الجديد تقول أن اليساري هو كل من يعتقد بضرورة تغليب المبادئ الأساسية لمجتمع المعلومات، و يسعى جاهدا لتطبيقها .. أمّا الرجعي أو اليميني، فهو كل من لا يزال ـ نتيجة لتخلّف فكري أو حفاظا على المصالح ـ يتشبّث بأوضاع المجتمع الصناعي، أو الزراعي، و يرفض أن يتقبّل التغيرات الضرورية التي تتّصل بعصر المعلومات
و بعيدا عن الشعارات العامة، التي نتبنّاها جميعا، مثل تخليص الفقراء من فقرهم، من خلال التدريب و التأهيل و توفير فرص العمل، و احترام إنسانية العامل، إلى آخر ذلك، لم يعد لدى المتمسكين بالنظرية الماركسية ما يتيح لهم وضع رؤية مستقبلية شاملة، في عصرنا هذا
و السبب بسيط جدا، فالاشتراكية و الرأسمالية ـ معا ـ طريقتان مختلفتان للتعامل مع واقع عصر الصناعة، و مع اقتصاد مجتمع الصناعة .. و هما ـ معا ـ لا يصلحان للتعامل مع واقع عصر المعلومات، أو مع اقتصاد مجتمع المعلومات، الذي يختلف جذريا عن اقتصاد مجتمع الصناعة . و بالمناسبة، هذا يعني أننا لا نعيش انحسار النظريات الاشتراكية التقليدية، بل نعيش أيضا انحسار النظريات الرأسمالية التقليدية

!الوفد .. و خلافه

و ماذا بقي من أحزاب مصر ؟! . الوفد ؟ .. ماذا يمثّل ؟، و ما هو فكره ؟، هل ما زال يمثّل البرجوازية المصرية ؟ و أين هي الآن ؟ .. هذا حزب منتزع من سياق التاريخ المصري، كان في زمنه يمثّل فكرا معينا، و طبقة معينة، و أهدافا معينة، كلها غير موجودة في الواقع الحالي .. إنه أقرب ما يكون إلى ما يطلق عليه " نستولجيا "، لكنه غير قادر، بحكم تاريخه و ظروفه الراهنة، على أن يرسي أساس رؤية مستقبلية شاملة لمصر
و ماذا أيضا ؟، حزب العمل، الذي لم أعرف له هوية حتّى الآن، هل له صلة بالعمل و العمال، أم أنّه فصيل آخر من التيار الإسلامي ؟ .. لم نسمع أنه طرح يوما برنامجا له، يقوم على تصوّره الخاص لمستقبل مصر .. كلّ ما سمعناه صراعات بين قيادته ـ كما يقال ـ على مقاعد فوق سطح التيتانيك الغارقة

* * *

أشعر أن الفوران الحالي في مصر، يصلح أن يحدث هزّة في الوعي المصري، تتيح ظهور أنواع جديدة من النشاط ــ ليس أحزابا ــ تكون لديها القدرة على التفكير في مستقبل مصر .. أمّا الأحزاب الحالية، بما في ذلك الحزب الوطني الديموقراطي، فالأفضل أن تخدمنا و تنقرض