Thursday, December 31, 2009

مستقبل مصر

مقال لم ينشر سابق لفضيحة تعديل الدستور


دستور بلا مستقبل !.. هل هذا ممكن ؟
..دعـوة إلى التوقـّف عن العبـث بالدســتور
و ترك أمره إلى جمعية عمومية من الشعب المصري


الدستور .. بين التراضي و الأمل


هل يمكن أن يتّفق الجميع : مفكّرون، و جامعيون، و رجال سياسة، و إعلاميون..قضاة و خبراء قانون دستوري .. رئاسة، ومجلس شعب و شوري، و حكومة، و حزب وطني، و أيضا أمانة سياسات .. أن يتّفق هؤلاء جميعا على إمكان التفكير في تعديل الدستور، وفقا للمصالح القريبة، في غياب أدنى فكرة عن مستقبل البشر فوق أرض مصر، على مدى 25سنة على الأقل ؟! .. و دون أن نحاول التعرّف على طبيعة النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية لمجتمع المعلومات التي يتصاعد تطبيقها، و التي سيتعامل معها الدستور، و يرسم حياة الشعب المصري من خلالها ؟
لقد كنّا نعترض على مجرّد التفكير في استراتيجية أو خطّة ما، لا تستند إلى رؤية مستقبلية لمصر، تدخل في اعتبارها التحولات التي تطرأ على حياة البشر، مع زحف مجتمع المعلومات، و أثر ذلك على الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية في مصر .. فما بالكم بالدستور الذي يفترض فيه أن يحكم مختلف الخطط و الاستراتيجيات ؟

مرجعيات فقدت صلاحيتها

المشكلة الحقيقية التي تواجهنا في كل ما نفكّر فيه ـ و إعادة صياغة الدستور من بين ذلك ـ هي أنّه حتّى عندما نحاول أن نتناسى المصالح الضيّقة لكل منّا، يكون اعتمادنا على مرجعيات تاريخية فقدت صلاحية التعامل مع الواقع الحالي ..كما أن النقيصة الكبرى في حياتنا، و التي تعوق قدرتنا على إرساء أسس رؤية مستقبلية لمصر، هي غياب منهج التفكير العلمي المعاصر .. المنهج العلمي، الذي يحل إشكالية تضارب الأحلام و الأماني مع الواقع . و الذي يساعدنا على التوصّل إلى رؤية مستقبلية طموحة، و واقعية في نفس الوقت .. و أدوات هذا التفكير العلمي المعاصرة، مثل التفكير الناقد، و التفكير الابتكاري


نحو دستور .. له مستقبل

الدستور، يجب أن يلبّي مطلبين : التراضي و الأمل
أولا : التراضي = قبول من جانب الأغلبية، و ضمان دعمها لتطبيقه ◄ و الوصول إليه يكون بالممارسة الديموقراطية الأمينة، و تعميم الجدل البنّاء = مما يعني الاستفادة من تجارب الماضي و الحاضر
ثانيا : الأمل = الطموح، و الحلم بمستقبل أفضل◄ و الوصول إليه يكون عن طريق رؤية مستقبلية شاملة لمصر = مما يعني رصد وفهم مرحلة التحولات الحالية المتلاحقة، و إدراك العلاقات المتبادلة بين هذه التحوّلات، للتعرّف على القوانين التي تحكم انتقالنا من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات . على أمل الاسـتفادة من اندفاع تيار التطور البشري الذي يعمّ العالم

السؤال الذي يطرح نفسه هنا

هل هذا ممكن ؟.. هل نستطيع في مصر أن نلتزم بهذه الجدية عند التفكير في الدستور الذي نطمح إليه، في الفترة المحدودة، و الظروف الخاصّة، التي فرضها النظام الحاكم ؟
الإجابة الأكيدة هي : لا .. لا يمكن
و الحل ؟ :هو الإجماع على ترك الدستور الحالي على حاله، بعيدا عن عبث النظام الحاكم و رجاله و لجانه .. و تأجيل عملية تعديل الدستور برمّتها .. فما يضير أن نتحمّل سنوات معدودة ما فرض علينا للعديد من العقود ؟
على أن نبدأ من الآن، في سنوات التحمّل هذه، جهدا جادا لتكوين كيان جديد ـ بعيدا عن الأحزاب الحالية فاقدة المرجعية ـ أشبه بجمعية عمومية للشعب المصري، تفكّر في دستور مصري جديد يحقق ما أشرنا إليه من : التراضي و الأمل

راجي عنايـت





Friday, December 25, 2009

و الله أعلم ..

عالم اليوم – يناير2005 ـ راجي عنايت


من 2004 إلى 2009
! يا قلبي لا تحزن

هذا المقال نشر في نهاية عام 2004
استعراضا لحصاده، و استشرافا لعام 2005
! و ما أشبه الليلة بالبارحة


ما هو الحصاد الحقيقي لعام 2004 ؟ .. رغم أن تعبير " حصاد " قد يرفضه البعض، نتيجة لما يوحي به من إيجابية ما تحقّق في 2004، فأنا أقبـله، و أقبل ما فيه من إيحاء، فالذي حـدث في عام 2004 ـ بكل ما تضمّنه من حروب و خراب و دسائس و فواجع ـ يعتبر من الأمور الإيجابية، لأنّه يضعنا وجها لوجه مع حقيقة أوضاعنا، و أوضاع العالم من حولنا .. و المواجهة الصادقة ـ بكل آلامها ـ هي الخطوة الأولى نحو إعادة التفكير، و تصحيح المسارات
سأحاول فيما يلي تطبيق ذلك على الأوضاع العالمية، و العربية، و المصرية


في الأوضاع العالمية


أولا : انكشاف الأهداف الأمريكية
من أهم الإنجازات، انكشاف الأهداف الحقيقية للإدارة الأمريكية، أمام الشعب الأمريكي و باقي شعوب العالم، و عدم اقتصار ذلك على النخبة من المفكّرين . و يرجع الفضل في ذلك إلى كتيبة الرجعيين الجدد، بأغلبيتها اليهودية، و بتبعيتها ـ أو عبوديتها ـ لرؤوس أموال السلاح و البترول و المقاولات في الولايات المتحدة . لقد ساعدت منشورات ما يطلق عليه المحافظين الجدد، أو رابطة المسيحية الصهيونية، في كشف سوء نيّة الإدارة الأمريكية بالنسبة لشعوب العالم جميعا، بما في ذلك أصدقاء و حلفاء أمريكا
ثانيا : الإحساس المرضي بالقوّة
الإحساس المرضي بالقوّة، الذي يعكسه موقف جورج بوش، و محاولة تهميش الأمم المتحدة، ساعد على تكافل العديد من الدول دفاعا عنها، و ألحاق الهزائم المتعددة بخطط بوش تجاهها . كما قاد انفراد الولايات المتحدة بقرارات الحرب و العدوان إلى تدعيم العلاقات الأوربية من ناحية، و خلق محاولات جديدة لدعم العلاقات في جبهة الصين ـ روسيا
ثالثا : بلير و التبعية الكلبية
خيبة الأمل المتكررة، التي لاحقت توني بلير، نتيجة لتبعيته الكلبية لبوش، أقنعت بريطانيا و باقي حلفاء الولايات المتحدة ـ كأسبانيا ـ بخطورة التحالف مع الإدارة الأمريكية التي بدت فاقدة لصوابها، و التضحية بالمكاسب المتوقّعة من ذلك التحالف، إبراء للذمّة و هربا من الانجراف إلى دوامة الفشل الأمريكي، التي تجلّت بشائرها
رابعا : إنحسار نفوذ جبهة الرجعية الجديدة
لقد بدأ انحسار تكتّل جبهة الرجعية الجديدة، نتيجة لإحساس الحكّام الحقيقيين للولايات المتحدة، من كبار صناع السلاح، و تجار النفط، و أباطرة المقاولات، بضروب الفشل المتكررة التي نتجت عن السير خلف استراتيجياتها، و باحتمال انهيار النظام " البلوتوقرطي " الذي يتحكّمون بفضله في مقدّرات الشعب الأمريكي

خامسا : تناحر القيادات الفكرية للمحافظين الجدد
كما بدأ انسحاب عناصر الفكر من جبهة المحافظين الجدد، و كان أوّل المنسحبين هو واحد من أشهر منظّريها، هو فرانسيس فوكوياما صاحب الكتاب الشهير " نهاية التاريخ " . ظهر هذا من المعركة المحتدمة الدائرة بينه و بين قطب كبير من المحافظين الجدد هو تشارلز كراوتهامر، و التي ثارت بعد إعلان فوكوياما معارضته لحرب العراق، و عزمه على عدم انتخاب بوش للرئاسة الثانية
سادسا : صحوة الإنترنيت
رغم الكوردون المحكم الذي نصبه الحكّام الحقيقيين لأمريكا ( كبار الأثرياء ) لعقول أبناء الشعب الأمريكي، متمثلا في فوكس بكل نشاطاتها الإعلامية، و محطة ( سي إن إن ) الشهيرة بمغالطاتها، و آلاف البرامج التلفزيونية و الأفلام و المسرحيات و الكتب التي يمتلكها هؤلاء الحكّام، و التي تستهدف بكلّ قوّتها غسل مخ الشعب الأمريكي .. رغم كل ذلك، فقد بدأت صحوة حقيقية في الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق الإنترنيت . و رغم حرص الإدارة الأمريكية على الإقلال من تأثير هذا القادم الجديد، و زعم ضعف تأثيره، فقد كشفت قياسات الرأي العام في أمريكا، أن قدرة الإنترنيت، قد تجاوزت قدرة الجبهة الرجعية، من ناحية كسب الجمهور الأمريكي في كثير من الشئون
سابعا : انقلاب بوش على نفسه
رغم ما يبديه بوش من المزيد من عناد التيوس، سواء في محاولاته لتغيير طاقم الولاية الثانية، أو في تمسّكه غير المبرر برامسفيلد رغم سقطاته المتكررة، و إصراره على أكاذيبه بخصوص الأوضاع العراقية، و بن لادن و الزرقاوي و باقي المخترعات الاستخبارية الأمريكية .. رغم ذلك كلّه فالأغلب أن يضطر بوش ـ فيما بقي من ولايته الثانية ـ إلى القيام بانقلاب على نفسه و سياسته و معاونيه، نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية في الولايات المتحدة، ذلك التدهور الذي نتج عن سحب تمويل التعليم و الخدمة الصحية و الاجتماعية لحساب ميزانيات السلاح و مغامرات تجار البترول، و نتيجة للعجز غير المسبوق في الميزانية الأمريكية


في الأوضاع العربية


أولا : سقوط أوراق توت الأنظمة العربية
الأحداث العالمية لعام 2004، أسقطت أوراق التوت عن عورات جميع الأنظمة العربية، بلا اسـتثناء . لقد تجلّت سوءات هذه الأنظمة ـ بشكل غير مسبوق ـ لمن بقي في غفلته من أبناء الشعب العربي . انكشفت الأكاذيب التاريخية التي يستتر بها الرؤساء و الملوك و الأمراء .. و المضحك المبكي في هذا الأمر، أن الذي قام بهذا الكشف لم يكن الشعب العربي و لا النخبة العربية و أهل الفكر من العرب، و لكنه كان الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت ـ و ما تزال ـ الحامية و الراعية لمعظم هذه الأنظمة العربية، و الواقفة معها في وجه شعوبها
ثانيا : الديموقراطية أولوية أمريكية متأخّرة
رغم ترديد أمريكا لمطلب الديموقراطية، فالأوراق الرسمية لاستراتيجية الولايات المتحدة تفيد أنّها تترك هذا لقادة الدول العربية، يقومون به بما لا يهدد وجودهم الضروري لأمريكا . كما أن موضوع الديموقراطية جاء في الأهمية السادسة بعد المطامع الأمريكية الحقيقية
ثالثا : مهزلة منتدى الشرق الأوسط
و كانت مهزلة " منتدى مستقبل الشرق الأوسط الكبير " خير دليل على أكاذيب و ادعاءات الولايات المتحدة، و التي يعشقها الحكّام العرب . من واقع دراسات البنتاجون، تنحصر المصالح الأمريكية في محاربة الإرهاب الذي تصدّره الدول العربية و الإسلامية، ثم مواجهة أسلحة الدمار الشامل التي يمكن أن يستخدمها، و يحرم إسرائيل من الانفراد بها، ثم ضمان إمدادات البترول مع استقرار أسعاره مع التأكيد على المستقبل الباهر للبترول العراقي لو أدارته الاستثمارات الأمريكية، ثم ضمان استقرار الأنظمة الصديقة، و المعتدلة المستعدة للدخول في الأجندة الأمريكية ( ومصر منها)، ثم تأكيد أمن إسرائيل.. و أخيرا، و في نهاية القائمة تأتي مسألة الديموقراطية و حقوق الإنسان بشكل متواضع، فتقول الدراسة أن المسئولين الأمريكيين قد مالوا إلى الموافقة على مطالب المسئولين في النظم العربية، بأن تقلّل أمريكا من دعوتها للديموقراطية، و تحد من اتصالاتها بأولئك الذين يعملون ضد تلك الأنظمة
رابعا : التنافس بين الحكّام العرب على الحظوة الأمريكية
كان من الطبيعي أن تكون النتيجة المباشرة لهذه الخطوة هي الخلافات التي بدأت تحتدم بين الحكّام العرب، و الاتهامات النائمة التي أفاقت من رقادها، و التنافس الشرعي على نول الحظوة عند سيد العالم ( و في هذا فليتنافس المتنافسون ! ) . المطمئن في الموضوع، أن هذه المشاحنات لن تقود إلى اشتباك عسكري أو حرب لسبب أساسي، لأنّه ليس في مصلحة أمريكا


في أوضاع مصر المحروسة


أولا : الإصبع الأمريكي، و الخطوط الحمراء
هذا الفوران الذي أحدثه الإصبع الأمريكي في عمق المنطقة العربية، انعكس ـ من ناحية ـ على شكل خطوات شجاعة من جانب النظام الحاكم المصري في سبيل التطبيع مع إسرائيل، و لإظهار العواطف الإيجابية نحوها ( على طريقة : أحبّك و أحبّ اللي يحبّك ! ) . و انعكس من ناحية أخرى على شكل انهيار في الخطوط الحمراء التي حرص النظام دائما على التمسّك بها، فبدأ الشعب يرفع صوته في أمور كتعديل الدستور، و رفض ولاية جديدة للرئيس، و موضوع توريث الحكم .. و رغم جهود حرس النظام في ملاحقة هذه الظاهرة المزعجة، فالنظام معرّض ـ مستقبلا ـ لتصعيد هذا الوضع، و خاصة بين من صدّق دعوة الديموقراطية الأمريكية، و أساء تفسير هدف الضغوط الأمريكية على النظام
ثانيا : البحث عن حلول جزئية
أيا كانت نتيجة هذا الصدام، فالثابت أن مصر لن تجد ـ في المستقبل القريب ـ النخبة القادرة على قيادتها في طريق التقدّم الحقيقي المتكامل نحو مجتمع المعلومات . و من ثمّ، فستظل مصر تبحث عن حلول جزئية وقتية لمشاكلها، من خلال السعي الفردي لأصحاب رؤوس الأموال و المغامرين نحو التنسيق مع أمريكا و إسرائيل، و مع القوى النظيرة في العالم العربي التي ستلعب نفس الدور في مجتمعاتها
ثالثا : بطالة مستفحلة و تعليم و صحة أكثر تدهورا
أصحاب رؤوس الأموال و المغامرون سيتضاعف وجودهم في الحكومة، و سيحاولون التخفيف عن المواطن المصري، و حمايته بعض الشيء من جنون تصاعد الأسعار مع انخفاض قيمة الجنيه المصري، لكنّهم ـ شأنهم شأن الحكّام الحاليين ـ لن ينجحوا في إصلاح الأوضـاع الاقتصادية والاجتماعية و السياسية، بالنسبة لقضايا البطالة المستفحلة، و الوضع التعليمي المتدهور، و الرعاية الصحية التي تكاد أن تكون غائبة
رابعا : غياب الرؤية المستقبلية لمصر
مرجع هذا إلى غياب أمرين أساسيين : (1) فهم طبيعة مجتمع المعلومات الآتي، (2) فهم حقيقة الأرض التي تقف عليها مصر بشكل صادق أمين . و هما السبيل إلى وضع رؤية مستقبلية مصرية متكاملة، تنبع منها الاستراتيجيات و الخطط الخاصّة بإعادة البناء، و ليس الإصلاح


و الله أعلم ..

Thursday, December 17, 2009

العقل المصري .. و الضغوط

نهصة مصر ـ عام 2002 ـ راجي عنايت
رفع الشعارات
هربا من البحث عن منهج

عندما تتزايد الضغوط على العقل المصري : الضغوط الداخلية متمثلة في تدهور الوضع الاقتصادي و السياسي الذي أصبح انشغالا عاما، يشيع القلـق في نفوس عامة المصريين ( أقصد بالعامة غير المستفيدين من ذلك التدهور )، و الضغوط الخارجية متمثلة في التهديد الأمريكي المتصاعد، و الوباء الإسرائيلي المستفحل .. أقول كلّما تزايدت هذه الضغـوط تذكّر الجميع أننا في حاجة إلى شيء، وبدأنا البحث عن ذلك الشيء
و للأسف يتمخّض هذا الشيء، كما هو حادث هذه الأيام، عن شعارات نستنبطها من جوف التاريخ الخاص و العام، تشكّل احتياجات مشروعة، و يكون لها بريقها، لكنّها لا تصلح منفردة أو مجتمعة أساسا لمواجهة التخلّف الحضاري الذي نعيشه . شعارات يبدو بعضها جديدا، نزعت عنه بطاقة المنشأ حديثا، مثل شعار المواطنة، و الجودة و التميّز.. و يبدو البعض الآخر خارجا من جوف المدارس الفكرية القديمة، مثل الليبرالية، و حقوق الإنسان، و تداول السلطة، و الشفافية، و أخيرا النهضة
و أسـجّل هنا أن هذه الشعارات جميعا يشكّل كلّ منها مطلبا إيجابيا مشروعا . لكنّها جميعا ـ أكررّ جميعا ـ لا تصلح أساسا لتجاوز الهوّة الحضارية بيننا و بين الدول التي سبقتنا بخطوات واسعة في تطبيق احتياجات مجتمع المعلومات
عيب هذه الشعارات ـ الوحيد ـ هو أنّها تشكّل مهربا مشروعا من محاولة البحث عن منهج فكري، يتيح لنا أن نضع رؤية مستقبلية شاملة لمصر . رؤية تحقّق لنا التالي
أولا : فهم التغيّرات الجذرية الكبرى التي يمر بها المجتمع البشري حاليا
ثانيا : فهم العلاقات متبادلة التأثير بين هذه المتغيرات
ثالثا : فهم أسس إعادة البناء في مختلف المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية، و الأولويات التي يجب أن نلتزم بها في دخولنا مجتمع المعلومات، وفقا للواقع الصادق الأمين لمصر حاليا

* * *

و لكن، ما هي العقبات التي تقف في وجه التوصّل إلى المنهج المناسب لوضع الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر ؟، و هل هي عقبات في مقدورنا ـ كمصريين ـ تخطيها ؟
المنهج الذي أدعو إلى اكتشافه و الاعتماد عليه، لا ينبت من جهد فردي لأذكى الأذكياء، و لا تقدر عليه بيروقراطيات الحكومة المصرية بكلّ ما تضمّه من كفاءات، و لا يمتّ بصلة لاجتهادات المستويات المختلفة للأحزاب المصرية ..و
و هو بالقطع يخرج عن جهد و نيّة جميع المستفيدين ـ اقتصاديا ـ من الأوضاع الحالية، من الحكومة أو القطاع العام أو الخاص

* * *

منذ أكثر من عشر سنوات، ظهر لي كتاب " أفيقوا يرحمكم الله .."، يتضمّن بالتفصيل المنهج الذي يتيح للإنسان العربي أن يفكّر في مسـتقبل مصر ضمن المستقبل العام للبشرية في إطار التحوّل إلى مجتمع المعلومات . و قد تضمّن محاولات لرسم صورة الحياة خلال عصر المعلومات في : التعليم، و الإدارة، و الاقتصاد، و الممارسة الديموقراطية، و الإعلام . حاولت في ذلك الكتاب أن أطرح منهجا للتفكير في التحوّلات الحاضرة التي يشهدها الجنس البشري، و في مستقبل هذه التحوّلات
و الآن، بعد مرور هذه السنوات العشر، أجد أن مسار التفكير في مستقبل مصر لم يتقدّم خطوة واحدة عمّا كان عليه الحال في ذلك الوقت . معظم المفكّرين و الكتّاب و رجال السياسة في مصر، و في العالم العربي أيضا، مازالوا يتصوّرون أن بإمكانهم الاعتماد على دراساتهم و خبراتهم القديمة في التصدّي لفهم الواقع الجديد و التعامل معه، و في التوصّل إلى حلول للمشاكل الحالية المتفاقمة . إنّهم لا يتصورون إن المساطر القديمة التي كانوا يقيسون عليها الأمور قد سقطت، و أن دراساتهم العالية لأصول و مقتضيات الحياة في عصر الصناعة، و خبراتهم الطويلة في التعامل مع المجتمع الصناعي، لن تفيدهم في التعامل مع المشاكل الحالية الناشئة عن التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات

هل كان من الممكن لمفكّر أو خبير في عصر الزراعة، و في أوضاع و أحلام و مشاكل المجتمع الزراعي، أن يتعامل مع حقائق عصر الصناعة، التي فرضت انقلابا تاما في الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية ؟ ! .. هل كان ذلك من الممكن، لو لم يبدأ ذلك المفكّر في دراسة مرحلة التحوّل التي قادت إلى قيام المجتمع الصناعي، و الأسس و المبادئ و العقائد الجديدة لهذا المجتمع ؟
نحن الآن في نفس الموقف، لا يمكننا أن نتعامل مع حقائق و مشاكل و مستجدّات مجتمع المعلومات، اعتمادا على خبراتنا المستمدّة من عصر الصناعة، و دون أن نفهم مرحلة التحول الحالية، و الأسس و المبادئ و العقائد الجديدة لمجتمع المعلومات، و التي تختلف ـ بل تتناقض ـ مع تلك الخاصّة بالمجتمع الصناعي
إحجامنا عن هذا الجهد الفكري لاستنباط المنهج المناسب، هو الذي يلجئنا إلى الشعارات المعادة

ــــــــ
ملحوظة : كتابي الذي أشرت إليه صدر منذ حوالي عقدين
و هذا الموضوع نشر منذ حوالي 8 سنوات
فمتى نفيق ممّا نحن فيه يا أهل مصر ؟؟؟
راجي عنايــت

Friday, December 11, 2009

ديموقراطية المشاركة - 5 شروط

نهضة مصر- الثلاثاء 27/12/ 2005 – راجي عنايــت


كيف يشارك الشعب
في حكم مصر ؟


حديثي عن ديموقراطية المشاركة، باعتبارها بديل عصر المعلومات لديموقراطية التمثيل النيابي، ذكّرتني بواقعة طريفة، حدثت على شاشة القناة الأولى للتلفزيون المصري، منذ سنوات عديدة .. و هي توضّح في الحقيقة مدى عزلة قياداتنا السياسية عن التغيرات التي تدور حولنا
بدأت الواقعة باستدعاء من وزير الإعلام السيد صفوت الشريف، و في حجرته وجدتني وسط مجموعة من مثقفي مصر، د. سعد الدين إبراهيم، و د. لبيب رزق يونان، و د. علي الدين هلال . طلب منّا الوزير أن يختار كل واحد منّا يوما من أيام الأسبوع، ليقدّم حديثا على القناة الأولي، بعد نشرة أخبار التاسعة . و كان خامسنا الأستاذ الجامعي د. على راضي، الذي لم يحضر معنا ذلك الاجتماع . و قد أطلقت أوساط التلفزيون على هذه المجموعة تعبير " مجموعة التنوير و قد اخترت أن تجري أحـاديثي تحت عنوان " مستقبليات "، الذي كان اسم الباب الأسبوعي الذي أكتبه في مجلة المصوّر

ديموقراطية .. و ديموقراطية

كنت أتحدّث عن طبيعة النظم الجديدة في مجتمع المعلومات، بالنسبة لكافة المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و كان حديثي في أحد الأسابيع عن " ديموقراطية المشاركة "، و قد حرصت على شرح الفرق بينها و بين ديموقراطية التمثيل النيابي التي ابتدعها المنظرون الأوائل لعصر الصناعة، نتيجة للتضخّم الهائل في عملية اتخاذ القرار، بعد أن تكفّلت الدولة بجميع المهام التي كانت تقوم بها الأسرة الزراعية، من تعليم و علاج و رعاية للكبار .. و أيضا بعد أن قام عصر الصناعة على الإنتاج على نطاق شديد الاتّساع، مستقلا عن الاستهلاك شديد الاتّساع، و قيام السوق بمعناها المعاصر للربط بين الجانبين . و كيف أن هذه الديموقراطية قد أحدثت شرخا في جدار السلطة، دخلت منه أعدادا كبيرة من الطبقة المتوسّطة إلى عملية اتخاذ القرار لأوّل مرّة .. إلى آخر ذلك
في نفس الأسبوع، خطر لي أن أري ما يتكلّم فيه الآخرون، و كان الحديث التالي للدكتور علي الدين هلال .. فوجدته يشرح بالتفصيل الممل، الديموقراطية النيابية، و الفصل بين السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية .. إلى آخر ما هو في مقرر دروس التربية القومية بالإعدادية .. و في الأسبوع التالي، وجدته ما زال يتكلّم في نفس الموضوع ... فعرفت مدى ثقل المهمة التي تنتظرني
بالمناسبة، عندما سمعت أن د. علي الدين تم اختياره لرئاسة أمانة التثقيف بالحزب الوطني، تذكرت تلك الواقعة، و فهمت سر التخلف المنهجي و الفكري للحزب الوطني

المعلومات .. و تنوّع البشر

ما علينا .. دعونا نعود إلى الحديث عن الديموقراطية اللامركزية، أو ديموقراطية المشاركة و كما أحب أن أوضّح دائما : أنا لا أتكلّم عن أحلام أو أماني، نابعة من مدينة فاضلة .. أنا أقوم بعمل علمي حسابي، أقرأ مؤشرات التغيير التي يمر بها العالم، و أتفهّم العلاقات المتبادلة بينها، ثم أجتهد في رسم صورة لمختلف مجالات النشاط البشري، وفقا للحياة الجديدة التي تقودنا إليها هذه المؤشرات
مثال ذلك، أسأل نفسي : و لماذا نتنازل عن نظم عصر الصناعة القائمة على المركزية ؟، و لماذا تحلّ اللامركزية محل المركزية ؟ .. فأكتشف أنّه : نتيجة لثورة المعلومات، و تطور تكنولوجيات المعلومات، تنوّع البشر، نتيجة لتنوّع ما أقبلوا عليه من ذلك التدفّق المعلوماتي . تنوّع البشر . لم يعودوا متماثلين متطابقين تقريبا، يكفي أن تتفهّم واحدا منهم حتّى تفهم باقيهم
نفهم ذلك جيدا، إذا تأملنا مجموعة من البشر في قرية من القرى، خلال عصر الزراعة، أو في بدايات عصر الصناعة .. سنجد تقاربا شديدا في أفكار و توجهات و عادات الأفراد، نتيجة لقلة المعلومات المستجدة، و ندرة التغيرات و تباعدها زمنيا . و كان يكفي أن تقابل واحدا منهم حتّى تعرف الكثير عن باقيهم ..لكن، عندما يتنوّع البشر، يتغيّر الوضع .. و تنهار معظم النظم التي اعتمدها عصر الصناعة

المشاركة .. ثقافة عصر

التنوّع الذي طرأ على البشر أسقط أحد أهم مبدأ من مبادئ عصر الصناعة، و هو مبدأ النمطية، الذي يجعلنا ننظر إلى البشر كآحاد متطابقة .. و هو المبدأ الذي جعل من المركزية ممارسة عظيمة، و فن كبير، و مكسب ضخم، طوال عصر الصناعة .. و هو الذي أشاع كلّ ما هو جماهيري، أي كلّ ما يستهدف تنظيم خدمة الآحاد المتطابقة من البشر .. الإنتاج الجماهيري النمطي على نطاق واسع، و الاستهلاك الجماهيري للسلع و الخدمات النمطية، التي تقبل عليها الجماهير النمطية .. و الإعلام الجماهيري الذي يتوجّه لجماهير نمطية، ساعيا إلى مزيد من قولبتها .. و أيضا الديموقراطية النيابية الجماهيرية، و التي تلخّص إرادة و توجّهات و مصالح أبناء الدائرة في نسق نمطي، يعبّر عنه بالتوكيل شخص واحد، هو النائب البرلماني
عندما تنوّع البشر، و اختلفت مشاربهم، سقط مبدأ النمطية و التوحيد القياسي للبشر، فاهتزّت النظم المركزية، و انهارت جميع المؤسسات الجماهيرية .. و كان من بين هذا التعثّر الحالي لديموقراطية التمثيل النيابي عالميا .. و بدأت تظهر بدائل للممارسة السياسية، كان من بينها ديموقراطية المشاركة
و الحقيقة، أن المشاركة لا تقتصر تطبيقاتها على الممارسة الديموقراطية، فهي ثقافة أساسية في جميع مجالات النشاط البشري في مجتمع المعلومات .. فالمشاركة هي ثقافة عصر .. عصر المعلومات

إدارة القطاع الخاص

لقد ظهرت التغيرات الأولى، عند التحوّل من نظم الصناعة إلى نظم المعلومات، في مجال التنظيم الإداري، و بشكل محدد في مجالات النشاط الاقتصادي الخاص . فالقطاع الخاص، أكثر حساسية، في جميع بلاد العالم، من القطاع العام أو الحكومي
لقد شعر مدير الشركة أن النظم التقليدية في إدارة العمل، و التي نجحت كثيرا في عصر الصناعة، لم تعد تعطي نفس النتائج، بل أصبحت تشكّل عائقا أمام نجاح العمل . و اكتشف المدير السر وراء ذلك .. أنّه التغيّر الذي طرأ على الإنسان الذي يعمل في الشركة، لقد أصبح أكثر علما، و أوسع معرفة، و أكثر اختلافا عن غيره من العاملين .. و الأهم من كل هذا أنه أصبح عاملا عقليا معرفيا، لا تحصل منه على أفضل نتيجة إلاّ إذا احترمت إنسانيته، و جعلته شريكا في قرارات العمل .. فظهرت نظم الإدارة الجديدة للغاية، و التي تقوم على المشاركة، و احترام عقل ومزاج الإنسان

هل هي ممكنة عندنا ؟
قد نسمع من يسأل : و هل نحن في وضع يسمح لنا بتطـبيق ديموقراطية المشـاركة عندنا ؟ .. هل وصل وعي
المواطن المصري عند القواعد إلى حد قدرته على اتخاذ القرار السليم ؟
هذا هو ما سنناقشـه فيما يلي من حديث تفصيلي عن ديموقراطية المشاركة .. لكن الأكيد هو أننا سنواجه في القريب بضرورة تصحيح مسار الممارسة الديموقراطية عندنا، بما ينسجم مع التحولات الكبرى التي يمر بها الجنس البشري ..و في هذا المجال، كما في المجال الاجتماعي و الاقتصادي، يفضل أن نبادر نحن بإصلاح مسارنا، بدلا من أن تتدخّل قوى أخرى، و تفرضه علينا، لحسابهم أكثر من حسابنا، كما يحدث معنا هذه الأيام ، و ما نسمعه من بوش و تشيني و كنداليزا من أوامر على شكل توجيهات
تطبيق ديموقراطية المشاركة عندنا، يعتمد على التالي
أولا : الاستقرار الديناميكي
صدق نية النظام الحالي، النابعة من فهمه أن المشاركة هي سبيل " الاستقرار الديناميكي "، و هو غير استقرار الجمود الذي يتمسّك به
ثانيا : حكم محلي حقيقي
قبول النظام الحاكم لفكرة حكم محلّي حقيقي، و الهبوط بنسبة عالية من مسئولية اتخاذ القرار رأسيا، من القمّة، إلى ما يليها من مستويات، حتّى القاعدة، و أفقيا من دوائر الحكم إلى فئات و تشـكيلات المواطنين النوعية . لتصحيح وضع الديموقراطية النيابية التي أقيمت على الأساس الجغرافي، نتيجة لتأثير المجتمع الزراعي، السابق لمجتمع الصناعة، مخترع تلك الديموقراطية
ثالثا : تجاوز التخلف التعليمي
تجاوز التخلّف الشديد في أدوات التعليم و نظم اكتساب المعارف في مصر .. لا تصدّقوا من يقول لكم أن لدينا الحد الأدنى من النظم التعليمية الضرورية حتّى لو صدر هذا عن وزير، أو رئيس وزراء، أو حتّى رئيس جمهورية ! .. فالتعليم عندنا متخلّف عن الحد الأدنى للتعليم التقليدي الذي ساد عصر الصناعة، و عرفته في طفولتي و صباي ( عمري الآن تجاوز 77 سنة ) .. و هو مناقض لأهم أساسيات التعليم القائم على التفكير و الابتكار و إعمال العقل، و الاعتزاز بالاختلاف عن الآخرين، ممّا يتيح لنا أن نلحق بمسيرة عصر المعلومات
رابعا : مجتمع مدني حرّ
السماح بنشاط حرّ لجمعيات المجتمع المدني، في القواعد، و في التجمعات المهنية و الحرفية
خامسا : تعميم ثقافة المشاركة
تعميم ثقافة المشاركة في الإدارة، في المدارس و الجامعات, و المؤسسات الاجتماعية



Saturday, December 5, 2009

حقيقة ما تفعله أمريكا

نهضة مصر ( الخميس 17 مارس 2005 ) راجي عنايــت

اعترافات قنّاص اقتصادي أمريكي

أمريكا تستخدم القروض
في خداع الشعوب الفقيرة

ثلاث خطوات تعتمد عليها الولايات المتحدة في فرض نفوذها على العالم، و بناء الإمبراطورية الأمريكية، منذ منتصف القرن الماضي : الطليعة التي تتكوّن من جيش القناصة الاقتصاديين، و عندما يفشل القناصة يأتي دور أباء آوى التابعين لأجهزة المخابرات، و تكون الخطوة الثالثة و الأخيرة عند عدم تحقّق الهدف المنشود هي الغزو العسكري
هذا هو بعض ما يعترف به القنّاص الاقتصادي القديم جون بيركينز، في الحديث الذي أجرته معه آمي جودمان، في إذاعة الديموقراطية الآن
كان التساؤل الأول، حول معنى الاصطلاح الغريب، اصطلاح " القنّاص الاقتصادي"، قال بيركينز: القنّاص الاقتصادي يقوم بما هو مدرّب عليه، و وظيفتنا هي المساهمة في بناء الإمبراطورية الأمريكية .. و أن نجلب لمؤسساتنا و لحكومتنا ما نستطيع أن نوفّره، و أن نخلق الأوضاع التي تحقق أكبر قدر من الموارد لخزينة البلاد .. و الحق أننا كنّا نحقق نجاحا كبيرا في هذا المجال .. لقد ساهمنا في بناء أكبر إمبراطورية في تاريخ العالم، من خلال التلاعب الاقتصادي، و الغش، و التزوير، و من خلال إغواء الناس من خلال التلويح لهم بطريقتنا في الحياة

أكثر أجهزة التجسس غموضا

و يحكي جون بيركينز قصة دخوله إلى ذلك العالم الغريب، فيقول أنه قد تم تجنيده في أواخر الستينيات، عندما كان يدرس في مدرسة الأعمال، بواسطة " وكالة الأمن القومي "، و التي يصفها بأنّها أكبر منظمات الجاسوسية في البلاد، و أكثرها غموضا . لكنه كان يعمل بشكل علني و رسمي مع إحدى شركات القطاع الخاص . و سنعرف أن السر في هذا هو إبعاد الإدارة الأمريكية عن مسئولية عواقب العمليات الفاشلة أمام الرأي العام العالمي، و الداخلي أيضا
و هنا، يجدر بنا أن نتوقّف قليلا ـ و نحن نرفع جانبا من ستار التخفّي السميك ـ لنرى طبيعة النظام الأمريكي، و المخطط الاستغلالي الذي يختفي وراء جميع الشعارات العظيمة التي يكثر الرئيس بوش ترديدها هذه الأيام .. لنرى المصدر الحقيقي للغنى الفاحش الذي يتيح لأمريكا كل ما تطمع فيه من أدوات السيطرة على شعوب العالم، بالقول أو المال أو السلاح
و نعود إلى حديث جون بيركينز، الذي يقول أن أوّل قنّاص اقتصادي أمريكي كبير، ظهر في بداية الخمسينيات، هو كيرميت روزفلت، الذي نجح في الإطاحة بالحكومة الإيرانية المنتخبة ديموقراطـيا، حكوة مصدّق، الذي ظهر على غلاف
مجلة تايم باعتباره رجل العام . و يستطرد بيركينز قائلا " لقد نجح في فعل ذلك دون إراقة دماء.. و الحقيقية أنه كانت هناك بعض الدماء المراقة، و لكن دون تدخّل عسكري .. فقط إنفاق عدة ملايين من الدولارات، لاستبدال مصدّق بالشاه .. أدركنا وقتها أهمية فكرة القنّاص الاقتصادي . لم يعد علينا أن نقلق للتهديد بحرب مع روسيا، إذا كنا نقوم بعملنا بهذه الطريقة .. كانت المشكلة هي كون كيرميت روزفلت عميلا للمخابرات المركزية الأمريكية، أي موظّف في الحكومة.. فإذا انكشف نشاطه في تلك النقطة، كنّا سنواجه الكثير من المتاعب " . و من هنا، كان قرار أن تجنّد المخابرات المركزية، أو وكالة الأمن القومي، العملاء الذين يصلحون كقنّاصين اقتصاديين، ثم ترسلهم للعمل لشركات استشارية خاصة، أو مؤسسات هندسية، أو شركات مقاولات، لكي لا تكون هناك عواقب تضر بالحكومة، في حالة اكتشافهم

قروض لا يمكن سدادها

ثم يقول بيركينز أن بداية عمله (كقنّاص )، كانت مع شركة تشاس مين في بوسطن . كان عدد العاملين يصل إلى ألفي موظف، و عمل هو كرئيس الاقتصاديين، مع 50 موظفا يعملون تحت قيادته . ثم يقول " لكن وظيفتي الحقيقية كانت عقد الصفقات .. كانت إقراض بعض الدول قروضا هائلة، أكبر من أن يستطيعوا سدادها . من بين تلك القروض، مثلا بليون دولار لدولة مثل إندونيسيا أو أكوادور، و كان على تلك الدولة أن تعيد 90% من ذلك القرض إلى شركة أو شركات أمريكية، مثل هاليبورتن أو بيكتيل،، لإنشاء بنية تحتية.."، و يقول بيركينز أن تلك المشروعات لم تكن تفيد غير قلة من العائلات الأكثر ثراء في تلك البلاد .. دولة مثل إكوادور تدفع أكثر من نصف دخلها القومي لتغطية الدين . و عندما تفشل الدولة في تدبير المال اللازم، و نكون في حاجة إلى المزيد من البترول، يتقدّم القنّاص ليقول للمسئولين في إكوادور " أنظروا ..أنتم غير قادرين على دفع الدين، بيعوا لشركاتنا غابات الأمازون الممطرة، المليئة بالبترول "، و النتيجة هي أن تصبح تلك الدول عبدة للإمبراطورية الأمريكية

ضمير القنّاص .. مرن

منذ سنوات، أعلن بيركينز، أنه يعد كتابا بعنوان " ضمير قنّاص اقتصادي " في تسعينيات القرن الماضي، فأسرعت إحدى شركات المقاولات الكبرى، و ساومته عارضة نصف مليون دولار، مقابل عدم نشر الكتاب، و في هذا يقول " لم تكن رشوة، لقد تقاضيت المبلغ كمستشار للشركة، و هذا شيء قانوني، لكنّي لم أفعل شيئا لتلك الشركة ّ " . و عندما أبدت آمي جودمان اندهاشها، قال : عندما عينتني وكالة الأمن القومي، وضعوني في جهاز كشف الكذب ليوم كامل .. و اكتشفوا جميع نقط ضعفي، و استخدموا معي أقوى عقاقير حضارتنا ... الجنس، والنفوذ، و المال
و يستطرد بيركينز قائلا : أنا أنتمي إلى عائلة ذات تاريخ قديم في نيو انجلاند، تؤمن بالمذهب الكالفيني،
الفرنسي البروتستانتي، و تربيت على قيم أخلاقية قوية .. أعتقد أن قصتي توضّح كيف يمكن لهذا النظام، و هذه العقاقير القوية من جنس ومال و سلطة أن تغري البشر .. و هذا هو ما جعلني آخر الأمر أكتب كتاب "اعترافات قنّاص اقتصادي" لأن بلدنا يحتاج أن يعرف . لو أن شعب هذه الأمة فهم حقيقة سياستنا الخارجية، و حقيقة المعونات الخارجية، و كيف تعمل مؤسساتنا، و أين تذهب أموال الضرائب، أعرف أننا سنطالب جميعا بالتغيير

كيف مات تورريجوس ؟

عمر تورريجوس، كان رئيس دولة بنما . و كان قد وقّع اتفاقية حول قناة بنما مع كارتر . ثم بدأ تورريجوس الحديث مع اليابان لبناء قناة في مستوى البحر، و أبدت اليابان استعدادها لتمويل بناء تلك القناة . و كان هذا مثار غضب شديد في شركة بيكتيل، التي كان رئيسها في ذلك الحين جورج شولتز، و مستشارها الأعلى كاسبر واينبيرجر . يقول بيركينز عندما ألقي بكارتر، و جاء ريجان، خرج من بيكتيل كلّ من شولتز الذي أصبح وزيرا للخارجية، و واينبيرجر الذي أصبح وزيرا للدفاع، و كانا غاضبين للغاية من تورريجوس، و حاولا الضغط عليه لكي يوقف اتصالاته باليابان، فلم ينجحا .. لقد كان صاحب مبدأ، و هكذا فقد حياته في انفجار طائرته لتي كان بها قنبلة داخل جهاز تسجيل
و يحكي بيركينز عن رد فعل هذه الواقعة على حياته كقنّاص اقتصادي، و بداية إحساسه بضرورة إجراء تحوّل في حياته، و في هذا يقول :كنت أنا الذي يعمل معه، و أدركت أننا معشر القنّاصة الاقتصاديون قد فشلنا

مؤامرات البنك الدولي
و عندما سألته آمي عمّا إذا كان قد عمل مع البنك الدولي، أجاب : بشكل لصيق جدا جدا .. فالبنك الدولي يوفّر معظم الأموال التي يستخدمها القنّاصة الاقتصاديون، هو و صندوق النقد الدولي . لكن عندما وقعت ضربة 11 سبتمبر، أصابني انقلاب داخلي . و أيقنت بضرورة البوح بالقصة، لأن واقعة 11 سبتمبر هي النتيجة المباشرة لما يفعله القنّاصون الاقتصاديون . و الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تشعرنا بالأمان في هذه الدولة، و نحسّ بالرضا عن أنفسنا، هو أن نستخدم هذه النظم التي أوجدناها من أجل خلق تغيرات إيجابية في أنحاء العالم .. و أعتقد صادقا أن بإمكاننا أن نفعل ذلك ..و أعتقد أن البنك الدولي و المؤسسات الأخرى يمكن أن تعدّل مسارها، و تفعل ما قامت أصلا لتفعله .. و هو مساعدة البلاد المطحونة في أنحاء العالم كي تعيد بناء ذاتها

هل بدأت تتضّح لكم صورة ما تفعله الولايات المتحدة في حقيقة الأمر ؟