Wednesday, December 29, 2010

الشعب .. و حكم مصر

نهضة مصر- الثلاثاء 27/12/2005

كيف يشارك الشعب
في حكم مصر ؟ ..
سر التخلف المنهجي و الفكري للحزب الوطني

حديثي عن ديموقراطية المشاركة، باعتبارها بديل عصر المعلومات لديموقراطية التمثيل النيابي، ذكّرتني بواقعة طريفة، حدثت على شاشة القناة الأولى للتلفزيون المصري، منذ سنوات عديدة .. و هي توضّح في الحقيقة مدى عزلة قياداتنا السياسية عن التغيرات التي تدور حولنا
بدأت الواقعة باستدعاء من وزير الإعلام السيد صفوت الشريف، و في حجرته وجدتني وسط مجموعة من مثقفي مصر، د. سعد الدين إبراهيم، و د. لبيب رزق يونان، و د. علي الدين هلال . طلب الوزير أن يختار كل واحد منّا يوما من أيام الأسبوع، ليقدّم حديثا على القناة الأولي، بعد نشرة أخبار التاسعة . و كان خامسنا الأستاذ الجامعي د. على راضي، الذي لم يحضر معنا ذلك الاجتماع . و قد أطلقت أوساط التلفزيون على هذه المجموعة تعبير " مجموعة التنوير " . و قد اخترت أن تجري أحـاديثي تحت عنوان " مستقبليات "، الذي كان اسم الباب الأسبوعي الذي أكتبه في مجلة المصوّر، قبل أن ينهي مكرم محمد أحمد ـ رئيس التحريرـ عملي بها، استجابة للنداءات الباكية من وزير التعليم الأسبق

!ديموقراطية .. و ديموقراطية

كنت أتحدّث عن طبيعة النظم الجديدة في مجتمع المعلومات، بالنسبة لكافة المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و كان حديثي في أحد الأسابيع عن " ديموقراطية المشاركة "، و قد حرصت على شرح الفرق بينها و بين ديموقراطية التمثيل النيابي التي ابتدعها المنظرون الأوائل لعصر الصناعة، نتيجة للتضخّم الهائل في عملية اتخاذ القرار، بعد أن تكفّلت الدولة بجميع المهام التي كانت تقوم بها الأسرة الزراعية، من تعليم و علاج و رعاية للكبار .. و أيضا بعد أن قام عصر الصناعة على الإنتاج على نطاق شديد الاتّساع، مستقلا عن الاستهلاك شديد الاتّساع، و قيام السوق بمعناها المعاصر للربط بين الجانبين . و كيف أن هذه الديموقراطية قد أحدثت شرخا في جدار السلطة، دخلت منه أعدادا كبيرة من الطبقة المتوسّطة إلى عملية اتخاذ القرار لأوّل مرّة .. إلى آخر ذلك
في نفس الأسبوع، خطر لي أن أري ما يتكلّم فيه الآخرون، و كان الحديث التالي للدكتور علي الدين هلال .. فوجدته يشرح بالتفصيل الممل، الديموقراطية النيابية، و الفصل بين السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية .. إلى آخر ما هو في مقرر في دروس التربية القومية بالإعدادية .. و في الأسبوع التالي، وجدته ما زال يتكلّم في نفس الموضوع ... فعرفت مدى ثقل المهمة التي تنتظرني
بالمناسبة، عندما سمعت أن د. علي الدين تم اختياره لرئاسة أمانة التثقيف بالحزب الوطني، تذكرت تلك الواقعة، و فهمت سر التخلف المنهجي و الفكري للحزب الوطني

المعلومات .. و تنوّع البشر

ما علينا .. دعونا نعود إلى الحديث عن الديموقراطية اللامركزية، أو ديموقراطية المشاركة و كما أحب أن أوضّح دائما : أنا لا أتكلّم عن أحلام أو أماني، نابعة من مدينة فاضلة .. أنا أقوم بعمل علمي حسابي، أقرأ مؤشرات التغيير
التي يمر بها العالم، و أتفهّم العلاقات المتبادلة بينها، ثم أجتهد في رسم صورة لمختلف مجالات النشاط البشري، وفقا للحياة الجديدة التي تقودنا إليها هذه المؤشرات

مثال ذلك، أسأل نفسي : و لماذا نتنازل عن نظم عصر الصناعة القائمة على المركزية ؟، و لماذا تحلّ اللامركزية محل المركزية ؟ .. فأكتشف أنّه : نتيجة لثورة المعلومات، و تطور تكنولوجيات المعلومات، تنوّع البشر، نتيجة لتنوّع ما أقبلوا عليه من ذلك التدفّق المعلوماتي . تنوّع البشر . لم يعودوا متماثلين متطابقين تقريبا، يكفي أن تتفهّم واحدا منهم حتّى تفهم باقيهم
نفهم ذلك جيدا، إذا تأملنا مجموعة من البشر في قرية من القرى، خلال عصر الزراعة، أو في بدايات عصر الصناعة .. سنجد تقاربا شديدا في أفكار و توجهات و عادات الأفراد، نتيجة لقلة المعلومات المستجدة، و ندرة التغيرات و تباعدها زمنيا . و كان يكفي أن تقابل واحدا منهم حتّى تعرف الكثير عن باقيهم ..لكن، عندما يتنوّع البشر، يتغيّر الوضع .. و تنهار معظم النظم التي اعتمدها عصر الصناعة

المشاركة .. ثقافة عصر

التنوّع الذي طرأ على البشر أسقط أحد أهم مبدأ من مبادئ عصر الصناعة، و هو مبدأ النمطية، الذي يجعلنا ننظر إلى البشر كآحاد متطابقة .. و هو المبدأ الذي جعل من المركزية ممارسة عظيمة، و فن كبير، و مكسب ضخم، طوال عصر الصناعة .. و هو الذي أشاع كلّ ما هو جماهيري، أي كلّ ما يستهدف تنظيم خدمة الآحاد المتطابقة من البشر .. الإنتاج الجماهيري النمطي على نطاق واسع، و الاستهلاك الجماهيري للسلع و الخدمات النمطية، التي تقبل عليها الجماهير النمطية .. و الإعلام الجماهيري الذي يتوجّه لجماهير نمطية، ساعيا إلى مزيد من قولبتها .. و أيضا الديموقراطية النيابية الجماهيرية، و التي تلخّص إرادة و توجّهات و مصالح أبناء الدائرة في نسق نمطي، يعبّر عنه بالتوكيل شخص واحد، هو النائب البرلماني
عندما تنوّع البشر، و اختلفت مشاربهم، سقط مبدأ النمطية و التوحيد القياسي للبشر، فاهتزّت النظم المركزية، و انهارت جميع المؤسسات الجماهيرية .. و كان من بين هذا التعثّر الحالي لديموقراطية التمثيل النيابي عالميا .. و بدأت تظهر بدائل للممارسة السياسية، كان من بينها ديموقراطية المشاركة
و الحقيقة، أن المشاركة لا تقتصر تطبيقاتها على الممارسة الديموقراطية، فهي ثقافة أساسية في جميع مجالات النشاط البشري في مجتمع المعلومات .. فالمشاركة هي ثقافة عصر .. عصر المعلومات

إدارة القطاع الخاص

لقد ظهرت التغيرات الأولى، عند التحوّل من نظم الصناعة إلى نظم المعلومات، في مجال التنظيم الإداري، و بشكل محدد في مجالات النشاط الاقتصادي الخاص . فالقطاع الخاص، أكثر حساسية، في جميع بلاد العالم، من القطاع العام أو الحكومي
لقد شعر مدير الشركة أن النظم التقليدية في إدارة العمل، و التي نجحت كثيرا في عصر الصناعة، لم تعد تعطي نفس النتائج، بل أصبحت تشكّل عائقا أمام نجاح العمل . و اكتشف المدير السر وراء ذلك .. أنّه التغيّر الذي طرأ على الإنسان الذي يعمل في الشركة، لقد أصبح أكثر علما، و أوسع معرفة، و أكثر اختلافا عن غيره من العاملين .. و الأهم من كل هذا أنه أصبح عاملا عقليا معرفيا، لا تحصل منه على أفضل نتيجة إلاّ إذا احترمت إنسانيته، و جعلته شريكا في قرارات العمل .. فظهرت نظم الإدارة الجديدة للغاية، و التي تقوم على المشاركة، و احترام عقل ومزاج الإنسان

هل هي ممكنة عندنا ؟

قد نسمع من يسأل : و هل نحن في وضع يسمح لنا بتطـبيق ديموقراطية المشـاركة عندنا ؟ .. هل وصل وعي
المواطن المصري عند القواعد إلى حد قدرته على اتخاذ القرار السليم ؟ هذا هو ما سنناقشـه فيما يلي من حديث تفصيلي عن ديموقراطية المشاركة .. لكن الأكيد هو أننا سنواجه في القريب بضرورة تصحيح مسار الممارسة الديموقراطية عندنا، بما ينسجم مع التحولات الكبرى التي يمر بها الجنس البشري ..و في هذا المجال، كما في المجال الاجتماعي و الاقتصادي، يفضل أن نبادر نحن بإصلاح مسارنا، بدلا من أن تتدخّل قوى أخرى، و تفرضه علينا، لحسابهم أكثر مما هو لحسابنا

تطبيق ديموقراطية المشاركة عندنا، يعتمد على التالي
أولا : الاستقرار الديناميكي
صدق نية النظام الحالي، النابعة من فهمه أن المشاركة هي سبيل " الاستقرار الديناميكي "، و هو غير استقرار الجمود الذي يتمسّك به
ثانيا : حكم محلي حقيقي
قبول النظام الحاكم لفكرة حكم محلّي حقيقي، و الهبوط بنسبة عالية من مسئولية اتخاذ القرار رأسيا، من القمّة، إلى ما يليها من مستويات، حتّى القاعدة، و أفقيا من دوائر الحكم إلى فئات و تشـكيلات المواطنين النوعية . لتصحيح وضع الديموقراطية النيابية التي أقيمت على الأساس الجغرافي، نتيجة لتأثير المجتمع الزراعي، السابق لمجتمع الصناعة، مخترع تلك الديموقراطية
ثالثا : تجاوز التخلف التعليمي
تجاوز التخلّف الشديد في أدوات التعليم و نظم اكتساب المعارف في مصر .. لا تصدّقوا من يقول لكم أن لدينا الحد الأدنى من النظم التعليمية الضرورية حتّى لو صدر هذا عن وزير، أو رئيس وزراء، أو حتّى رئيس جمهورية ! .. فالتعليم عندنا متخلّف عن الحد الأدنى للتعليم التقليدي الذي ساد عصر الصناعة، و عرفته في طفولتي و صباي.. و هو مناقض لأهم أساسيات التعليم القائم على التفكير و الابتكار و إعمال العقل، و الاعتزاز بالاختلاف عن الآخرين، ممّا يتيح لنا أن نلحق بمسيرة عصر المعلومات
رابعا : مجتمع مدني حرّ
السماح بنشاط حرّ لجمعيات المجتمع المدني، في القواعد، و في التجمعات المهنية و الحرفية
خامسا : تعميم ثقافة المشاركة
تعميم ثقافة المشاركة في الإدارة، في المدارس و الجامعات, و المؤسسات الاجتماعية

* * *

لمن يريد أن يعرف المزيد عن ديموقراطية المشاركة، أو الديموقراطية المتفقة مع احتياجات و طبيعة مجتمع المعلومات، يمكن الاتصال بي شخصيا لأرسل المادة المطلوبة على عنوان الميل الخاص بالمتصل
راجي عنايت
renayat@gmail.com

Friday, December 17, 2010

في مواجهة مأساة 2010

نهصة مصر – عام 2004

ـــــــــــــــــ
خطاب موجّه إلى القوى الوطنية
الباحثة عن مخرج من المأزق الحالي
ومن ثم ليس موجها إلى
الحزب الوطني الديموقراطي و دعاته
ــــــــــــــــ


رفع الشعارات
هربا من البحث عن منهج


عندما تتزايد الضغوط على العقل المصري : الضغوط الداخلية متمثلة في تدهور الوضع الاقتصادي و السياسي الذي أصبح انشغالا عاما، يشيع القلـق في نفوس عامة المصريين ( أقصد بالعامة غير المستفيدين من ذلك التدهور )، و الضغوط الخارجية متمثلة في التدخّل الأمريكي المتصاعد، و الوباء الإسرائيلي المستفحل .. أقول كلّما تزايدت هذه الضغـوط تذكّر الجميع أننا في حاجة إلى شيء، وبدأنا البحث عن ذلك الشيء
و للأسف يتمخّض هذا الشيء، كما هو حادث هذه الأيام، عن شعارات نستنبطها من جوف التاريخ الخاص و العام، تشكّل احتياجات مشروعة، و يكون لها بريقها، لكنّها لا تصلح منفردة أو مجتمعة أساسا لمواجهة التخلّف الحضاري الذي نعيشه . شعارات يبدو بعضها جديدا، نزعت عنه بطاقة المنشأ حديثا، مثل شعار المواطنة، و الجودة و التميّز.. و يبدو البعض الآخر خارجا من جوف المدارس الفكرية القديمة، مثل الليبرالية، و حقوق الإنسان، و تداول السلطة، و الشفافية، و أخيرا النهضة
و أسـجّل هنا أن هذه الشعارات جميعا يشكّل كلّ منها مطلبا إيجابيا مشروعا . لكنّها جميعا ـ أكررّ جميعا ـ لا تصلح أساسا لتجاوز الهوّة الحضارية بيننا و بين الدول التي سبقتنا بخطوات واسعة و نجحت في تطبيق احتياجات مجتمع المعلومات
عيب هذه الشعارات ـ الوحيد ـ هو أنّها تشكّل مهربا مشروعا من محاولة البحث عن منهج فكري، يتيح لنا أن نضع رؤية مستقبلية شاملة لمصر . رؤية تحقّق لنا
أولا : فهم التغيّرات الجذرية الكبرى التي يمر بها المجتمع البشري حاليا
ثانيا : فهم العلاقات متبادلة التأثير بين هذه المتغيرات
ثالثا : فهم أسس إعادة البناء في مختلف المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية، و الأولويات التي يجب أن نلتزم بها في دخولنا مجتمع المعلومات لكي نستفيد من دفع الزمان، وفقا للواقع الصادق الأمين لمصر حاليا

* * *

و لكن، ما هي العقبات التي تقف في وجه التوصّل إلى المنهج المناسب لوضع الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر ؟، و هل هي عقبات في مقدورنا ـ كمصريين ـ تخطيها ؟
المنهج الذي أدعو إلى اكتشافه و الاعتماد عليه، لا ينبت من جهد فردي لأذكى الأذكياء، و لا تقدر عليه بيروقراطيات الحكومة المصرية بكلّ ما تضمّه من كفاءات، و لا يمتّ بصلة لاجتهادات المستويات المختلفة للأحزاب المصرية .. و هو بالقطع يخرج عن جهد و نيّة جميع المستفيدين ـ اقتصاديا ـ من الأوضاع الحالية، من الحكومة أو القطاع العام أو الخاص
* * *
منذ أكثر من عشرين سنة، ظهر لي كتاب " أفيقوا يرحمكم الله .."، يتضمّن بالتفصيل المنهج الذي يتيح للإنسان العربي أن يفكّر في مسـتقبل مصر ضمن المستقبل العام للبشرية في إطار التحوّل إلى مجتمع المعلومات . و قد تضمّن محاولات لرسم صورة الحياة خلال عصر المعلومات في : التعليم، و الإدارة، و الاقتصاد، و الممارسة الديموقراطية، و الإعلام . حاولت في ذلك الكتاب أن أطرح منهجا للتفكير في التحوّلات الحاضرة التي يشهدها الجنس البشري، و في مستقبل هذه التحوّلات
و الآن، بعد مرور كلّ هذه السنوات، أجد أن مسار التفكير في مستقبل مصر لم يتقدّم خطوة واحدة عمّا كان عليه الحال في ذلك الوقت . معظم المفكّرين و الكتّاب و رجال السياسة في مصر، و في العالم العربي أيضا، مازالوا يتصوّرون أن بإمكانهم الاعتماد على دراساتهم و خبراتهم القديمة في التصدّي لفهم الواقع الجديد و التعامل معه، و في التوصّل إلى حلول للمشاكل الحالية المتفاقمة . إنّهم لا يتصورون إن المساطر القديمة التي كانوا يقيسون عليها الأمور قد سقطت، و أن دراساتهم العالية لأصول و مقتضيات الحياة في عصر الصناعة، و خبراتهم الطويلة في التعامل مع المجتمع الصناعي، لن تفيدهم في التعامل مع المشاكل الحالية الناشئة عن التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات
هل كان من الممكن لمفكّر أو خبير في عصر الزراعة، و في أوضاع و أحلام و مشاكل المجتمع الزراعي، أن يتعامل مع حقائق عصر الصناعة، التي فرضت انقلابا تاما في الأوضاع و الاجتماعية و السياسية ؟ ! .. هل كان ذلك من الممكن، لو لم يبدأ ذلك المفكّر في دراسة مرحلة التحوّل التي قادت إلى قيام المجتمع الصناعي، و الأسس و المبادئ و العقائد الجديدة لهذا المجتمع ؟
نحن الآن في نفس الموقف، لا يمكننا أن نتعامل مع حقائق و مشاكل و مستجدّات مجتمع المعلومات، اعتمادا على خبراتنا المستمدّة من عصر الصناعة، و دون أن نفهم مرحلة التحول الحالية، و الأسس و المبادئ و العقائد الجديدة لمجتمع المعلومات، و التي تختلف ـ بل تتناقض ـ مع تلك الخاصّة بالمجتمع الصناعي
إحجامنا عن هذا الجهد الفكري لاستنباط المنهج المناسب، هو الذي يلجئنا إلى الشعارات
راجي عنايــت

Sunday, December 12, 2010

مناورات التلاعب بالمعلومات

عالم اليوم ـ 1997 ـ راجي عنايت
! .. أسطورة : حقّ الجمهور في أن يعرف

أعيد نشر هذا الموضوع بمناسبة الضجّة التي يثيرها
موقع ويكيليكس


ما الذي يجري ؟ .. هذا السؤال البسيط، يعتبر حقّا شرعيا لأي مواطن، خاصّة إذا كان في دولة تزعم أنها تتمسّك بالديموقراطية. لكن الواقع، على مستوى العالم أجمع، يقول أن معرفة حقيقة ما يجري ليس أمراً سهلاً في عالم اليوم، رغم أننا نعيش عصر وسائل الإعلام السريعة، أو الفورية إذا شئنا الدقّة . والسرّ في هذا ، هو ما يتم من مناورات و تكتيكات التلاعب بالمعلومات . حول هذا الموضوع، يقول الكاتب المستقبلي آلفن توفلر، في كتابه تحوّل القوّة : .. و مع احتلال المعرفة، بكل أشكالها، مكانة أكثر محورية في صراع القوّة، ومع تراكم البيانات و المعلومات و المعارف، و تدفّقها من أجهزة الكمبيوتر، تصبح(التكتيكات المعلوماتية) ذات دلالة متزايدة في حياتنا السياسية
و إلى أن نعيد النظر في أكثر إفتراضاتنا جوهرية حول الديمقراطية النيابية الجماهيرية، التي ابتدعها المجتمع الصناعي، و التي تعتمد على التمثيل السياسي و الأحزاب، و تسمح بممارسة هذه التكتيكات المعلوماتية.. سيظل الحديث عن" الحكومة الأمينة الصريحة"، و حول" المواطن القادر على الوصول إلى المعلومات"، وحول" حقّ الجمهور في أن يعرف"، سيظل هذا الحديث مجرّد لغو لا علاقة له بما يجري في الواقع

وثيقة ليندون جونسون

في 4يوليو من عام 1967، وقّع الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، في البيت الأبيض، وثيقة حول حرّية تداول المعلومات . و في حفل التوقيع، قال: تعتبر حرّية المعلومات شديدة الحيويّة، إلى حدّ أن التحفّظ عليها يجب ألاّ يتم إلاّ فيما يتّصل بالأمن القومي، و ليس لمجرّد رغبة الموظفين العموميين، أو بعض الأفراد من المواطنين
ما أن أنهى جونسون حديثه، حتّى سأله أحد المراسلين عمّا إذا كان بالإمكان حصوله على نسخة من النصّ الأصلي الذي إعتمد عليه في حديثه، و في ملاحظاته التي أبداها حول حرّية المعلومات . كان ذلك أوّل طلب يتلقّاه جونسون، إمتحانا لصدق أقواله حول حرّية المعلومات الجديدة، فلم يفعل سوى أن أبدى إستهجانه و تسخيفه لهذا الطلب
لقد مارس جونسون هنا تكتيك السرّية، و هو من أكثر التكتيكات شيوعا، في جميع الحكومات . أسهل شيئ على الحكومة، أي حكومة، أن تصف كلّ شيئ بأنّه(سرّي للغاية)، و أنّه من الأسرار العليا للدولة . وهذه السرّية هي السبيل لممارسة الحكم الغاشم و الفساد . و عملية التلاعب بالمعلومات و البيانات تتم على أربعة مستويات : مرسل الرسالة - القناة التي تسلكها- مستقبل الرسالة - مضمون الرسالة

المصدر غير المكشوف
وتوجيهات الرئيس

أوّل مجال لتدخّل اللاعب في صراع السلطة، هو مرسل الرسالة، أو المصدر . عندما يصل خطاب بالبريد، أوّل ما نطّلع عليه عادة هو مرسل الخطاب . ذلك لأن هويّة مرسل الخطاب تشكّل في واقع الأمر جانباً حيوياً من أيّ رسالة . فمعرفة المصدر، تساعدنا-على الأقل- في تقدير مدى المصداقية التي نوليها لهذه الرسالة . و هذا هو السرّ في كثرة استخدام الحكومات لما يطلق عليه : تكتيك المصدر غيرالمكشوف
و تغطية المصدر الحقيقي للرسالة قد يتخذ أشكالا عديدة . و يلعب المسئولون في مجالات العمل والحكومة تنويعات على هذه اللعبة . مثال ذلك، استخدام الشخص، صاحب الرتبة الأقل، إسم رئيسه لكي يحقّق مكسبا، و يضيف قوّة إلى كلامه . كأن يحرص المسئول على القول في كل مناسبة أن ما يفعله هو بتوجيهات من الرئيس .. و خير مثال لكثرة ترديد هذه الحيلة، هو ما كان يفعله وزير التعليم الأسبق حسين كامل بهاء الدين، فكان يختم حديثه دائما بعبارة : بفضل توجيهات السيد الرئيس

القنوات الخلفيّة و الحرب الثالثة

كلّ الرسائل تتحرّك عبر قنوات، إلاّ أن بعض هذه القنوات يختلف عن باقيها . و كلّ مسئول أو مدير يعرف أن القناة التي تحمل رسالته، هي التي تحدّد الشخص الذي سيتسلّمها، و من ثمّ يعتمد نفوذه في الحكومة أو المؤسّسة على ذلك . و من المعروف، أن عزل المسئول أو الموظّف عن القنوات، هو السبيل لإضعاف سلطته و نفوذه . و في كثير من الأحيان، يتعرّض لهذا العزل الشخص الذي يتربّع على قمّة الحكومة أو المؤسّسة
و من أشهر وقائع الإعتماد على تكتيك القنوات الخلفية، تلك الواقعة التي منعت قيام الحرب العالمية الثالثة . تمّ ذلك خلال أزمة الصواريخ الكوبية . كانت الرسائل تنطلق جيئة و ذهابا، بين الرئيس كينيدي وخروتشوف، بينما العالم يمسك أنفاسه، مترقّبا في خوف
كانت الصواريخ الروسـية في كوبا موجّهة إلى الأرض الأمريكية، فأمر كينيدي بحصار بحري لكوبا . في لحظة التوتر الشديد هذه، أرسل خروتشوف رئيس جهاز مخابراته إلى واشنطن، ليتّصل بالصحفي الأمريكي جون سكالي، الذي كان رجل المخابرات السوفييتي على معرفة سابقة به
في اليوم الرابع للأزمة، مع تصاعد الخطر لحظة بلحظة، سأل الروسي ذلك الصحفي الأمريكي، عن رأيه فيما إذا كانت الولايات المتّحدة الأمريكية ستوافق على عدم غزو كوبا، إذا ما سحب السوفييت صواريخهم و قواعدها من كوبا . هذه الرسالة التي أوصلها الصحفي إلى البيت الأبيض، ثبت أنّها كانت مفتاح نقطة التحوّل في الأزمة
و من الأساليب الأكثر تعقيدا، ما يمكن أن نطلق عليه،"تكتيك القناة المزدوجة"، الذي يتضمّن إرسال رسالتين مختلفتين، قد تكونان متناقضتين، عبر قناتين مختلفتين ، لاختبار ردود الفعل، أو لبث الإرتباك بين مستقبلي هاتين الرسالتين . و أحدث مثال لهذا، ما يفعله بنيامين نتنياهو في مفاوضاته مع الفلسطينيين

التلاعب في استقبال الرسالة

بعد التلاعب في المعلومات على مستوى المصدر و القناة، نصل إلى التكتيكات المتّصلة بالشخص الذي يستقبل الرسالة، أو الطرف الآخر في عملية الإتّصال " تكتيك النفاذ "، هو أكثرها شيوعا
يحاول فيه الشخص أن ينفذ إلى رئيسه، مستهدفا التحكّم في المعلومات التي يستمدّها من ذلك الرئيس . و هي حيلة يعرفها و يمارسها كبار المديرين، كما يمارسها صغار القائمين على أعمال السكرتارية
أمّا "تكتيك تخصيص المعلومات أو المعارف"، فهو الذي يشيع في أوساط أجهزة المخابرات، والحركات السرّية الإرهابية . و فيه يجري تخصيص مجموعة من البيانات و المعلومات و المعارف، و حجبها عن الجميع، باستثناء عدد محدود من المستقبلين، يتاح لهم التوصّل اليها
و هذا هو بالضبط عكس "تكتيك تخصيص عدم المعرفة"، و يفيد عدم وصول المعلومات إلى شخص معيّن، أو جهة معيّنة . و يشيع استخدام هذا التكتيك على يد الرجل الثاني في أي موقع، لحماية رئيسه، الذي يمكن أن ينكر معرفته بالموضوع، إذا ما ساءت الأمور
و من نفس الفصيلة، "تكتيك الإرغام على المعرفة"، أو حماية الظهر . و فيه يسعى الباحث عن القوّة أو السلطة إلى التأكّد من أن الشخص الآخر قد أعلم بالموضوع، بحيث يشركه في اللوم، إذا ما ساءت العواقب

! تنويعات الخداع، و خداع الذات

الكمّ الهائل من المعلومات الذي يتدفّق عبر العقول المفكرة في الحكومة أو المؤسسة يومياً، يخضع لما لا نهاية له من تنويعات الخداع، و خداع الذات، التي تستهدف جوهر الرسالة المنقولة و مضمونها . و قد أجرى آلفن توفلر حصرا طريفا لهذه التكتيكات، كالتالي
تكتيك الحذف : لأن الأمور السياسية غالبا ما تكون نقاشية و ذات أوجه، يجري إختيار الرسائل بطريقة واعية، مع الإعتماد على العديد من الثغرات، التي تتيح للشخص أن يطبّق هذا التكتيك، حاذفا الحقائق المضادة، أو التي تهدّد أهدافه
تكتيك التعميم : بإخفاء التفاصيل التي يمكن أن تقود إلى خلق معارضة سياسية أو بيروقراطية . والعلاقات الدبلوماسية حافلة باستخدامات هذا التكتيك
تكتيك التوقيت : بتأجيل تسليم الرسالة، حتّي يكون الوقت متأخرا لفعل أي شيئ من جانب المستقبل . وخير مثال لهذا ما تفعله الحكومة من تقديم مشاريع القوانين إلى مجلس الشعب في آخر جلسة من الدورة البرلمانية، لضمان تفويتها
تكتيك التنقيط : هنا يتمّ الإفراج عن البيانات قطرة بقطرة، على أوقات متباعدة، بدلا من جمعها في مستند واحد، بهدف تفتيت نسق الأحداث، و بحيث لا تبدو الأمور بالوضوح المطلوب لدى المستقبل
تكتيك الإغراق : عندما يشكو المسئول من أنه محروم من المعلومات المطلوبة لعمله، يعمد اللاعب الماكر إلى إغراقه بطوفان من الأوراق، يتوه فيها، و يصعب عليه استخلاص الحقائق من بينها
تكتيك الدخان : فيه يتمّ إطلاق سحابة من دخان الشائعات، تتضمّن بعض الحقائق، بحيث يصعب على المستقبل أن يميّز الحقيقي من الزائف
تكتيك الضربة المرتدّة : هنا، يتم زرع قصّة زائفة في دولة بعيدة أو مكان بعيد، بحيث يمكن إلتقاطها من هناك، و إعادة نشرها في الصحافة المحلّية . و هذا التكتيك تعتمد عليه كثيرا أجهزة المخابرات و وكالات الدعاية
تكتيك الكذبة الكبيرة : إكتسب هذا التكتيك شهرة واسعة على يدي جوزيف جوبلز، وزير دعاية أدولف هتلر. الفكرة في هذا التكتيك أن الكذبة إذا كانت كبيرة بدرجة كافية، يصبح الناس أميل إلى تقبّلها، بعكس حـالة العديد من الأكاذيب الصغيرة . من ذلك، التقرير الذي نشرته موسكو عام 1987، و الذي يتضمّن أن وباء الإيدز العالمي أطلقته من عقاله وكالة المخابرات الأمريكية، خلال تجاربها التي تجري في ميريلاند للحرب البيولوجية . و عندما تمّ كشف زيف هذه القصّة، سارع العلماء السوفييت إلى إستنكارها
تكتيك العكس : و يتمّ فيه عكس الرسالة لتعطي ما هو مضادّ لمضمونها الأصلي . و خير مثال لهذا، ما حدث في إسرائيل في وقت وزارة إسحق شامير، الذي كان الحب مفقوداً بينه و بين وزير خارجيته شيمون بيريز . ذات يوم أصدر شامير تعليماته إلى وزارة الخارجية، لكي تبلّغ سفاراتها في أنحاء العالم أن بيريز ليست له سلطة تنشيط جهود عقد مؤتمر دولي للسلام . تلقّي مكتب بيريز الرسالة، فألقيت ببساطة في سلّة المهملات، و جرى إرسال برقيّات إلى السفارات، تحمل عكس هذا التوجّه . عنما إستنكر أحد المسئولين بالخارجية هذا الإجراء، كانت إجابة مكتب بيريز: كيف تطرح مثل هذا؟ ..ألا تدري ؟، إنّها حرب

صراعات القوّة، و مذبحة الحقائق

الذي يمكن أن نأخذه مأخذ الجد من التصريحات و الرسائل، أو"الحقائق"، في الحياة الحكومية أو السياسية، هو أقل القليل . بل لا يكاد يوجد في هذا المجال ما هو خال من تأثيرات صراع القوّة
معظم البيانات و المعلومات و المعارف، التي تتدفّق في أروقة الحكومة و مكاتبها، تخضع لدرجة عالية من المعالجة السياسية . لو تساءلنا : لمصلحة من تتمّ هذه المعالجة و هذا التحوير و التبديل ؟، فإننا لن نصـل إلى الإجابة الصحيحة عن هذا التساؤل، سنظل غير قادرين على الغوص إلى الحقائق الكامنة خلفها
بالطبع، يحدث هذا قبل ان تبدأ وسائل الإعلام عملياتها التالية، في إعادة صياغة "الحقائق المحرّفة"، بحيث تتّفق مع متطلّباتها . فالرسالة الإعلامية، في جميع وسائل الإعلام المقروء و المسموع و المرئي، تحمل المزيد من :تحريف الحقائق

الذي لا يعرفه المسئولون

عواقب هذا الذي تحدثنا عنه، تنصبّ على جوهر العلاقة بين الديمقراطية و المعرفة
فالشرط المسبق للممارسة الديموقراطية، هو أن يكون الجمهورعارفاً، مزوّداً بالمعلومات و الحقائق . وما تقوم به الحكومة و الأحزاب من مناورات و تكتيكات معلوماتية، يجعل الجمهور غير قادر على ممارسة الديموقراطية الحقّة
إن ما استعرضناه في هذا المجال، لا يشكّل سوى القليل من الحيل و الخدع التي يمارسها السياسيون والمسئولون في جميع عواصم العالم . فالأذكياء من السياسيين و البيروقراطيين، يعلمون أن البيانات والمعـلومات والمعارف عبارة عن أسلحة قتالية، مشحونة بالذخيرة، متأهّبة للإنطلاق، على أرض صراعات القوّة، التي تشكّل جوهر الحياة السياسية
لكن، الذي لا يعرفه معظم المسئولين و السياسيين، هو أن كلّ هذه الألاعيب و الحيل، لاتخرج حاليا عن كونها عبث أطفال . فالصراع على القوّة و النفوذ تتغيّر طبيعته و آليّاته بدخولنا إلى مجتمع المعلومات، حيث السبيل الرئيسي للقوّة، الوصول إلى معارف عن المعارف الشائعة

Saturday, December 4, 2010

مسيرة التدهور و الضياع

نهضة مصر – الثلاثاء 8 / 11 / 2005

! ما أشبه الليلة بالبارحة
.. في مثل هذه الأيام منذ خمس سنوات كتبت هذه الكلمات
و ما زلنا نمضي ـ بخطوات أوسع بكثير ـ في نفس مسيرة التدهور و الضياع
.. فما أشبه الليلة بالبارحة

..مولد الانتخابات
و الشعب الذي تاه يا أولاد الحلال

مولد الانتخابات اقترب من ليلته الأخيرة، و توزّعت الخيام على الساحة، و وقف صاحب كل خيمة على بابها يتغنّى ببضاعته، و يدعو الجميع إلى عجيبته التي ينفرد بها عن الآخرين .. البعض حليق الرأس، و البعض الآخر يعتمر العمامة، أو القبعة العالية، أو الحطّة و العقال .. حشود من المهرّجين و البهلوانات و نافثي النيران . و عندما تقترب الليلة من نهايتها، تخفت الأصوات، إلاّ من غناء كالأنين ينادي على الشعب التائه، الذي ضاعت مصالحه في صخب ذلك المولد
ليس هذا مجرّد تشبيه، بل هو وصف دقيق لما يحدث في الانتخابات البرلمانية الحالية، المرشّحون يعلنون عن برامج ليس لها صله بصالح مستقبل هذا الشعب، و لكنّهم يسعون إلى صوته ـ الصلة الوحيدة التي تربطهم به ـ بكل الوسائل الممكنة، بالأحلام الوردية الساذجة، و الوعود الكاذبة .. و أحيانا بالضغط و القهر و التهديد، و أحيانا أخرى بالتزوير و التدليس

! تدليع الانتهازية

و ليس في هذا من جديد، فهو تكرار دقيق للسيناريو المعمول به في جميع الانتخابات البرلمانية المصرية، قبل الثورة و بعدها
الجديد في الأمر أن شباب أمانة السياسات بقيادة جمال مبارك يقومون بنفس المناورات الانتخابية الانتهازية، غير المبدئية، التي تعودّنا عليها من شيوخ الحرس القديم، بقيادة أستاذ اللعبة كمال الشاذلي .. الفارق الوحيد هو أن شباب جامعة هوبكنز، و تلامذة فوكوياما، و صبيان الحملات الانتخابية للمرشّحين الأمريكيين، يطلقون على هذه الانتهازية لفظ " البراجماسية " أو " البراجماتية "، و هو كما يبدو أقل جرحا للكرامة .. بل أدعى للاعتزاز باعتبار أن البرجماسية، أو الذرائعية، هي فلسفة الشعب الأمريكي الرائد (!)، و كان قد صاغها ديوي لتنسجم مع طبيعة تشكيل ذلك الشعب فاقد الأصول و الركائز، لتكون دستورا مناسبا لذلك التجمّع البشري الوافد من كل مكان .. و فلسفة الذرائعية ـ لمن لا يعرف ـ تعتبر كل ما هو نافع و مفيد خيرا، و كل ما ينتقص الفوائد و المنافع شرّا .. و هي لتي تقول أن الله يكون موجودا لو كان نافعا .. و هي أصل التعبير الشائع عند الساسة السذّج " محور الشر "، ليطلق على كل من يقف في وجه المصالح الأمريكية
هل تعرفون السر في هذا الارتماء السريع من جانب جمال مبارك و شبابه في أحضان الممارسات السياسية للحرس القديم ؟ .. إنّه غياب الفكر و المنهج و الرؤية المستقبلية لمصر عند القديم و الجديد معا .. ذلك الغياب الذي لا تنفيه عشرات المؤتمرات التي تعقدها أمانة السياسات، و لا مئات الصفحات التي تطرح برامجها.. والتي ثبت أنها نفس برامج الحزب الوطني التقليدية، مع المزيد من تقنين النهب الاقتصادي لمصر

الأحلام و الأماني، لا تكفي

برامج الحزب الوطني، و أمانة السياسات أيضا، عبارة عن تجميع أحلام و أماني، و طرح نتائج جرد لكل التوصيات التاريخية، التي يعرفها جيدا من يوكل إليهم تدبيج تلك البرامج في المناسبات المختلفة، من فلول مدرسة "منظمة الشباب"، التي استولت على مقاليد و وزارات مصر على مدى العديد من العقود، رغم وقائع الفشل المتكررة التي ارتبطت بجهدهم، و رغم الأفكار الفاشية لمعظمهم
أعود و أكرر، للمرّة الألف، أن أي برنامج يوضع لمستقبل مصر، يجب أن يقوم على أمرين
أولا : فهم لطبيعة التحوّل من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات . و إدراك للنظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي يقوم عليها مجتمع المعلومات
ثانيا : فهم للخريطة الحضارية الراهنة لمصر.. إلى أي مدى تسود أهلها قيم عصر الزراعة، و إلى أي مدى تسود قيم عصر الصناعة، و إلى أي مدي قد اقتربوا من واقع مجتمع المعلومات
ثم علينا أن نفهم جيدا أثر التكنولوجيات الابتكارية الكبرى، كالآلة البخارية في عصر الصناعة، و الكمبيوتر في عصر المعلومات .. أثرها على النظم و القيم الجديدة التي تأتي بها لتحل محل النظم و القيم النابعة من المجتمع السابق
للمزيد من الوضوح أطرح مثالا واضحا ـ لا خلاف عليه ـ من تاريخ البشر

العبودية و الرقّ

لقد كانت العبودية، بمعنى ملكية إنسان للحم و دم و عظام إنسان آخر، أمرا مقبولا و مأخوذا به، و متوافقا مع احتياجات العمل و الاقتصاد الزراعي، على مدى عشرة آلاف سنة .. كانت طبيعة العمل و العلاقات في المجتمع الزراعي قابلة للرقّ، و لا يستنكره سوى قلّة من المفكرين و الأدباء والشعراء، و رافعي لواء حرّية الإنسان
لقد تمرّد العبيد على حياتهم البائسة أكثر من مرّة على مدى التاريخ، و ساندهم في هذا العديد من الحالمين بالحرية .. و ظهر المتمرّد الأكبر سبارتاكوس ليقود ثورة للعبيد، التي ما لبثت أن خمدت، وبقي نظام العبودية أو الرق أو السخرة الكاملة كممارسة طبيعية في المجتمع الزراعي
و الملاحظ، أن الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية و المسيحية و الإسلام، لم تحرّم امتلاك العبيد ! ,, ربّما تكون قد طلبت الرحمة بهم، و حاولت تذكير مالك العبد أنّه يتعامل مع إنسان، غير أنّها أقرّت العبودية باعتبارها احتياجا اقتصاديا لعصر الزراعة، الذي ظهرت خلاله الأديان الثلاثة

الحرب الأهلية الأمريكية

و أمريكا .. حلم البشر التي هاجر إليها المغامرون و المضطهدون و الحالمون و المجرمون و الخارجون على القانون، القادمون من مختلف أنحاء العالم، و اعتبروها أرض الميعاد بالنسبة إليهم .. سرعان ما قامت فيها أكبر أسواق النخاسة في العالم، يتدفّق إليها زنوج أفريقيا، مكبّلون بالسلاسل بعد اختطافهم، ليعانوا من السخرة في حقول القطن .. شاعت العبودية في أمريكا، و بخاصّة في الشقّ الجنوبي منها
ظلّ هذا هو قدر العبيد، إلى أن تم اختراع الآلة البخارية، المقدمة الأولى لعصر الصناعة، و السبيل لانتشار المصانع المعتمدة على هذه التكنولوجيا، و ما تطوّر عنها من تكنولوجيات كهروميكانيكية، أكثر تطوّرا
في البدايات الأولى لأمريكا، تركّزت الصناعة في الشمال، و بقي الجنوب زراعيا في معظمه.. يعتمد في اقتصاده على القوّة العضلية للزنوج الذين كانوا يجلبون قسرا من أفريقيا، ليعملوا كعبيد في المزارع . و هذا يعني تناقضا أساسيا في بنية الدولة الأمريكية، و تمزّقا بين النظم الزراعية و النظم الصناعية، مع كل التناقض بينهما
و من هنا قامت الحرب الأهلية الأمريكية، في حقيقة أمرها، بين الشمال الصناعي و الجنوب الزراعي .. قامت لتجيب على سؤال حول مستقبل أمريكا : هل ستبقى أمريكا زراعية أم ستصبح صناعية ؟
و عندما انتصر الشمال الصناعي، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية دولة صناعية، تمضي في صناعتها و زراعتها وفق أسس و مبادئ و تقاليد المجتمع الصناعي .. هنا فقط، بدأ اسـتغناء أمريكا عن نظام العبـودية .. متى ؟، عندما لم يعد العمل و الاقتصاد الصناعي في حاجة لامتلاك العبيد .. أو بمعنى أكثر دقّة، لم يعد يحتاج إلى هذا النوع من امتلاك الجسد، فقد كانت لعصر الصناعة أساليبه الخاصّة في استعباد العامل على خطوط التجميع

الآلة البخارية .. كرمز

و كما كانت الآلة البخارية هي رمز عصر الصناعة، ظهر الكمبيوتر ليصبح رمزا لعصر المعلومات
و أعود إلى ما سبق أن قلته من قبل .. التكنولوجيات الابتكارية الكبرى، مثل الآلة البخارية و الكمبيوتر، تبدأ بأن تحل محل الجهد البشري للإنسان فيما يقوم به، ثم تتطوّر لتتجاوز ما يقوم به الإنسان، أم ما يمكن أن يقوم به مستقبلا، و أخيرا يحدث الأهم ـ و الذي يهمنا أن نتذكّره ـ و هو أن تطوّر هذه التكنولوجيا الابتكارية يقود إلى تغيير النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية القائمة، و تحويلها إلى نظم جديدة تماما
و عندما أقول أن الآلة البخارية ـ و ليس سبارتاكوس ـ هي التي حررت العبيد و أنهت الرق في حياة البشر، فأنا لا أقصد الآلة البخارية ذاتها، و لكن أعني النظم التي فرضتها من خلال النظام الصناعي الذي استند إليها، و جاءت مختلفة تماما عن نظم مجتمع الزراعة، التي كانت ترى أن حاجتها الاقتصادية تبرر نظام الرقّ

.. باختصار

أولا : جميع البرامج المطروحة في هذا المولد الانتخابي، لا تنبع من رؤية مستقبلية حقيقية لمصر .. بل أن جانب كبير منها متناقض مع مصالح مصر على المدى القريب و البعيد
ثانيا : الفساد السياسي و الإداري و الأخلاقي الذي يسود هذه الانتخابات، و ينخرط فيه معظم المرشّحين، يهدم أساس و جوهر الممارسة الديموقراطية
ثالثا : كما جاء النظام الصناعي لينسخ نظام العبودية و الرق، جاء مجتمع المعلومات لينسخ هذا الشكل الأثري للممارسة الديموقراطية، الذي اخترعه رواد الصناعة تحت اسم ( ديموقراطية التمثيل النيابي )، و ليطرح شكلا جديدا للممارسة الديموقراطية، بتناسب مع معلومات و ثقافة إنسان عصر المعلومات .. أعني بذلك الديموقراطية الأمل .. ديموقراطية المشاركة

Monday, November 22, 2010

مهازل الديموقراطية المصرية

نهضة مصر – الثلاثاء 15 /11/ 2005

.. مهازل الانتخابات الحالية
!! و عجـائب اللا معقـول

من فرط ما استجبنا للتلقين، و استندنا إلى سنن الأقدمين، فقدنا القدرة على التساؤل .. بل قد نكون قد فقدنا الرغبة في أن نعرف حقيقة و أسباب الأشياء، صغيرها و كبيرها .. نتعلّم في مدارس، و نعلّم فيها، و يذهب إليها أبناؤنا، و مع ذلك لم يحدث أن توقّف أحدنا ليتساءل : لماذا هي كذلك ؟ .. نشارك في الانتخابات النيابية، و ندخل في معاركها، و نترقّب بحماس نتائجها، و تمضي الدورة البرلمانية تلو الأخرى، و لم يحدث أن سألنا أنفسنا عن الجدوى الحالية لهذا الشكل من أشكال الممارسة الديموقراطية
إلى متى نظلّ نسعى وفق خطط مجهولة الصاحب و الغرض ؟ .. إلى متى نتهرّب من محاولة التفكير الناقد، الذي يتيح لنا أن نتعرّف على صلاحية الأشياء التي نقوم بها أو نخضع لها ؟
ومتى نستجيب لنداء العصر، عصر المعلومات، فنمارس حقنا و واجبنا في التفكير الابتكاري، الذي يسمح لنا بالنظر إلى الأشياء من منظور غير تقليدي، فنعرّيها من ثياب تنكّرها التي تراكمت عليها عبر الزمن لتخفي حقيقتها ؟، ثم يتيح لنا أن نكتشف البدائل الأكثر تعبيرا عن صالحنا، و أكثر انسجاما مع عصرنا ؟
لماذا ينقصنا دائما التفكير الواضح، في أحوالنا و أحوال العالم من حولنا ؟ .. لماذا يتجاوز هذا عامة الناس، و من فرضنا عليهم الأميّة مصيرا، و نراه شائعا بين معظم مثقفينا و كتّابنا و أساتذة جامعاتنا، و قيادات أحزابنا، قيادات ما نطلق عليه تعبير " الحزب الوطني الديموقراطي "، القديمة و الجديدة، و ما يستجد منها عند بلوغ الأحفاد السن
القانونية ؟

ما المناسبة ؟

و قد يسأل سائل: و ما مناسبة هذه المقدمة الطويلة، و الأسئلة التي لن تجد من يجيب عنها، و نحن في قلب معركة تكسير العظام الانتخابية ؟
أجيب، بأن فرط الإسفاف السياسي المصاحب لهذه الحملة الانتخابية، و كمية الزيف و الكذب و التلفيق التي تتردد على ألسنة الجميع، و في مقدّمتهم أباطـرة الحزب الحاكم، و فحش الرشاوى العلنية النقدية و العينية .. و أيضا من فرط خوفي من أن يتصوّر بسطاء الناس أن هذا الذي يجري في أنحاء مصر له علاقة بالديموقراطية عامة، أو حتّى بديموقراطية التمثيل النيابي .. و أيضا خشيتي من تصور المثقف المصري أن هذا النوع من الديموقراطية، الديموقراطية النيابية، هدفا مثاليا لجميع العصور، و سنّة من السنن التي تستوجب تكفير كل من يدينها، و كلّ من يعلن ـ بعلمه ووعيه و تجربته ـ أنها فقدت صلاحياتها في جميع أنحاء العالم، نتيجة لتحول البشر من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات

ديموقراطية التمثيل النيابي، التي تنكر على المواطن قدرته على اتخاذ قراراته فيما يمس حياته، و تفرض عليه أن ينيب عنه من يتولّى هذا من نخبة اتخاذ القرارات .. و التعليم القائم على التلقين، و على إعداد السواد الأعظم من
الدارسين للقيام بالأعمال العضـلية أو اليدوية الروتينية المتكـررة التي لا تحتاج إلى إعمال العقل .. والإعلام الجماهيري، الذي يسعى إلى قولبة الجماهير، و تعويدها على قبول ما تفرضه النخبة الحاكمة .. و نظم الإدارة البيروقراطية، القائمة على النظام الهرمي لتسلسل الرئاسات، التي تحتكر فيها الصفوة عند قمة الهرم عمليات التفكير و الابتكار و اتخاذ القرارات، و لا يكون على القواعد سوى التنفيذ دون تساؤل .. و الاقتصاد القائم على الفصل بين الإنتاج و الاستهلاك، و تعظيم الأرباح على حساب البيئة و الإنسان .. هذه النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية بدأ ظهورها في حياة البشر بعد انطلاق الثورة الصناعية، و التي صاغها الآباء الأوائل للثورة الصناعية، بهدف تعظيم الأرباح الصناعية، و ترسيخ مكانة الصفوة

الانتخابات كأداة في يد الصفوة

الديموقراطية النيابية، أو ديموقراطية التمثيل النيابي .. أو الديموقراطية التي يقوم فيها سكّان رقعه من الأرض باختيار من ينوب عنهم في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياتهم، باعتباره أقدر منهم على معرفة ما هو في صالحهم .. هذه الديموقراطية كانت نصرا للشعوب في بدايات عصر الصناعة، و ساهمت في إدخال عناصر من الشعب و طبقته المتوسطة إلى عملية اتخاذ القرار التي كانت قاصرة على الصفوة قبل ذلك، و اقتضت وجود الأحزاب التي تلعب دور الوسيط بتجميع الأصوات، التي هي وقود العملية الانتخابية
و في هذا يقول المفكر المستقبلي ألفن توفلر : لابد من الاعتراف بأن الحكومة القائمة على التمثيل النيابي و الانتخاب، و التي ولدت من الأحلام التحررية لثوار المجتمع الصناعي، كانت تقدما مدهشا بالنسبة لنظم السلطة السابقة عليها .. و بفضل تمسّك هذه الحكومة القائمة على التمثيل الانتخابي بمبدأ حكم الأغلبية، و بحق كل إنسان في إعطاء صوته، ساعدت بعض الفقراء و الضعفاء في استدرار بعض المنافع، و ظهرت الحكومة في مطلع الثورة الصناعية بمظهر الثورة الإنسانية .. و مع ذلك، و منذ البدايات الأولى، عجزت تلك الحكومات دائما عن الوفاء بالتزاماتها، و فشلت في تغيير البناء التحتي للسلطة .. و هكذا تحوّلت الانتخابات، بصرف النظر عمن يربح فيها، إلى أداة حضارية قوية في يد الصفوة
ملحوظة : هذا هو ما يقوله توفلر، لكنها عندنا تحولت إلى أداة قمعية في يد السلطة المزمنة

ما الذي تغيّر.. و متى ؟

ظلّت ديموقراطية التمثيل النيابي، بتنويعاتها المختلفة، هي الشكل المعتمد للممارسة الديموقراطية في العالم، إلى أن انسحبت الأسس و المبادئ التي قامت عليها من حياة البشر . حدث هذا بعد قيام ثورة المعلومات، و تبلور شكل مجتمع المعلومات في نهايات القرن الماضي
فقدت النظم القديمة في الاقتصاد والممارسة السياسية و التعليم و الإدارة و الإعلام .. فقدت مصداقيتها، لتناقضها مع الواقع الجديد الذي أحدثه التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات . و في جميع المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، بدأ البحـث عن النظم الجديدة التي ستحل محلّ النظـم القديمة .. و كانت النظم الجديدة للممارسة السياسية من بين الأمور التي شغلت فكر المفكرين
و بديهي أن نواقص الممارسة السياسية التي نشهدها هذه الأيام في انتخاباتنا النيابية، لا تشبه في شيء المشاكل التي واجهت الممارسة الديموقراطية في الدول الديموقراطية العريقة . لكن الثابت أن التركيبة بأكملها لم تعد قابلة للتطبيق .. الأحزاب، و صناديق الانتخابات، و اختيار نوّاب عن الشعب يتولّون عنه مهمة اتخاذ القرارات، و تحوّل نواب الشعب إلى جانب من كيان الصفوة التقليدية، بمجرّد انتخابهم
الأسباب الحقيقية

المسألة ليست ـ كما هي عندنا ـ تزوير في كشوف الانتخاب، و ضغوط أمنية و أدبية و مالية على الناخبين و المرشّحين، و رغبة من النظام الحاكم ـ و قياداته العليا ـ في عمل كل ما يبقي له سيطرته و سلطانه .. المسألة ترتبط بالمستجدات التي خلقتها ثورة المعلومات، و أوجبها مجتمع المعلومات، و هي
أولا : التكنولوجيات الحديثة في مجالات المعلومات و الاتصالات و الانتقالات أتاحت للبشر تدفّقا متواصلا من المعلومات و المعارف، و جعل بإمكان الفرد أن يعتمد على نفسه، أيا كان عمره، في متابعة كل ما هو جديد في الحياة و نظمها، و قاد إلى تحوّل السواد الأعظم من العمالة العضلية إلى العمالة العقلية . لقد ارتفع التعليم الذاتي، المعتمد على التكنولوجيات الجديدة، بمستوى معارف و تفكير و القدرات الابتكارية الفرد، ممّا جعله أكثر خبرة من معظم النواب فيما يجب اتخاذه من قرارات فيما يتصل بالأمور التي تمس حياته بشكل مباشر
ثانيا : تزايد المعلومات و المعارف المتاحة للأفراد، و تباين استجاباتهم لها، خلق تنوّعا واسعا بين الأفراد، فلم يعودوا الآحاد المتطابقة التي قامت على أساسها جميع النظم الجماهيرية في المجتمع الصناعي، التعليم الجماهيري، و الإعلام الجماهيري، و أيضا الديموقراطية الجماهيرية
ثالثا : و انعكس هذا على النظم الإدارية التي نعتمد عليها في حياتنا، و بدأ التحوّل من المركزية إلى اللامركزية، و تغيّرت العلاقة بين القيادة و القاعدة، و اختفت طبقة الإدارة الوسيطة، فحدث انقلاب في تصميم المؤسسات، نتيجة للتحوّل من التنظيمات البيروقراطية الهرمية، إلى التنظيمات الشبكية . هذا التحوّل يتيح إقامة ديموقراطية لامركزية، تجعل الحكم المحلّي حقيقة مؤثّرة في حياتنا

* * *

لعل ما أوردناه من نقاط، يتيح لنا إدراك أن ما نحن بصدده بالنسبة للممارسة الديموقراطية، ليس مجرّد تجويد، أو تحسين، أو تخلّص من نواقص التطبيق .. إننا بصدد شكل جديد للديموقراطية، يشارك فيه كل فرد في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياته، فلا ينيب أو يوكّل من يقوم نيابة عنه بذلك .. ديموقراطية لامركزية ترتبط ارتباطا وثيقا بإعطاء أهمية مضاعفة للحكم المحلّي، و تستفيد من التكنولوجيات المعلوماتية في التصويت و تبادل الآراء و الأفكار .. يطلق عليها مؤقّتا اسم : ديموقراطية المشاركة
كيف ؟ .. هذا حديث آخر، لا تحتمله عقول المصريين هذه الأيام وسط مهازل الانتخابات الحالية، و عجائب اللامعقول التي تشيع فيها

؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
هل تصدّق أن هذا كتبته و نشر إبان انتخابات 2005 ؟
و هل سيظل صالحا لانتخابات 2015 ؟
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

Saturday, November 20, 2010

لماذا كلّ هذا الفشل ؟


البحث عن المنهج المناسب

دعوة للتفكير المنظّم
تتجاوز مستنقع الانتخابات الذي نقاد إليه


(1 ) متى يفكّر الإنسان ؟

ــ عندما تتغير الأوضاع الخاصة، أو العامة . ففي أحوال الثبات التام (و هذا فرض نظري) لا يحتاج الإنسان إلى التفكير . أمّا عندما تتغيّر بعض الأوضاع، يجد نفسه محتاجا للتفكير في أثر هذه التغيرات على نظم حياته المستقرّة، لكي يعدّل من مواقفه و تصرفاته، بما يناسبه . و التغيّر هنا قد يكون شعورا بالإجهاد، أو موقفا غير معتاد ممن هم حوله، أو ارتفاعا في سعر سلعة او خدمة، إلى تغيّر مفاجئ في الطقس عند التفكير في هذه الأحوال، أحوال التغيير البسيط أو النسبي، يكفي الإنسان الاعتماد على خبراته السابقة، أو خبرات من هم حوله

(2) ما هي أمثلة التغيرات النسبية في حياة البشرية ؟

ــ امتدّ عصر الزراعة إلى ما يقرب من عشرة آلاف سنة .. و هو العصر الذي قامت فيه حياة البشر أساساعلى الزراعة في جميع قارات العالم . كلما انتقلت مجموعة من البشر من الاعتماد على القنص أو الرعي، إلى الاعتماد على الزراعة، مستقرّة فوق رقعة محددة من الأرض، سادت قوانين أساسية واحدة للحياة، رغم اختلاف الأعراق و الأجناس و الطبيعة و المناخ
طوال ذلك الزمن الطويل، خضع أبناء المجتمعات الزراعية لنفس الأسس الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و سادت بينهم نفس منظومة القيم و الأخلاق
ملاحظة هامة : الثابت أن هذه الأسس جميعا نبعت من طبيعة الحياة الزراعية السائدة، و التي حددت أطر حياة البشر في المجتمعات الزراعية . و لقد بقيت تلك الأسس على حالها، طوال ذلك الزمن، رغم التغيرات النسبية العديدة التي طرأت على أفكار و عقائد و علوم أبناء المجتمع الزراعي ... و هذا يقود إلى أن طبيعة العمل السائد تحدد أسس حياة البشر

(3) بماذا تختلف التغيرات النسبية عن التغيرات الكبرى ؟

ــ في حالة التغيرات النسبية، يمكننا الاعتماد على السوابق، و على رصيد خبراتنا، أو خبرات من هم حولنا ممن سبقونا إلى المرور بتلك التغيرات .. و هكذا تتوفر المرجعيات للقياس و الاستفادة . و يمكننا أن نرى أمثلة لذلك، في تبادل الخبرات و المعارف بين الحضارات المصرية والإغريقية و الفارسية و الهندية و الإسلامية ..التي كانت جميعا حضارات زراعية يعيش أهلها على الزراعة أساسا

ــ في حالة التغيرات الجذرية الشاملة، تفقد الخبرات الحالية و السوابق قيمتها، و لا يجد البشر مرجعيات متاحة، في أي مكان على الأرض.. فالجميع يواجه نفس الأزمة . مثال ذلك انتقال البشر من الزراعة إلى الصناعة، في أعقاب اختراع الآلة البخارية . لم تعد الأسس الاجتماعية والاقتصادية و السياسية و منظومة القيم النابعة من واقع الحياة الزراعية صالحة للتعامل مع الحياة الصناعية، بعد أن فقدت مرجعيتها
و هذا هو أساس المشاكل المزمنة في مصر، لكل من يتصدّي للتفكير في الإصلاح عندنا، متصورا أن بالإمكان إصلاح أو إعادة بناء أي شيء على حدة دون أن ينبع ذلك من رؤية شاملة للتغيرات التي يمر بها العالم، سواء كان الإصلاح يتصل بالتعليم، أم الموارد الاقتصادية، أم النقل، أم الأسرة، أم بالممارسة الديموقراطية ، أم بالفساد
هذا هو سر إخفاق المخلصين الأذكياء، بين المفكرين و النشطين السياسيين، و المسئولين الأمناء في دوائر الحكم عندنا، الذين يتصورون إمكان تحقيق شيء، قبل فهم طبيعة التغيرات الحادثة و أبعادها، و دون التوصّل إلى رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع منها الاستراتيجيات و الخطط، في جميع مجالات الحياة

(4) ماذا نفعل في مواجهة التغيرات الجذرية الشاملة ؟

ــ نفعل ما فعله مفكّروا عصر الصناعة الأوائل . درسوا مؤشرات التغير الأساسية التي فرضتها طبيعة العمل الصناعي، التي يتواصل و يتزايد أثرها، و التأثير المتبادل بين تلك المتغيرات مثل
أ ـ ما أتاحته الطاقة الميكانيكية من إنتاج على نطاق واسع و استهلاك على نطاق واسع
ب ـ و ما ترتّب على ذلك من انفصال للإنتاج عن الاستهلاك ـ
ج ـ ممّا اقتضي قيام السوق بمعناها المستجد، و ما ترتب علىّ هذا من مؤسسات اقتصادية مستجدة . و اكتشفوا سقوط النظم النابعة من عصر الزراعة،في مجال الأسرة، و التعليم،و الإدارة و العمالة و العمل و في النظم الاقتصادية و تشكّّل منظومة جديدة للقيم و الأخلاق
د ـ و اكتشفوا المبادئ الجديدة التي يقوم عليها عصر الصناعة، و التي تختلف ـ بل و تتناقض كثيرا ـ مع المبادئ التي قامت عليها الحياة طوال العمر الممتد لعصر الزراعة
هـ ـ تلك المبادئ التي اقتضاها قيام الحياة على الصناعة مثل : النمطية و التوحيد القياسي لكل شيء ـ ضبط الزمن و تحقيق التزامن ـ التخصص الضيّق ـ التركيز في كل شيء ـ المركزية الشديدة ـ عشق الضخامة
و نشط المفكرون في رسم إطار الرؤية المستقبلية لبلادهم، و فقا لمدى تحوّلهم من الزراعة إلى لصناعة . و مع كل الاختلافات بين المجتمعات الصناعية في العالم ـ على مدى ثلاثة قرون تقريبا، هي عمر عصر الصناعة ـ ظهر أن أسس الحياة الصناعية كانت واحدة، و قد خضعت لتلك الرؤية جميع المجتمعات الصناعية في جميع القارات، و سواء كانت تمضي وفق النظم الرأسمالية أم الاشتراكية
و السرّ في هذا، هو أن التكنولوجيا السائدة، تفرض نوع العمالة السائدة، و تنتهي في آخر الأمر برسم أسس الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية
و هذا يتم على ثلاثة مراحل
أولا) تقوم التكنولوجيا الجديدة بالعمل الذي كان الإنسان يقوم به
ثانيا) توفّر هذه التكنولوجيا إمكانات في العمل، لم يكن ـ و لن يكون ـ بإمكان الإنسان أن يقوم بها
ثالثا) بناء على ما سبق، تتحوّل البنى الاجتماعية و الاقتصادية القائمة، إلى نظم اجتماعية و اقتصادية جديدة

و يمكننا فهم هذا بشكل أوضح لو تأملنا التحول في مبادئ الحياة بين عصري الزراعة و الصناعة و دراسة هذا التحوّل تساعدنا كثيرا في تناول التحولات الكبرى التي نمر بها الآن، و التي تتجاوز ـ في قوّتها و تسارعها ـ انتقال البشر من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة

(5) هل يفيدنا هذا في فهم التغيرات الكبرى
التي يمر بها لبشر حاليا ؟

ــ يفيدنا كثيرا أن ندرس تحوّل البشر من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة، في فهم التحوّل الحالي من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات ( لماذا هذه التسمية، و من أين أتت، سنطرحه فيما يلي من تساؤلات ) . نحن نمرّ بنفس التغيرات الكبرى التي سبقت عصر الصناعة، و لكن بشكل أكثر قوّة و تأثيرا و شمولا . تغيرات اليوم متلاحقة متسارعة بطريقة غير مسبوقة، و هي تلاحقك شئت أم أبيت .. طوال عصر الصناعة، كان بإمكان دولة ما أن تقرر المضي في حياة الزراعة بنفس أسس عصر الزراعة . هذا إذا لم يجد الاستعمار النابع من طبيعة النظام الصناعي حاجة لاستعمارها .. أمّا اليوم فليس بإمكان أي دولة صغيرة أو كبيرة، قريبة أو بعيدة، أن تتجاهل التحوّل الشامل إلى عصر المعلومات


(6) كيف نرسم معالم الرؤية المستقبلية
لمجتمع المعلومات ؟

ــ نفعل مافعله المفكرون الأوائل لعصر الصناعة، من موقع أفضل، بفضل قدرتنا على دراسة مرحلة التحوّل الأخيرة من الزراعة إلى الصناعة، و الاستفادة منها في فهم التحوّل الجديد
أولا : ندرس مؤشرات التغير العظمى التي طرأت على حياتنا منذ منتصف القرن العشرين تقريبا
ثانيا : نختار منها المؤشرات متزايدة التأثير،و مطّردة النمو
ثالثا : ندرس التأثيرات المتبادلة بين تلك المؤشرات الأساسية المختارة
رابعا : نحدد المبادئ الأساسية للمجتمع الجديد، و نتتعرّف على آثار الاعتماد على التكنولوجيا المعلوماتية ( الرقمية ) في صياغة الأسس الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية للحياة في المجتمع لجديد
خامسا : و من هذا يمكن أن نرسي أسس الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات


(7) لماذا نطلق اسم مجتمع المعلومات
على المجتمع الجديد ؟

ــ رغم انه من الصعب أن نقصر أسباب الانتقال من عصر لآخر على سبب واحد أو سببين، إلا أنه من الواضح أن التغيرات الأساسية اتي مرّت بها حياة البشر، منذ منتصف القرن العشرين، ترجع إلى حدّ كبير إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم : ثورة المعلومات
و لكي نفهم مدلول هذا الاسم، نطرح ما يمكن أن نطلق عليه " الدائرة النشطة " . على محيطها تنتظم عناصرها التي تقود إلى بعضها البعض بشكل متواصل . هذه العناصر هي
أولا : تزايد لمعلومات المتاحة و تدفقها . بفضل تطوّر و سائل الاتصال و الانتقال
ثانيا : قاد هذا إلى ضرورة تطوير تكنولوجيات المعلومات، لمواجة ذلك التدفّق
ثالثا : قاد هذا بدوره إلى المزيد من اندفاع و توالد المعلومات و المعارف، ممّا أتاح للبشر أن يتحرروا من نمطية المجتمع الصناعي، و أن يتعرّفوا على أساليب حياة تختلف عن أسلوب حياتهم .. فبدأ الناس يتمايزون في مشاربهم و توجّهاتهم و في رغباتهم و ساليب حياتهم .. و هذا التمايز في حدّ ذاته خلق المزيد من لمعلومات .. و هكذا مضت الدائرة النشطة
رابعا : هذا التفاعل المتسلسل، و الذي يقوم على التعامل مع المعلومات، هو الذي قاد إلى تسمية : مجتمع المعلومات

(8) بماذا تفيد الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات ؟

ــ الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات، هي التي نستنبط منها مستقبل أي شيء في مجتمع المعلومات ، في النواحي الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية ( كمسقبل الأسرة، أو التعليم، أو العمالة، أو الإدارة، أو الاقتصاد، أو الممارسة الديموقراطية، أو الإعلام) ، و تدلنا على المبادئ الأساسية لمجتمع المعلومات، من حيث اختلافها عن المبادئ التي سادت عصر الصناعة، و التي تفيد التحوّل
من العمل الجسدي، إلى العمل العقلي
من انتاج البضائع، إلى انتاج المعلومات...بالنسبة لمركز ثقل الإنتاج
من المركزية إلى اللامركزية، و من التنظيم الهرمي إلى التنظيمات الشبكية
من تلويث البيئة إلى حمايتها
من وقود الحفريات إلى أشكال جديدة ومتجددة من الطاقة
من الاقتصار على المواد الخام المستخرجة من جوف الأرض، إلى الاعتماد على الخامات المخلّقة
من فصل الإنتاج عن الاستهلاك، إلى اقتصاد تعاوني، و إنتاج من أجل الاستهلاك الشخصي
من التمثيل النيابي، إلى المشاركة في اتخاذ القرار
من الاعتماد على المؤسسات، إلى الاعتماد على الذات
من الاقتصاد القومي، إلى الاقتصاد العالمي :جلوبال

(9) و ماذا عن الرؤية المستقبلية لمصر ؟

التوصّل إلى الرؤية المستقبلية لمصر، يقتضي الوضوح حول أمرين، الهدف، و المنطلق
أولا : الهدف المنشود هو اللحاق بركب التطور العالمي، من خلال الرؤية المستقبلية الشاملة لحقائق مجتمع المعلومات، و هو ما طرحنا جانبا من عناصره الأساسية في الأسئلة السابقة

ثانيا : نقطة الإنطلاق، أو الأرض التي نقف عليها، و نحن نمضي في رحلة إعادة البناء نحو المستقبل . أي الوضع الراهن لمصر ..و بخاصّة ما يمكن أن نطلق عليه : الخريطة الحضارية الراهنة لمصر

(10) ما هي الخريطة الحضارية الراهنة لمصر ؟

ــ هذا يعني أن نرصد بأمانة موقعنا على سلّم تلاحق الحضارات البشرية . أو بمعنى آخر : لقد تعاقبت على البشر ثلاث حضارات كبرى، أو أنماط حياة كبري، هي نمط الحياة الزراعية، ثم نمط الحياة الصناعية، و أخيرا نمط الحياة النابع من احتياجات مجتمع المعلومات . و لقد أخذت المجتمعات و الدول المختلفة، بنسب مختلفة من تلك الأنماط، وفقا لحظوظها من استخدامات التكنولوجيات الخاصة بكل نمط، و نسب شيوع مبادئ كل عصر من عصور التطوّر المشار إليها
الدراسة المطلوبة تستهدف معرفة نسب انتماء شعب مصر إلى كلّ من أنماط الحياة هذه .
إلى أي مدي يعيش الشعب المصري بمنطق عصر الزراعة .
و إلى أي مدى قد تبنّى منطق عصر الصناعة .
و ما حجم القلّة التي اقتحمت جهد تبنّي منطق عصر المعلومات .
وضوح هذه النسب، يرسم الخريطة الواقعية التي نقف عليها .. و هذا يحدد نوع الجهد لمطلوب منا لكي ننتقل بالحياة المصريةإلى واقع مجتمع المعلومات، و يكون أساسا لعملنا و نحن نرسى استراتيجيات إعادة البناء، و نترجمها لى خطط متكاملة، و برامج زمنية واقعية، و يحدد نوعية خطط التنمية التي نأخذ بها

* * *


التساؤلات العشرة السابقة، و الإجابات عنها، تفيد أن معركتنا الرئيسية هي معركة فكرية .. نحن في حاجة إلى إشاعة وعي جديد بحقيقة موقعنا و طبيعة هدفنا، ليس فقط بين الشباب و الناشئة، و لكن أيضا بين المتنفذين في حياتنا على أعلى المستويات، و بين جميع السلطات التنفيذية و القضائية و التشريعية..و بين القيادات الفكرية في المجالات الأكاديمية و الثقافية و الإعلامية

تجاربنا الفاشلة المتكررة لحلّ مشاكلنا، و إعادة بناء مصر على أسس معاصرة، لا ترجع إلى قصور في ذكاء ساستنا و مفكرينا المنشغلين بأوضاعنا المتردّية، أو إلى نقص في جهودهم، كما لا يرجع شيوع الفساد في مختلف مستويات مجتمعنا، لكنّه يرجع أساسا إلى عدم إدراك أهمية التوصّل إلى : رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع منها استراتيجيات و خطط متزامنة، تربط بين حركتنا في مختلف المجالات الاجتماعية و الاقتصاية و السياسية، وفق الأولويات التي تناسب قدراتنا

راجي عنايت renayat@gmail.com

Tuesday, November 9, 2010

التنقيب في مخلّفات الماضي

نهضة مصر - 2005

عندما لا يجدي الترقيع
حكاية واقعية من ذكريات الصديق الراحل صالح مرسي

كنت مع صديقي الأديب الراحل صالح مرسي في الإسكندرية، سألني : إلى أين ؟، قلت : إلى ورشة السيارات التي في شارع منشّا، في محرّم بك،، لأرى ما تم في العمـرة التي يقومون بها لسيارتي
عـرض عليّ أن نذهب معا في سيارته الهيلمان القديمة، فشكرته . اندهش صالح لضخامة الورشة، و ما فيها من خدمات متطوّرة، و عندما انتهيت من حديثي مع المهندس زكي، و عرفت منه موعد استلام السيارة، حتّى اندفع صالح يقول بحماس للمهندس : و أنا أيضا أريد أن أعمل عمرة لسيارتي . أجاب المهندس الإسكندراني زكي بهدوئه المعتاد : و ماله نشوفها
بعد معاينة السيارة، واجه المهندس صالح بكل هدوء وبشاشة قائلا : ما ينفعش ! . فسأل صالح بحدّة توحي باستيائه الشديد : ليه ؟. أجاب المهندس قائلا أنه لو فكّ موتور السيارة، فالأغلب أنه لن يصبح من الممكن تجميعه مرّة أخرى
انصرفنا، وأنا أحاول تخفيف شعور الاستياء الذي استولى عليه . و في الموعد الذي حدّدوه لاستلام سيارتي، صمّم صالح أن يذهب معي، قائلا أنه اتّصل بقريبه الذي كان قد اشترى منه السيارة، و يعمل في اليمن، و أن ذلك القريب وعده بشحن موتور هيلمان جديد لسيارته
عندما زف صالح البشرى إلى المهندس زكي، ابتسم قائلا بنفس الهدوء : برضه ما ينفعش . ثار صاالح، فراح الرجل يشرح له الاستحالة الفنية، و كيف أن أجزاء السيارة القديمة ستتداعى نتيجة لقـوّة الموتور الجديد .. ظهر الحزن على صالح و هو يقول : كان نفس أصلّحها .. أصلي باحبّها قوي . فقال الباشمهندس بنفس الهدوء التقليدي : هات لك يا بيه عربية جديدة و حبّها برضه !.. أصل الحب مش في الميكانيكا


في مهرجان الحلول المطروحة لمصر

تذكّرت هذه الحكاية، و أنا أتابع مهرجان الحلول المطروحة لنهضة مصر : الحلّ الاشتراكي، و الحلّ الرأسمالي، و الحل الإسلامي، و الحلّ القومي العربي الوحدوي .. هذا المهرجان الذي يطرح جميع الحلول، ما عدا الحلّ النابع من طبيعة المرحلة الحضارية الراهنة التي يمر بها الجنس البشري، و الذي أحاول جاهدا أن ألفت النظر إليه
مازال البعض منّا ينادي بالعودة إلى الحلّ الاشتراكي، في مواجهة أنصار الحل الرأسمالي، الذي ارتفعت أسهمه بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، بدعوى أن الحل الاشتراكي فشل في التطبيق، و ليس من حيث المبدأ . أمّا أصحاب الحلّ الرأسمالي فيرون أنّهم حققوا النصر النهائي على الماركسية و الاشتراكية، و أن الاقتصاد الرأسمالي هو السبيل لإنقاذ مصر
و ينسى جميع هؤلاء أنّ الرأسمالية و الاشتراكية هما وجهان لعملة واحدة هي المجتمع الصناعي.. هما رؤيتان للتعامل مع مجتمعات تمضي وفق المبادئ الأساسية لعصر الصناعة . و جرى تطبيق الرأسمالية و الاشتراكية على مجتمعات تعتمد المركزية الممعنة، وتقوم على أساس الهرم البيروقراطي، تعتمد على الإنتاج على نطاق واسع (ماس برودكشن) و التوزيع على نطاق واسع، و على السوق المتطوّرة التي تربط بيتهما، و أخذا معا بمبدأ السعي نحو الأضخم و الأكبر، و بلوغ النهايات العظمى، و على نفس طبيعة العمالة العضلية بنفس حدودها الضيّقة . كذلك جرى تطبيق الرأسمالية و الاشتراكية على مجتمعات تقوم على النمطية، و التوحيد القياسي، و الجماهيرية في كلّ شيء، في الإنتاج و الاستهلاك و التعليم و الممارسة السياسية و الإعلام .. أي أنهما ـ باختصار ـ جرى تطبيقهما معا على مجتمعات صناعية

ثورة المعلومات، و حياة جديدة

و منذ منتصف القرن الماضي، و مع بداية ثورة المعلومات ، أخذت مبادئ المجتمع الصناعي في التراجع، مفسحة المجال لمبادئ جديدة مختلفة، بل و متناقضة مع مبادئ عصر الصناعة . لقد أصبح للتقدّم و الترقّي أهدافا جديدة، غير الأهداف التي شاعت في عصر الصناعة
هذه الأهداف الجديدة هي التي يجب أن نسعى للتعرّف عليها و نحن نبحث عن حلول لأوضاع مصر، تقود إلى مستقبل أفضل . لن يفيدنا أن نبحث عن حلول من مجتمعات قامت على أسس مجتمعية مختلفة عن أسس مجتمع المعلومات، شاعت و نجحت في مجتمعات تاريخية أخرى
لهذا، أنصح من يحاولون ـ بجد ـ أن يبحثوا عن واقع و مستقبل أفضل لمصر، أن يضعوا نصب أعينهم المهام الضرورية التالية
أولا : النظر إلى التاريخ باعتباره تتابع لموجات حضارية كبرى، زراعية، ثم صناعية، ثم معلوماتية
ثانيا : الاعتماد على مؤشّرات التغيّر الكبرى الحالية في التعرّف على طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات، و الأسس الجديدة التي تقوم عليها حياة البشر
ثالثا : التوصّل إلى رؤية مستقبلية شاملة، نستنبط منها مستقبل أي نشاط في حياتنا
رابعا : الفهم الصادق الأمين للواقع المصري الحالي، و معالم الخريطة الحضارية لمصر، أي مدى سيادة و تأثير المبادئ الزراعية و الصناعية و المعلوماتية على أرض مصر

* * *

هذا هو السبيل الأسلم للتفكير في إعادة بناء مصر، من أجل اللحاق بركب التطوّر البشري، و هو الذي سيغنينا عن التنقيب في حلول من مخلّفات الماضي، و يريحنا من محاولات فتح الأبواب الجديدة بمفاتيح قديمة

راجي عنايــت


Wednesday, November 3, 2010

حدث في مصر


البوشي .. و جمال مبارك
الصورة المرفقة عبارة عن صفحة من ملحق " البورصة المصرية "، الذي يصدر كملحق عن مجلة " الأهرام الاقتصادي "، التابعة لمؤسسة الأهرام الحكومية، التي تدافع دائما عن أمانة السياسات، و عن جمال مبارك .. و هي لم تكن ذات صلة في يوم من الأيام بجريدة "الدستور" المعارضة . الذي قد لا تعرفه أن البوشي هذا صدر أمر القبض عليه بعد النشر، لاتهامه بالنصب و توظيف الأموال .. و كانت دبي الأسرع ـ كالعادة ـ إلى القبض عليه و إيداعه سجونها بتهمة إصدار شيكات بدون رصيد، على وعد بتسليمه للسلطات المصرية عندما تنتهي فترة عقوبته في سجونها .
الفايد يزور القاهرة بدعوة من السيد جمال مبارك و البوشي في زيارة سريعة إلى القاهرة وصل السيد محمد الفايد لأول مرة منذ 25 سنة إلى القاهرة بدعة من جمال مبارك و نبيل البوشي . و تم الحديث في استثمار الفايد في بعض المجالات، و من ضمنها الاستثمار في التعليم و الصحة و تم توقيع اتفاقية لأكبر مجمّع جامعي و تكنولوجي . و في نفس الوقت سيتم انشاء مدينة طبية بإجمالي 3 بليون دولار أمريكي، بمشاركة البنك الدولي و بنك أوف نيويورك .
ارتفاع مؤشر البورصة المصرية عند إعلان صفقة البوينج و إيرباص ارتفع مؤشر البورصة المصرية بعد المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه بيل البوشي عن صفقات البوينج و إيرباص، بالإضافة إلى إدخال تعديلات جذرية لسوق المال المصرية ومنها تم إبرام اتفاقية مع بورصة نيويورك و بورصة لندن في إدخال نظام التسوية الفورية و جميع مشتقات و منتجات البورصة الحديثة
. ترشيح نبيل البوشي لمنصب اقتصادي رفيع خلال ساعات أعلن السيد جمال مبارك بأن خلال الساعات القليلة سوف يتم تعيين السيد نبيل البوشي بمنصب اقتصادي رفيع لأول مرة بمصر و ذلك لمجهود و نجاح نبيل البوشي خلال الأربع سنوات الماضية في نقل البورصة المصرية إلى أحدث نظام في الشرق الأوسط
. العدد 495من البورصة المصرية
ملحق متخصص يصدر صباح كل اثنين مع مجلةالأهرام الاقتصادي
قائمة ضحايا البوشي

1-حسن الجبلى شقيق وزير الصحة الدكتور حاتم الجبلى 12 مليون جنيه 2-محمود الخطيب نائب رئيس النادى الأهلى 5 ملايين جنيه 3-الفنانة ليلى علوى 640 ألف دولار 4-الفنانة ميرفت أمين 700 ألف دولار 5-كريم خليل إبراهيم شوشة 2.6 مليون دولار 6-ماجد شنودة 1.6 مليون دولار7-أحمد مختار محمد الرشيدى 2.3 مليون دولار 8-عمر سعد محمد شلبايه 2 مليون دولار 9-محمد سعد مسعد شلبايه 1.3 مليون دولار 10-طارق محمود أبو طالب 5 ملايين دولار 11-محمد أحمد إحسان 1.1 مليون دولار 12-أحمد عادل أحمد سيد أحمد 1.3 مليون دولار13-مدحت حسن دره 2 مليون دولار 14-حسين مصطفى حسين فهمى 2 مليون دولار 15-فكرى بدر الدين حمدى 500 ألف دولار 16-عمرو فكرى بدر الدين حمدى 250 ألف دولار 17-سارة فكرى بدر الدين حمدى 250 ألف دولار 18-حامد بهجت الدين الشربينى 850 ألف دولار + 100 ألف يورو19-هدى بهجت الدين الشربينى 230 ألف دولار 20-نهى بهجت الدين الشربينى 10 آلاف دولار 21-مها إبراهيم الشعبينى 320 ألف دولار +100 ألف يورو22-بهاء الدين حامد 100 ألف دولار 23-سليمان محمود الحكيم 120 ألف جنيه استرلينى 24-عاطف أنور بسطا 1.1 مليون دولار 25-جمال الدين إحسان العقاد 530 ألف دولار 26-احمد حمد المقيم 700 ألف دولار27-عبد الرؤوف هلال 100 ألف دولار 28-ناجى فؤاد سعد 100 ألف دولار 29-رؤوف محمد نور 100 ألف دولار 30-أحمد على ماجد 400 ألف دولار31-صافيناز محمود صدقى 50 ألف دولار + 16 ألف يورو32-أشرف حسن فهمى إسماعيل 1.5 مليون دولار 33-محمد حسن فهمى إسماعيل 820 ألف دولار 34-ممدوح حسن فهمى إسماعيل 300 ألف دولار 35-سعيد غريب محمد 1.96 مليون دولار 36-محمد الشرقاوى 14 مليون دولار 37-عادل الكيلانى 11 مليون دولار 38-محمد سعيد 3 ملايين دولار

Saturday, July 17, 2010

الحكومة و التعددية الجديدة

عالم اليوم ـ يوليو 1997ـ راجي عنايت

مجتمع التعدّدية الجديد
و دور الحكومة فيه


الثابت أن المجتمع و السياسة في الدول قد خضعا للتعدّدية .. خضع كلّ منهما بطريقة جديدة غير مسبوقة، و بطريقة تختلف في المجتمع عن السياسة . و على عكس التصوّر السائد من أن هناك مركز قوّة منظّم واحد، نعني الحكومة، فإن المجتمع و السياسة في الدول المتطوّرة يذخران الآن بمراكز القوة، المنفصلة عن الحكومة و الخارجة عنها
و لنبدأ بالتعدّدية الجديدة في المجتمع، و التي يكون تركيزها على الوظيفة و الأداء . إنّها تعدّدية تنظيمات الغرض الوحيد، كلّ منها تهتمّ بمهمّة إجتماعية واحدة : خلق الـثروة، أو التعلـيم، أو الرعاية الصحّية، أو تشكيل قيم و عادات الصغار . و من أهم ما يميّز هذه التعـدّدية الإجتماعيّة أنها غير سياسية بالمرّة
أمّا التعدّدية الجديدة في مجال السياسة، فتركيزها-على العكس من الأخرى- يكون على القوّة والسلطة والنفوذ . و هي تعدّدية جماعات القضيّة الوحيدة أو الإهتمام الوحيد، "حركات جماهيرية " من الأقلّيات صغيرة و على أعلى المستويات التنظيميّة . و كل منها تحاول الحصول من خلال القوّة على ما لا تستطيع الوصول إليه من خلال عدد أفرادها، أو إلحاحها . و كل منها سياسية تماماً
كل من هاتين التعدّديتين الجديدتين تعتبر تحدّياً للعملية السياسية، و للقيادة السياسية

المجتمع التعدّدي في عصر الصناعة

خلال عصر الزراعة الطويل، كانت المهام الإجتماعية إمّا ألاّ تجد من يقوم بها، أو كانت تقوم بها الأسرة أساساً، سواء في تعليم الصغار أو رعاية المريض و المسنّ . و ما أن إنتقلنا إلى عصر الصناعة، حتّى تكفّلت بهذه المهام تنظيمات و مؤسّسات : مشروعات النشاط الإقتصادي، و إتّحادات العمّال، و المستشفيات و نظم الرعاية الصحّية، و مراكز رعاية الطفل، و المدارس و الجامعات
كان لكل مؤسّسة من هذه المؤسّات غرضها الوحيد، و لم تكن سياسيّة بطبيعتها . و كلّما حاولت إحدى هذه المؤسّسات أن تتجاوز مجال إهتمامها الخاصّ، فقدت فعّاليتها على الفور . أساس هذه المؤسّسات كان: الوظيفة، و ليس القوّة
و في الوقت الذي بلغت فيه "سيادة" الدولة أوجها، خلال عصر الصناعة، بزغت قوّة جديدة حقيقيّة، نعني بذلك النشاط الإقتصادي الحر الحديث
و كان مركز القوّة الجديد المتمثّل في النشاط الإقتصادي الحرّ، هو العنصر الأوّل في زحف التعدّدية، و بدأ الناس يتناقشون حول العلاقة بينه و بين الحكومة، و بين القوّة العاملة ، أو المجتمع
و كانت الخدمات المدنيّة الحديثة هي الكيان التعدّدي الثاني، الذي ظهر في أعقاب كيان النشاط الإقتصادي، و راح ينمو في قوّته و حجمه

التعدّدية المعاصرة تختلف

و رغم أن التعدّدية ليست شيئا جديدا، إلاّ أن هناك إختلافات حاسمة بين ما كان قائما منها و ما يحدث الآن
جميع أشكال التعدّدية التقليدية كانت قائمة على "القوّة"، أمّا الجديدة فتقوم على "الوظيفة" . في التعدّدية القديمة، كان كل كيان يخضع لقوّة المستوى الأعلى، و يمارس قوّته على المستوى الأدنى منه، و كانت القوّة هي الأساس على مختلف المستويات . و على العكس من هذا، لا تهتم المنظمات التعدّدية الجديدة في المجتمع بالحكومة أو الحكم، إنّها مجرّد "عضو" في المجتمع، و نتائج جهدها تتمّ خارج الحكومة . "إنتاج" المشروع الإقتصادي يستهدف إرضاء المستهلك . و"إنتاج" المستشفى يستهدف علاج المرضى . و"إنتاج" المدرسة يستهدف الطالب، الذي سيسهم بعد عشرسنوات في مجال العمل، معتمداً على ما حصّله في المدرسة

خصائص التعدّدية الجديدة

التعدّدية الجديدة أكثر مرونة، و أقل إحداثاً للشقاق و الخلاف، من سابقتها . و المؤسّسات الجديدة لا تتعدّى على السلطة السياسيّة، أو تنتقص منها، كما كان الحال سابقا مع مؤسّسات التعدّدية القديمة، سواء جاء ذلك من جانب كنيسة العصور الوسطى أو بارونات الإقطاع . و على عكس ما كان حادثاً، لا تشترك المؤسّسات الجديدة في إهتماماتها، أو في رؤيتها للحياة
كل واحدة من مؤسّسات التعدّدية الجديدة تتمسّك بهدفها الخاص باعتباره أساساً لنشاطها، و قيمة نهائية لها، و الأمر الذي يهم أكثر من غيره . كل مؤسّسة جديدة من مؤسّسات التعدّدية، تتكلّم بلغتها، وتتمسّك بمعارفها الخاصّة، و سلّمها الوظيفي الخاص، و قبل هذا و ذاك قيمها الخاصّة . لا ترى أي منها نفسها مسئولة عن المجتمع ككل
ّ
الوضع الجديد للفرد

شبيه بهذا وضع الفرد . و هو بالمثل لا يتوافق مع مازالت تراه النظرية السياسية و الإجتماعية: الوضع العادي
يقول بيتر دراكر " خلال القرن التاسع عشر، كان هناك نموذجان متنافسان للمجتمع . الأول يرى المجتمع مكوّناً من من صغار المستقلّين : الفلاّح بقطعة أرضه و ماشـيته، وصاحب المتجـر الصغير و الحرفي . ومن الممكن أن
يتساوى هؤلاء . لا يحتكم أي منهم على نفوذ أو ثروة، و إن كان لا يعاني من الفقر المدقع أو الإعتماد على الغير . و قد صاغ توماس جيفرسون، في الولايات المتّحدة، هذا المفهوم بأكبر قدر من الوضوح، رغم وجود نظائر له في كل دولة أوروبية . و عندما توفي جيفرسون، عام1826، كان من الواضح للجميع أن المجتمع لا يمضي وفقاً لتصوّره ذلك .
و في النموذج الثاني، قامت المدينة الفاضـلة المضادّة، و التي وجدت التعبير النهائي و الأوضح لها على يد النبوءة الماركسية، حول مجتمـع يتكوّن من كتلة جماهيرية هائلة، من البلوريتاريّين المتساوين في فقرهم، و في خضوعهم للإستغلال، و في إعتمادهم على الحكومة

تعدّدية العمالة المعـرفيّة

لكن الذي حدث بعد ذلك جاء مغايراً، فلم تتحقّق أيّ من النبوءتين، نبوءة جيفرسون و نبوءة ماركس
. و الحق، أنّه لم بكن بإمكان أي أحد، قبل خمسينيّات و ستينيّات هذا القرن، أن يتخيّل مجتمعا من "العمّال المعرفيّين"، الذين لا يستغلّهم أحد، و لا هم يستغلّون أحد . الذين هم ليسوا رأسماليين كأفراد، لكنّهم كمجموعة يمتلكون أدوات إنتاجهم من خلال موارد معاشاتهم، و من مواردهم المتبادلة، و من إدخاراتهم . و هم يخضعون لتنظيم عملهم، و لكنّهم أيضا غالباً ما يكونوا رؤساء أنفسهم . هؤلاء العمّال، أو الموظّفين، يكونون مستقلين ، ومعتمدين على غيرهم في نفس الوقت . لديهم صلاحيات الحركة الحرّة، و لكنّهم أيضا يحتاجون إلى الدخول في تنظيم- بإعتبارهم (مستشارين) إن لم يكونوا موظّفين- لكي يكون لهم تأثيرهم

تحديات التعدّدية الجديدة

غالبا ما تتجاوز التعدّدية الجديدة الحدود الجغرافيّة
كان النشاط الإقتصادي الحر، هو الأول من بين تنظيمات التعدّدية الجديدة في تحقيقه ذلك . لقد إكتسب صفة "تعدد الجنسيات" منذ وقت مبكّر، في ستّينيّات و سبعينيّات القرن التاسع عشر . لكن العديد من المؤسّسات الأخرى بدأت تسلك نفس النهج، بشكل سريع . لقد فعلت ذلك مؤسّسات المحاسبة و المؤسّسات القانونية، و بالمثل المؤسّسات الإستشارية . حتّى الجامعات تصبح الآن " عابرة للجنسيّات". و هذا كلّه لا يتوافق مع النظريات السياسيّة التي ما زالت تسيطر على تفكيرنا، و على تعليمنا، و على تناولاتنا القانونية
و إذا ما إتّخذنا التاريخ هاديا لنا، فقد يقتضينا الأمر قرنا من الزمان، أو ما هو قريب من ذلك، قبل أن نصل إلى المبادئ القانونية و السياسية، التي تتّفق مع حقائق التعدّدية الجديدة . لكنّنا لا نستطيع الإنتظار حتّى ينتهي الفلاسفة من التفسير النظري لما حدث بالفعل . لقد أصبح من الضروري أن يبدأ السياسـيّون و المحاكم و رجال الأعمال و مديرو التنظيمات الجديدة عملهم و حركتهم..لكن هذا سيتم في مواجهة العديد من التحدّيات
لقد بدأت تظهر تحدّيات التعدّدية الجديدة في خمسة مجالات
أولا : المسئولية الإجتماعية لمؤسّسات التعدّدية
ثانيا : مسئولية المجتمع
ثالثا : المسئولية السياسيّة
رابعا : حقوق و مسئوليّات الفرد
خامسا : دور و وظيفة الحكومة في مجتمع التعدّدية

و إلى الرسالة التالية، لنستعرض المسئوليات الاجتماعبة و السياسية لهذه المؤسسات التعددية

Friday, July 2, 2010

أوهام ترسّخ تخلّفنا

ثمانية أوهام
تعوق جهود سعينا للتقدّم

من خلال اللقاءات و الحوارات حول المستقبل و الرؤية المستقبلية، مع مختلف المفكّرين و أصحاب الاهتمام العام و الساسة، اكتشفت أن سر فشلنا في الوصول إلى حلول مستدامة لمشاكلنا، لا تتولّد عنها مشاكل جديدة في المستقبل، هو أننا ما زلنا نتمسّك ببعض الأوهام الشائعة التي تعتبر السبب الأول في تخلّفنا، و عدم قدرتنا على تجاوز ذلك التخلّف و اللحاق بركب التطوّر العالمي .
كنت أسأل نفسي دائما
أولا : لماذا مع كلّ الجهد و الإخلاص و رصد الأموال، لا نصل إلى حلول باقية لمشاكلنا ؟
ثانيا : لماذا ما نكاد ننتهي من مواجهة مشكلة ... حتّى نكتشف أن هذه المواجهة قد ولّدت مشاكل مستجدة، غير مسبوقة ؟
ثالثا : لماذا لا تتراكم الحلول، لكي تدفع بنا خطوة في سبيل التقدّم ؟
رابعا : و أخيرا، من أين نبدأ في مواجهة هذا الوضع المأساوي، الذي يذكّرنا بأسطورة " سيزييف "، الذي ما كان يتصوّر أنّه قد نجح في حمل الحجر إلى قمّة الجبل، حتّى يجده قد تدحرج إلى أصل الجبل، و أن عليه أن يكرّر المحاولة المرّة بعد الأخرى ؟

ثمانية أوهام كبرى
يبدأ الحلّ ـ في رأيي ـ بالتخلّص من بعض الأوهام الكبرى الراسخة في تفكيرنا جميعا . و سنورد فيما يلي ثمانية منها، نرى أنّها الأكثر أهمية و خطورة، و هي :
وهم إمكان حلّ المشاكل المختلفة، كلّ على حدة في زمن التغيير الشامل .
وهم إمكان الاعتماد حاليا على الخبرات السابقة .
وهم الاعتقاد بثبات معنى الاصطلاحات و الأشياء .
وهم إمكان الانطلاق من عقيدة أو أيديولوجية سابقة .
وهم إمكان الوصول إلى حلول حقيقية في غياب رؤية مستقبلية .
وهم صياغة رؤية مستقبلية لا تقوم على أساس فهم جوهر التغيّرات العالمية الحالية .
وهم إمكان التعامل مع المتغيّرات العالمية، دون التعرّف على جذورها، و علاقاتها المتبادلة .
وهم إمكان صياغة رؤية مستقبلية على يد الصفوة عند القمّة
و كنت قد تقدّمت بورقة حول هذه الأوهام، من خلال جلسات المؤتمر العام لجمعية مستقبل العالم، الذي يعقد بواشنطن كلّ أربعة أعوام . و قد قامت المجلة الفصلية التابعة للجمعية، مجلة الأبحاث المستقبلية، بنشر تلك الورقة، التي أطرح هنا ترجمة مختصرة لها

أولا : وهم التصدّي المنفرد للمشكلة

وهم إمكان التوصّل إلى حلول باقية للمشكلة بالتناول المباشر، دون التعرّف على أبعادها و ارتباطاتها، من الأوهام الشائعة التي نلمسها يوميا في تصريحات المسئولين و رجال الأحزاب، في الجرائد و المجلاّت و التلفزيون و الإذاعة، و الندوات و المؤتمرات .. و دعونا ننظر إلى نموذج متكرّر لهذا الوهم، في مجال مشاكل المرور، و ما يترتّب عليها من ضياع للجهد و الوقت و الطاقة، بالإضافة إلى المزيد من تلويث البيئة . و دعونا نتأمّل كيف يجري التفكير في محاولات حلّ هذه المشكلة، بإقامة الكباري العلوية و حفر الأنفاق، لنكتشف بعد قليل أن ذلك الحل قاد إلى تدفّق المزيد من السيارات على الطرق، و أنّها قد فتحت شهيّة الجمهور إلى اقتناء المزيد من السيارات .
مثل هذه الحلول الجزئية المباشرة لا يمكن أن تعالج جذور المشكلة، ذلك لأن حلّ هذه المشكلة يرتبط بعديد من الجوانب التي قد لا نتصوّر علاقة بينها و بين مشاكل المرور .. و التي منها
المركزيّة الممعنة
في مصر، ما زلنا نأخذ بالنظام البيروقراطي المركزي، و بالتسلسل الهرمي للرئاسات، في جميع مؤسّساتنا الحكومية و العامة، و في العديد من الخاصّة أيضا . و هكذا تركّزت قيادات ضروب النشاط الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي في القاهرة . صاحب المصلحة ـ أيا كانت تلك المصلحة ـ لا يستطيع أن يبتعد عن قلب القاهرة، حيث تتركّز مراكز اتّخاذ القرار، لكي يكون مطمئنا على متابعة إنجاز أعماله، و حيث تتركّز الخدمات الأساسية و وسائل الترفيه الأكثر جذبا .
محاولاتنا في مجال الحكم المحلّي، و الإدارة المحلّية، لم تصادف نجاحا ملموسا نتيجة لتلك المركزية الممعنة، التي تأبى أن تعيد النظر في نفسها، حتّى بعد أن تخلّت معظم الدول و المؤسّسات المتطوّرة عن النظام المركزي، لتناقضه مع طبيعة و احتياجات مجتمع المعلومات
اتصل، و لا تنتقل
مع تطوّر تكنولوجيات الاتّصال و المعلومات، ظهر شعار " اتّصل و لا تنتقل " . إذا كان بإمكانك أن تنجز عمل ما، و أنت جالس في مكتبك أو منزلك، بالاعتماد على وسائل الاتّصال المختلفة من تليفون إلى فاكس إلى كمبيوتر و إنترنيت، فما الذي يجبرك على الخروج إلى الطريق بسيارتك ؟ .
لقد أثبتت الدراسات أنّ 30% من الأعمال، يمكن أن يقوم بها العاملون في منازلهم، دون الحاجة إلى الانتقال إلى مقرّ العمل، إلا في مواعيد متباعدة . و هذا يعفينا من البحث عن سكن في قلب العاصمة، أو قريب من قلبها، أو في ضواحيها اللصيقة، فنختار للسكن مكانا يبعد عشرات الكيلومترات عن مقرّ العمل، أو قيادته، يغلب أن يكون أفضل من الناحية الاقتصادية و الصحّية . وبديهي أن تحقّق هذا رهن بتوفير وسائل الاتّصال المتطوّرة، التي تخفّف الضغط على الانتقالات، و على طرق العاصمة بالتبعية
وسائل الانتقال العامة
ومشكلة المرور، تتّصل أيضا بمدى كفاءة وسائل الانتقال العامة، التي تخفّف الضغط على استخدام السيارات الخاصّة . و خير مثال على ذلك التوسّع في شبكات مترو الأنفاق، التي تحدّ من استخدام السيارات الخاصّة و العامّة على الطرق
سياسات الإسكان
نتيجة لأزمة المساكن، يضطر المواطن إلى استئجار أي مسكن جديد متاح، بصرف النظر عن مدى قربه من مجال عمله، أو عمل زوجته، أو مدارس أولاده . مع أن الأصل في إقامة المجتمعات السكنية الكبيرة، التي تقيمها وزارة الإسكان، أن يشغلها أولئك الذين يرتبطون بأعمال قريبة منها، لكي لا يضّطرون إلى قطع المدينة من شمالها إلى جنوبها، مماّ يضاعف الضغط على الطرق

بتأمّل هذه العوامل المختلفة، نرى أن حلّ هذه المشكلة، لا يمكن أن نلتزم فيه بالمأخذ الأحادي الجزئي، فالمشكلة تتصل بمسألة المركزية، و سياسة إقامة المشروعات الإنتاجية الضخمة، و سياسات الإسكان عندنا، و بمدى كفاءة وسائل الانتقال العامة، و بمدى تطوّر وسائل الاتصال المتاحة للأفراد
و نفس الشيء ينسحب على تفكيرنا في حل باقي مشاكلنا، في التعليم متواصل الهبوط رغم دعايات المسئولين، و الصناعة التي ما زالت لا تتّفق مع حقائق الأوضاع التجارة العالمية التي ستطبق علينا، كذلك الإدارة و الطاقة و الديموقراطية.. وغير هذا من المشاكل التي لا يفيدنا أن نبحث عن حلول لها معزولة عن الواقع العام الذي تنشأ فيه، و دون أن نفهم العلاقات متبادلة التأثير بين الأشياء و بين النشاطات


ثانيا : وهم إمكان الاعتماد على الخبرات السابقة

الوهم الثاني، هو وهم الاعتماد على الخبرات السابقة في حلّ مشاكلنا الحالية . و معظم التخبّط الذي يعيشه العالم العربي، يعود إلى عدم القدرة على التمييز بين أوراق الماضي الذي انقضى، و بين أحوال المرحلة الانتقالية الحاضرة التي نعيشها، و بين مؤشّرات المستقبل الذي نمضي إليه
الحدّ الأدنى في هذا المجال، أن يفهم المفكّر العربي خصائص كلّ من مجتمع الزراعة الذي عشنا واقعه لآلاف السنين و ما زلنا نقع في أسره بالنسبة للكثير من قيمنا و أفكارنا و عاداتنا . و خصائص مجتمع الصناعة الذي سادت قوانينه على مدى ما يزيد من قرنين معظم دول العالم، سواء التي تحوّلت من الزراعة إلى الصناعة أو التي خضعت لاستعمار الدول الصناعية . و أخيرا، التمييز بين ذلك كلّه، و بين واقع مجتمع المعلومات الذي بدأ يفرض نفسه على حياة البشر، منذ ما يقرب من نصف قرن .. بدون هذا التمييز، لن يتمكّن المفكّر العربي من قراءة الأحداث الجارية، و فهم مغزاها .
و حتّى القلّة التي تعترف بزحف حقائق مجتمع المعلومات على حياتنا، كثيرا ما تقع في استخلاصات خاطئة، نتيجة لتطبيق أفكار و مبادئ و عقائد و فلسفات عصري الزراعة و الصناعة المنصرمين، على مجتمع المعلومات الذي يسود البشر حاليا
!تحيّة العلم، و طابور الصباح
أذكر أن أحد وزراء التعليم، من الذين يحلو لهم التحدّث عن مجتمع المعلومات و تكنولوجيا المعلومات، أدلى بتصريح عند بداية تولّيه للوزارة، جاء نموذجا للخلط بين القديم و الجديد
تكلّم الوزير عن أهميّة إصلاح التعليم، و تخليصه من التلقين، و تنقية الكتب المدرسية من الحشو الزائد عن الحدّ .. ثم قال بعد ذلك، ربّما متأثّرا بفاشستية منظمة الشباب التي ترعرع فيها معظم طاقم الوزراء عندنا، أنّه ينوي إعادة الانضباط إلى المدرسة المصرية، موضّحا كيف سيعيد إلى المدارس تحيّة العلم و طابور الصباح و النشيد الجماعي
لم يستطع الوزير أن يميّز بين تعليم عصر الصناعة، و بين التعليم المنشود لعصر المعلومات . و قد خلط بين التوجّهات السليمة للتعليم في عصر المعلومات، كتخليصه من التلقين الذي تقتضيه طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات، و الذي يستهدف تعويد التلميذ على إعمال العقل، لكي يكون مؤهّلا لدخول مجال العمل العقلي الذي يسود عمالة مجتمع المعلومات . خلط بين هذا و بين سمات التربية و التعليم في عصر الصناعة، التي عرفنا فيها تحيّة العلم و طابور الصباح و النشيد الجماعي، و هي مع غيرها من مقوّمات عصر الصناعة تستهدف زرع النمطية التي يستلزمها الإنتاج في المجتمع الصناعي، و تقوم على فهم العمل باعتباره مجموعة من المهام الروتينية البسيطة المتكرّرة، التي لا تستدعي إعمال العقل و تشغيله .
!صرح الصناعات الثقيلة
و في مؤتمر شاركت فيه عن مستقبل الإدارة في القرن الحادي و العشرين، وقف وزير الصناعة متحدّثا عن ضرورة اللحاق بركب الدول الصناعية المتطوّرة، ثم أعلن عزمه على البدء في إقامة صرح للصناعات الثقيلة، باعتبار أن هذا هو هدف مصر الصناعي في القرن الحادي و العشرين
كنت أتصوّر أنّه سيتحدّث عن خطط وزارته و استراتيجيتها للبدء في إدخال الصناعات المعلوماتية الجديدة، التي ستحلّ محل الصناعات الثقيلة التي أخذ بها المجتمع الصناعي، رغم غلظتها و استنزافها للمواد الخام و الطاقة و تلويثها للبيئة . توقّعت منه أن يتحدّث عن تشجيع الصناعات الصغيرة القائمة على التكنولوجيا الإلكترونية المتطوّرة، و نشر هذه الصناعات على أنحاء البلاد و إنهاء تكدّس المدن في المناطق و التجمّعات الصناعية، على أساس الاستفادة من مصادر الطاقة الجديدة و المتجدّدة أينما وجدت . انتظرت أن يحدّثنا عن خططه للتدريب التحويلي، الذي يجب أن نخضع له العمالة الحالية، لكي تتحوّل من عمالة عضلية إلى عمالة عقلية، تحسّبا لمواجهة البطالة البنيوية الشاملة، التي تأتي بها التحوّلات الحالية في مجالات العمل و الإنتاج و الاقتصاد
لقد خلط الوزير بين أوراق الماضي و المستقبل
خلط في شعارات الوحدة و الديموقراطية
و نتيجة لخلط أوراق و أفكار و عقائد الماضي بالمستقبل، نجد من يخلط بين مقتضيات قيام المجتمع الصناعي التاريخية، و ما استوجبته من توحيد للكيانات السياسية الصغيرة في كيان كبير، لخدمة اقتصاد عصر الصناعة، و بين بقايا أحلام بعض العرب بقيام وحدة اندماجية سياسية و اقتصادية بين الدول العربية، لمواجهة أعداء الأمّة العربية، على نسق ما جرى في إيطاليا على يد غريبالدي، و في ألمانيا على يد بسمارك، و في بعض الدول الصناعية الأخرى، في الشرق و الغرب .. و يتواضع البعض الآخر ليطالب بنوع من الاتحاد، يشبه الاتّحاد الأوروبي المعاصر
هذه الأحلام و المطالبات تكشف عن خلط بين أوراق الماضي و المستقبل
الفاهم لطبيعة التحوّل السياسي في مجتمع المعلومات، يدرك أن أيّ تجمّع حالي بين كيانات اجتماعية أو سياسية، لا يمكن أن يتم على النسق الهرمي الذي التزم به المجتمع الصناعي كأساس تنظيمي للدولة القومية . بل على العكس من هذا، تفرض طبيعة مجتمع المعلومات أن تقوم الكيانات الأكبر على أساس التنظيم الشبكي، وفقا للمصالح المتبادلة بين الأطراف، و طالما استمرت تلك المصالح قائمة
سينجح الجهد الحالي لإقامة الوحدة الأوروبية، بقدر ما يسود هذا الفهم بين الدول و الشعوب الأوروبية .. فنحن لسنا بصدد إقامة نظام ولايات أوروبية متحدة، على نمط الولايات الأمريكية المتحدة

ثالثا : وهم ثبات معاني المصطلحات

الكثير من الخلط و سوء الفهم الذي يسود حواراتنا يرجع إلى تصوّر البعض ثبات معاني الكلمات و المصطلحات و الأشياء .. و حقيقة الأمر أن معاني الأشياء تتغيّر بتغيّر النظام المجتمعي السائد في الحياة . إنّنا لا نصل إلى حلول لمشـاكلنا الحالية، لأنّنا نتعامل مع الكلمات و المصطلحات و الأشياء بمعناها القديم، أو بمعنى أدق المعنى النابع من ظروف مجتمعية سابقة غير الظروف السائدة
عدم فهم المعنى المعاصر للكلمة، و عدم الانتباه لتغيّر معناها السابق بتغيّر الواقع المجتمعي، يقود إلى الكثير من الخلط و التضارب فيما نقوله، و يفقد حواراتنا جدواها . إنّنا نتناقش حول الاقتصاد و الديموقراطية و التعليم و الأسرة و الإدارة و القيم و الأخلاق، فلا نصل إلى الحد الأدنى من الفهم المشترك، الذي يسمح لنا بمواجهة مشاكلنا بشكل عملي، في كل مجال من هذه المجالات .. و السبب في هذا أن الكلمات و المصطلحات كائنات عضوية، تتغيّر بتغيّر النظم المجتمعية السائدة
مثال ذلك ما يحدث عندما نتكلّم عن أمور الأسرة و مشاكلها، فنرى كل واحد ينطلق من قاموسه الخاص، و معنى الأسرة الذي يعنيه، فلا نصل إلى نتيجة ما . مصطلح " الأسرة "، يكون له معناه الخاص، وفقا لنوع المجتمع السائد : زراعي، أم صناعي، أم معلوماتي
في المجتمع الزراعي، الذي ما زالت الكثير من رواسبه باقية في حياتنا، ربّما في بعض أعماق الريف، كانت الأسـرة كبيرة الحجم تضمّ عدّة أجـال من الأبناء و الأحفـد و الأقارب، وتعمل كوحدة إنتاجيــة استهلاكية . كانت الأسرة تتكفّل بجميع احتياجات أفرادها، التي كانت محدودة و تنحصر في توفير المسكن و الطعام و التعليم و الرعاية الطبّية، و تنظيم العلاقة بين أفرادها وفقا للقيم السائدة
عندما بدأ زحف عصر الصناعة منذ حوالي قرنين و نصف، شعرت الأسرة بضغوط التغيير، و تلقّت السلطة الأبوية ضربة محسوسة، و تغيّرت العلاقة بين الآباء و الأبناء . و مع تحوّل الإنتاج الاقتصادي الأساسي من الحقل إلى المصنع، لم تعد الأسرة الممتدّة كبيرة العدد صالحة للحياة الجديدة . لقد تطلّب المجتمع الصناعي من العامل في المصنع أن يكون قادرا على الانتقال من مكان لآخر، وفقا لحاجة العمل الصناعي، و مع الانتقال إلى المدن تحت وطأة الاضطرابات الاقتصادية المصاحبة للتغيير، تخلّصت الأسرةمن الأقارب، و وصل بنا الأمر إلى " الأسرة النـووية "، و التي تتكوّن من الأب و الأم و عدد قليل من الأبناء
و لكي يتفرّغ العامل لعمله في المصنع، نشأت مؤسّسات متخصّصة للقيام بالمهام التي كانت توكل تقليديا للأسرة، فأوكل تعليم الأطفال و الصغار إلى المدارس، و الرعاية الصحّية للمستشفيات، و الاهتمام بكبار السن و رعايتهم إلى الملاجئ و بيوت العجزة . مع كل هذه التغيّرات، كان لابد أن تتغيّر القيم الأسرية التي كانت سائدة في عصر الزراعة، لتحلّ محلّها قيم جديدة نابعة من احتياجات و عقائد عصر الصناعة
و اليوم، و نحن ننتقل من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات، يتأسّس شكل جديد للأسرة، غير الذي عرفناه في عصر الزراعة أو الصناعة . فيصبح للأسرة شكلها الجديد و قيمها الجديدة، الأمر الذي سيكتمل، عندما يتم التحوّل إلى مجتمع المعلومات
المهم، عندما نتكلّم و نتناقش حول الأسرة، يكون علينا أن نحدّد عن أيّة أسرة نتكلّم
انقضاء أجل ديموقراطية التمثيل النيابي
و نحن أيضا نتناقش و نتحاور حول الديموقراطية، دون أن نحدّد أيّة ديموقراطية نعني ..فعلى مدى التاريخ تغيّر مضمون و شكل الممارسة السياسية مع تغيّر الأسس المجتمعية السائدة
البعض يقول ديموقراطية، و هو يعني الشكل الديموقراطي الناقص الذي كان سائدا طوال عصور الزراعة، و الذي لم يكن يتجاوز " الشورى "، مع بقاء صلاحيات صناعة القرار عند الحاكم أو الوالي أو الشيخ .. و التي عبّرت عنها قصص ألف ليلة بعبارة " دبّرني يا وزير .." ! . لقد كانت الشورى هي الحدّ الأقصى للديموقراطية على مدى عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة
و البعض الآخر، عندما يقول ديموقراطية، فهو يعني الشكل السائد حاليا في عديد من الدول، ديموقراطية التمثيل النيابي، التي ابتكرها المجتمع الصناعي، لسدّ جانب من احتياجات اتّخاذ القرار التي تضخّمت مع دخولنا إلى الحياة الصناعية . ديموقراطية تقوم على تجميع الجماهير في أحزاب، و قيام الفرد بتوكيل من ينوب عنه في عملية المشاركة في اتّخاذ القرار، هذه الديموقراطية البرلمانية التي لم تعد تحقّق أحلام البشر، في الدول النامية و المتطوّرة معا
و يندر أن تجد من يفهم المعنى المعاصر للديموقراطية، النابع من احتياجات و طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات .. يندر أن تجد من يتحدّث عن ديموقراطية المشاركة، أو الديموقراطية التوقّعية، ممّا نوضّح معانيه و طبيعته فيما يلي من حديث
المهم، أن الحديث عن الديموقراطية يجري في اللقاءات دون الاتفاق على الحد الأدنى من الفهم، نتيجة عدم الانتباه للتغيّرات التي تطرأ على مفهوم الديموقراطية، من عصر إلى عصر
من المدير .. إلى القائد
نفس الخلط يحدث في مجال حيوي آخر، هو الإدارة . و رغم أن الإدارة تعتبر عنصرا هاما في مجال النشاط الاقتصادي، فما زلنا نرى العديد من خبراء الإدارة و الاقتصاد عندنا، الذين يقفون عند مفهوم الإدارة الذي كان شائعا على مدى عصر الصناعة، دون أن ينتبهوا إلى عواقب إهمال التغيّرات التي طرأت على هذا المجال بالدخول إلى عصر المعلومات
غاية ما نسمعه في الندوات و الموائـد المسـتديرة، حديث عن التجويد، و استعارة لبعض المصطلحات الشائعة، دون إدراك السياق الذي تنبع منه . لقد كان الكثير من المختصّين في مجال الإدارة، يبدون انزعاجا كلّما قلت أن التغيّرات التي يأتي بها مجتمع المعلومات تحتاج إلى إعادة بناء شامل للمؤسّسة أو الشركة أو الهيئة، العامة أو الخاصّة . و أن هرم تسلسل الرئاسات الذي كنا نأخذ به، قد أخلى السبيل لتنظيمات شبكية جديدة، لا تشبه في شيء التنظيمات التي عرفناها على مدى 200 سنة مضت . و أن رئاسة العمل تنتزع من يد المدير الآمر المحتكر لسلطة اتّخاذ القرار، لتوضع في يد قائد العمل المشارك الذي تكون مهمته الأولى تسهيل و تيسير عمل من يشاركونه
المصطلحات كائنات حيّـة
ما قلناه عن الأسرة و الديموقراطية و الإدارة، ينسحب أيضا على الاقتصاد و التعليم و كافة مجالات النشاط البشري الأخرى
وهم الاعتقاد بإمكان ثبات و استقرار مفهوم الكلمات و المصطلحات، يعوق أيّ تفكير نقوم به لاستشراف المستقبل، و يحيل حديثنا إلى حوار طرشان
بل أن مفاهيم الزمان و المكان تتغيّر أيضا مع تغيّر الأسس المجتمعـية التي تقوم عليها حياتنا . في هذا يقول جون جريبين، عالم الطبيعة الفلكية، و الكاتب العلمي " .. لم يعد الزمان شيئا ينساب إلى الأمام بلا رجعة، وفقا لإيقاع ساعاتنا و تقاويمنا، فقد ثبت علميا أنّه بطبعه يدور و ينكمش و ينبسط ! .."، و هو ما قال به أينشتين في نظرية النسـبية . دخولنا إلى مجتمع المعلومـات، يدخلنا في علاقـات جديدة، في كلّ مجال، و أيضا مع الزمان و المكان
خلاصة القول، أن المصطلحات كائنات حيّة، يتغيّر معناها و يتطوّر مضمونها مع الزمن .. لهذا، فإن الاتّفاق على التعريف المعاصر للمصطلح، أمر ضروري للوصول إلى تفكير أو حوار مثمر

رابعا : إمكان الانطلاق من عقيدة سابقة

قد يعترض البعض على وصف الانطلاق من عقيدة أو أيديولوجية بالوهـم، و قد يقول البعض الآخر أنه من الصعب تصوّر حياة الإنسان، بدون عقيدة أو أيديولوجية، فأعظم إنجـازات البشرية كانت تقوم على عقيدة معيّنة أو فلسفة خاصّة أو أيديولوجية محدّدة . غير أن الوهـم الذي أتحدّث عنه، هو وهم تصوّر إمكان تطبيق عقيدة أو أيديولوجية، نابعة من مواصفات مجتمـعية معيّنة، على ظروف مستجدّة نابعة من مواصفات مجتمعية مختلفة
نحن في حاجة شديدة لمراجعة العقائد و الأيديولوجيات التي شاعت في عصر الزراعة، و أيضا في عصر الصناعة، لنرى مدى توافق السياق الذي خرجت منه مع أوضاعنا المجتمعية الراهنة و القادمة، بكلّ ما تتّسم به من تغيّرات جذرية متسارعة غير مسبوقة
و نحن نعلم مدى صعوبة تنازل الفرد عن عقيدة آمن بها لسنوات سابقة . و خير مثال على هذا، عقيدة أن الأرض منبسطة ساكنة و أن الشمس تدور من حولها، ما زالت بعد مئات من سنوات التنوير التي كشف فيها علم الفلك طبيعة العلاقة بين الأجرام السماوية، و بعد أن التقطت مراكب الفضاء صورا و أفلاما تظهر الأرض ككرة، تجد من يتمسّك بها في بعض المجتمعات المتخلّفة . و السر في هذا هو أن اقتلاع العقيدة الخاطئة أو التي قد ولّى زمنها يحتاج إلى نوعين من الجهد، في الوعي و اللاوعي معا
العيب في التطبيق
و من الأمثلة القريبة الواضحة على هذا، الوهم الذي يقع فيه من يقولون بأن الماركسية كعقيدة ما زالت صالحة كأساس للمجتمع البشري، و أن ما حدث من انهيار في الدول الاشتراكية يرجع إلى عيوب و أخطاء في تطبيقها .. و كذلك الوهم الذي بقع فيه من يعتقدون أن سقوط الاشتراكية معناه الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي . إلى هذه الأوهام يعود الكثير من المشاكل و المآسي التي يعاني منها المجتمع البشري حاليا
الذي قلته ـ أكثر من مرّة ـ في كتاباتي عن المستقبل، هو أن الاشتراكية و الرأسمالية معـا، وجهان لعملة واحدة، هي مجتمع الصناعة، بأسسه و مبادئه و عقائده .. و أن تلك العملة قد بدأت تفقد قيمتها و تختفي من التعاملات الحديثة . العمّال الذين تتحدّث عنهم الماركسية، هم عمّال عصر الصناعة : يعتمدون على العمل العضلي البسيط المتكرّر، الذي لا يحتاج إلى تفكير أو إعمال للعقل، و هي نفس صفات عمّال المجتمع الرأسمالي . و المجتمع الذي ترسمه الماركسية هو مجتمع الصناعة الجماهيري، الذي يقوم على التوحيد القياسي و النمطية، و يدار من أعلى وفقا لتسلسل الرئاسات الهرمي المركزي، الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي
فالماركسية بهذا، قامت أساسا لتتعامل مع المجتمع الصناعي، و تلتزم بخصائصه في العمل و الإنتاج و التنظيم الإداري و التركيب الاقتصادي . و هو نفس ما قامت عليه رأسمالية آدم سميث و ريكاردو . لهذا،بصرف النظر عن سلبيات و إيجابيات هذا أو ذاك، فإن انقضاء عصر الصناعة و الدخول إلى عصر المعلومات، بأسسه و مبادئه المناقضة غالبا مع أسس و مبادئ عصر الصناعة، يجعل تصوّر استمرار الاعتماد على أي من الأيدلوجيتين، في التفكير و التنظيم و التخطيط، وهما كبيرا
خلاصة القول، لا توجد عقيدة أو أيديولوجية صالحة لكل زمان و مكان . و أكثر أوهام التفكير ضررا، تصوّرنا إمكان حلّ مشاكلنا، و إعادة بناء حياتنا، على أيديولوجية أو عقيدة نابعة من نظام مجتمعي سابق، لم يعد يسود حياتنا


خامسا : التناول الأحادي في زمن التغيير

في أوضاع الاستقرار، و الثبات النسبي، و التغيّرات المحدودة، يسهل تصوّر أي جانب من جوانب النشاط البشري، دون الوقوع في أخطاء فادحة
منذ مئات السنين، كان في إمكان صانع القرار، في مجتمع معيّن، أن يصل إلى حلّ مشكلة معيّنة، أو يخطّط لنشاط ما، دون اعتبار كبير للتغيّر في العلاقات بين ذلك النشاط و غيره من النشاطات الأخرى .. كل ما كان عليه، هو أن يرسم خطّا مستقيما في الرسم البياني الذي يسجّل تطوّر ذلك النشاط، و يمدّه على استقامته لكي يتعرّف على مستقبل تطوره عند زمن معيّن، تحدّده نقطة على ذلك الخط المستقيم
و ما زال بعض صنّاع القرار عندنا، و عند غيرنا من الدول غير المتطوّرة، يتّبعون نفس المنهج القديم، ربّما يكون مرجع ذلك إلى التعوّد، أو افتقاد البدائل الأسلم . و عندما يتكرّر فشلهم، المرّة تلو الأخرى، غالبا ما يرجعون ذلك الفشل إلى العديد من الأسباب و الاعتبارات، والتي لا يكون من بينها السبب الحقيقي أو الاعتبار الأساسي للفشل، ألا وهو التناول الأحادي في زمن التغيير الجذري الشامل
الذي يجب أن نأخذه في اعتبارنا عند محاولة فهم أو مناقشة أيّة مشكلة و السعي إلى حلّها، هو أن الوضع حاليّا لا يمكن وصفه بالاستقرار أو الثبات النسبي .إذا ما استطعنا أن نخرج أنفسنا من محنة حياتنا اليومية و ما يكتنفها من مصاعب و مشاكل، و تأمّلنا بتركيز مسيرة الحياة، تحت أقدامنا، و من حولنا، على مدى العقود الأخيرة، تحقّقنا من أنّنا نمرّ عبر عصر غير مسبوق في التاريخ .. ما نحن بصدده ليس مجرّد تغيّرات كبرى، أو تطوير في هذا المجال أو ذاك، إننا بصدد تغيرات ثورية حقيقية
هذه التغيّرات المتسارعة، تؤثّر على جميع مظاهر الحياة بلا استثناء، في البيت و المدرسة و المصنع و المكتب، و تعيد بناء نظم الطاقة و المواد الخام و الاتّصال و الانتقال و الاقتصاد .. بل وتعيد تشكيل نظم الممارسة الديموقراطية، و معنى السيادة الدولية . هذه التغيرات الثورية تعمّ المجتمعات البشرية جميعها بلا استثناء، من أمريكا إلى اليابان، و من إنجلترا إلى جنوب أفريقيا و استراليا
الرؤية المستقبلية
بفضل جهد بعض المفكّرين و الباحثين المستقبليين، أمكن التوصّل إلى بعض المؤشّرات الأساسية للتغيّر، التي يتزايد تأثيرها مع مرور السنين على مدى العقود الأخيرة، و التي تعكس التحوّل إلى مجتمع المعلومات . من دراسة علاقات
التأثير المتبادل بين هذه المؤشّرات، أمكن الوصول إلى رؤية مستقبلية شاملة لأوضاع البشر في مجتمع المعلومات . هذه الرؤية المستقبلية لا غنى عنها في أي محاولة لطرح حلول لمشاكلنا الراهنة، أو لعمليات إعادة البناء المطلوبة للتوافق مع متطلّبات مجتمع المعلومات
الاعتماد على الرؤية المستقبلية الشاملة، و ليس فقط على أحد مؤشّرات التغيير، يفيدنا في الوصول إلى حلول باقية، أو مستدامة، لمشاكلنا، لا تقود إلى توليد مشاكل مستجدة في المستقبل، و يساعدنا في تصوّر مستقبل أي نشاط أو نظام بشري، و تفاصيل حياتنا خلال تحوّلنا من مجتمع الزراعة و الصناعة، إلى مجتمع المعلومات
الرؤية المستقبلية الشاملة، هي سبيلنا لوضع الاستراتيجية العامّة لبناء حياتنا الجديدة في عصر المعلومات، و إرساء الاستراتيجيات الخاصّة في كل مجال من مجالات النشاط البشري، بحيث نضمن عدم ظهور التناقض بين هذه الاستراتيجيات و بعضها البعض، أو مع الاستراتيجية العامة لإعادة البناء
بدون الرؤية المستقبلية الشاملة، سنفقد التكامل بين عمليات إعادة البناء المختلفة في مختلف مجالات حياتنا، و بين خطط التطوير المختلفة التي نأخذ بها
الرؤية المستقبلية، هي المرجع الأساسي الذي نعتمد عليه في عمليات التحوّل السلمي الناجح إلى الحياة الجديدة في مجتمع المعلومات


سادسا : وهم إغفال المتغيّرات العالمية

من بين الأوهام الشائعة، و هم إمكان صياغة رؤية مستقبلية لمصر لا تقوم على أساس التغيّرات العالمية الحالية، و كذلك وهم إمكان التعامل مع التغيّرات العالمية دون البحث عن جذورها و أصولها و جوهرها و العلاقات المتبادلة بينها، و أخيرا.. وهم التخطيط لرؤية مستقبلية على يد الصفوة عند القمّة
عندما أناقش مؤشّرات التغيير العالمية، و التي تشكّل مستقبل الجنس البشري، خلال محاضراتي، غالبا ما يواجهني نفس السؤال : ما تقوله قد ينطبق على أمريكا أو روسيا أو اليابان، لكن أين نقف نحن من هذا في مصر ؟ .. ما هو مستقبلنا نحن ؟
و كانت إجابتي دائما هي " الرؤية المستقبلية لمصر يجب أن تقوم على أساسين : أوّلهما، جوهر مؤشّرات التغيّر للجنس البشـري بصفة عامّة . و ثانيهما، التعرّف الصادق و المخلص للواقع المصري الحالي . و كنت أوضّح هذا قائلا أنّ مهمّتي رجل التنبّؤات الجوّية، الذي يقرأ نتائج أجهزة القياس الخاصّة بالرصد الجوّي، و يمتحن صور الأقمار الصناعية، ثم يعلن في نهاية الأمر درجة الحرارة المتوقّعة، و غير ذلك من العناصر الجوّية كالأمطار و الرياح . و يكون على كلّ فرد أن يتفهّم احتياجاته المباشرة، و ما يمكن للرؤية الجوّية المطروحة أن تؤثّر به على سعيه.. كيف يستفيد من ذلك التنبّؤ، أو يتجنّب سلبياته
و قد لا نحتاج إلى الإشارة أن التكنولوجيات الإلكترونية المعلوماتية المتطوّرة قد أسقطت الحواجز بين الدول و الأقاليم و القارات، فأضحت مؤشّرات التغيير عالمية في تأثيرها .. و أصبحت مشكلة أيّ إنسان فرد في أي مكان على سطح كوكب الأرض، هي مشكلة جميع البشر، في كلّ مكان من الأرض، لهذا، فأيّ رؤية لحل مشاكل مصر، الراهنة و المستقبلة، يجب أن تبدأ بفهم جوهر التغيّرات العالمية الجارية، و المفروضة علينا، شئنا أم أبينا

سابعا : علاقات متبادلة بين المتغيّرات

بعض المهتمّين بالدراسات المستقبلية، يعتمدون في دراساتهم على رصد تغيّر واحد أو مجموعة تغيّرات، دون السعي إلى فهم العلاقات متبادلة التأثير بين هذه المتغيّرات . و هذا التخوّف من النظرة الأعمق يعتبر نوعا من الكسل الذهني المعيب . و السعي إلى تصوّر رؤية مستقبلية لمصر، يقتضي المضي إلى ما هو أعمق من مجرّد مراقبة و متابعة المؤشّرات العالمية للتغيير . و الحقّ يقال، أن هذا الوهم لا يقتصر على المفكّرين المصريين أو العرب، بل يشمل العديد من المفكّرين في أنحاء العالم
و خير مثال كلاسيكي لهذا الوهم الخاطئ، نجده في حصيلة اجتماعات نادي روما عام 1970، التي جرت تحت لافتة " مأزق البشرية "، الذي صدر عنه الكتاب الشهير " حدود للنمو " . و نادي روما، هو تجمّع لعدد مختار من صفوة العلماء و المفكّرين من دول مختلفة، و من مختلف التخصّصات، تدعمه ميزانيات كريمة من المؤسسات الاقتصادية الكبرى . في اجتماع النادي الذي تمّ في صيف 1970، بحث الأعضاء خمسة عوامل أساسية تحدّد مستويات النمو على كوكبنا : عدد السكان، و الإنتاج الزراعي، و الموارد الطبيعية، و الإنتاج الصناعي، و تلوّث البيئة . و قد اعتمد الباحثون في دراستهم لمستقبل كل عامل من هذه العوامل على الربط بين الكمّ الهائل من المعلومات حول هذا الجانب، و بين الإمكانات المعلوماتية الحديثة، كالمنهج العلمي، و تحليل النظم، و أحدث نظم الكمبيوتر
رغم المكانة العالية للباحثين الذين ساهموا في وضع ذلك التقرير، و رغم علمية و دقة الأدوات التي اعتمدوا عليها في الرصد و استنباط مستقبل الظاهرة بمد الخطوط الخاصّة بنموّها، فإن النتائج المتشائمة التي توصّل لها هذا التقرير ترجع إلى دراسة كل عامل من العوامل، بمعزل عن العوامل الأخرى
و مع أن التقرير يتحدّث عن العلاقات المتبادلة بين مختلف العناصر، إلاّ أنّه اعتمد أساسا على عملية مد الخطوط البيانية رياضيا، ممّا خلق تلك النظرة المتشائمة للتقرير . فالثابت أنّنا لا نستطيع أن نفهم مستقبل أيّة ظاهرة من الظواهر، دون أن نربط بينها و بين باقي الظواهر المؤثّرة، و دون معرفة التأثير المتبادل بينها
آثار تكنولوجيا المعلومات
لكي يتّضح معنى ما أتحدّث عنه، يمكن أن نعطي مثالا على التأثير المتبادل، للعلاقة بين التكنولوجيا المعلوماتية، و العمل، و الأسرة، و التعليم، و تخطيط المدن، و وسائل الانتقال .. إلى آخر ذلك
تطوير الكمبيوتر خلال نصف القرن السابق، قاد إلى تغيير مستقبل عدّة مجالات في حياتنا، و تأثّر هو أيضا بهذه التغيّرات . تطوير الكمبيوتر، قاد إلى تطوير الإنسان الآلي ( أو الروبوت )، و هذا قاد إلى تغيير طبيعة العمل في المصنع و المكتب، و واجهت العمالة التقليدية لعصر الصناعة أزمة بطالة حادّة بشيوع العمل العقلي أو المعرفي مكان العمل
هذا التحوّل في طبيعة العمل، مع التطوّر المتلاحق في التكنولوجيات المعلوماتية، مع القدرات التي أتاحتها وسائل الاتّصال المتطوّرة عن طريق أقمار الاتّصال الاصطناعية، كل هذا جعل من الممكن أن يمارس العديد من العاملين عملهم، دون الاضطرار إلى التواجد جسديا في المقرّ المركزي للعمل، و خلق فرصاإيجابية جديدة للأسرة و المرأة و الطفل، و استوجب إعادة النظر في الإسكان و في وسائل الانتقال . و قاد هذا أيضا إلى ضرورة تغيير الأسس التي قام عليها التعليم التقليدي طوال عصر الصناعة
لهذا، نخطئ إذا ما تصورّنا أن بإمكاننا أن نرسم صورة لمستقبل النشاط الإسكاني ـ عل سبيل المثال ـ دون أن ندخل في اعتبارنا طبيعة العمل في المستقبل، و نوع التعليم الذي سيسود مستقبلا
رسم الرؤية المستقبلية، لأيّ نشاط، يجب أن يقوم على أمرين : فهم العوامل المؤثر’ و التغيّرات التي تطرأ على ذلك النشاط، ثمّ فهم العلاقات متبادلة التأثير بين هذه العوامل و المتغيّرات


ثامنا : مهرجان ديموقراطي جماهيري

من الأوهام الشائعة، و التي تسندها طبيعة ديموقراطية التمثيل أو التوكيل التي شاعت في عصر الصناعة، إمكان أن تنوب الصفوة عند القمّة عن الشعب في وضع الرؤية المستقبلية لذلك الشعب
تعتمد الرؤية المستقبلية لمصر على أمرين
فهم مؤشّرات التغيير العالمية السائدة، و تصوّر مستقبلها من واقع علاقات التأثير المتبادلة بينها
فهم الخريطة الحالية للمجتمع المصري، بكل ما يمكن من دقّة و صدق و أمانة .. أي فهم الأرض التي نتحرّك فوقها، و النقاط الواقعية التي سنتحرّك منها إلى المستقبل .. و الخريطة المجتمعية المطلوبة، يجب أن تحدّد بكلّ دقّة التوزيعات المجتمعية على أرض مصر، و مدى تأثير قيم و مبادئ و عقائد المجتمع الزراعي، و المجتمع الصناعي، و مجتمع المعلومات، على البشر في مصر
و إذا كنّا حتّى الآن نأخذ بشكل ديموقراطية التمثيل النيابي، بقدر ما تسمح به ظروف الحكم و صراعات القوى، و التي تعني توكيل بعض البشر عن جماهير الشعب في اتّخاذ القرارات التي تؤثّر على صميم حياة هذه الجماهير .. إذا كنّا نرضى بهذا في مجريات أمورنا اليومية، فليس من الجائز أن نسمح به عند وضع الرؤية المستقبلية لمصر، التي يفترض أنّها ستعيد صياغة مصير الأجيال الحالية و القادمة
الرؤية المستقبلية لمصر، يجب أن تقوم على الأحلام الواقعية لجماهير الشعب، بمختلف فئاته و طبقاته وعقائده .. و هذا يعني أن بداية جهد وضع الرؤية المستقبلية لمصر يجب أن يتزامن مع جهد التحوّل من ديموقراطية التوكيل إلى ديموقراطية المشاركة، و ربما إلى الديموقراطية التوقّعية .. المهم، أن تتحوّل عملية رسم أبعاد الرؤية المستقبلية لمصر، إلى مهرجان ديموقراطي جماهيري، و لا يقتصر وضعها على الصفوة عند قمّة الهرم المركزي