Tuesday, November 9, 2010

التنقيب في مخلّفات الماضي

نهضة مصر - 2005

عندما لا يجدي الترقيع
حكاية واقعية من ذكريات الصديق الراحل صالح مرسي

كنت مع صديقي الأديب الراحل صالح مرسي في الإسكندرية، سألني : إلى أين ؟، قلت : إلى ورشة السيارات التي في شارع منشّا، في محرّم بك،، لأرى ما تم في العمـرة التي يقومون بها لسيارتي
عـرض عليّ أن نذهب معا في سيارته الهيلمان القديمة، فشكرته . اندهش صالح لضخامة الورشة، و ما فيها من خدمات متطوّرة، و عندما انتهيت من حديثي مع المهندس زكي، و عرفت منه موعد استلام السيارة، حتّى اندفع صالح يقول بحماس للمهندس : و أنا أيضا أريد أن أعمل عمرة لسيارتي . أجاب المهندس الإسكندراني زكي بهدوئه المعتاد : و ماله نشوفها
بعد معاينة السيارة، واجه المهندس صالح بكل هدوء وبشاشة قائلا : ما ينفعش ! . فسأل صالح بحدّة توحي باستيائه الشديد : ليه ؟. أجاب المهندس قائلا أنه لو فكّ موتور السيارة، فالأغلب أنه لن يصبح من الممكن تجميعه مرّة أخرى
انصرفنا، وأنا أحاول تخفيف شعور الاستياء الذي استولى عليه . و في الموعد الذي حدّدوه لاستلام سيارتي، صمّم صالح أن يذهب معي، قائلا أنه اتّصل بقريبه الذي كان قد اشترى منه السيارة، و يعمل في اليمن، و أن ذلك القريب وعده بشحن موتور هيلمان جديد لسيارته
عندما زف صالح البشرى إلى المهندس زكي، ابتسم قائلا بنفس الهدوء : برضه ما ينفعش . ثار صاالح، فراح الرجل يشرح له الاستحالة الفنية، و كيف أن أجزاء السيارة القديمة ستتداعى نتيجة لقـوّة الموتور الجديد .. ظهر الحزن على صالح و هو يقول : كان نفس أصلّحها .. أصلي باحبّها قوي . فقال الباشمهندس بنفس الهدوء التقليدي : هات لك يا بيه عربية جديدة و حبّها برضه !.. أصل الحب مش في الميكانيكا


في مهرجان الحلول المطروحة لمصر

تذكّرت هذه الحكاية، و أنا أتابع مهرجان الحلول المطروحة لنهضة مصر : الحلّ الاشتراكي، و الحلّ الرأسمالي، و الحل الإسلامي، و الحلّ القومي العربي الوحدوي .. هذا المهرجان الذي يطرح جميع الحلول، ما عدا الحلّ النابع من طبيعة المرحلة الحضارية الراهنة التي يمر بها الجنس البشري، و الذي أحاول جاهدا أن ألفت النظر إليه
مازال البعض منّا ينادي بالعودة إلى الحلّ الاشتراكي، في مواجهة أنصار الحل الرأسمالي، الذي ارتفعت أسهمه بعد انهيار الكتلة الاشتراكية، بدعوى أن الحل الاشتراكي فشل في التطبيق، و ليس من حيث المبدأ . أمّا أصحاب الحلّ الرأسمالي فيرون أنّهم حققوا النصر النهائي على الماركسية و الاشتراكية، و أن الاقتصاد الرأسمالي هو السبيل لإنقاذ مصر
و ينسى جميع هؤلاء أنّ الرأسمالية و الاشتراكية هما وجهان لعملة واحدة هي المجتمع الصناعي.. هما رؤيتان للتعامل مع مجتمعات تمضي وفق المبادئ الأساسية لعصر الصناعة . و جرى تطبيق الرأسمالية و الاشتراكية على مجتمعات تعتمد المركزية الممعنة، وتقوم على أساس الهرم البيروقراطي، تعتمد على الإنتاج على نطاق واسع (ماس برودكشن) و التوزيع على نطاق واسع، و على السوق المتطوّرة التي تربط بيتهما، و أخذا معا بمبدأ السعي نحو الأضخم و الأكبر، و بلوغ النهايات العظمى، و على نفس طبيعة العمالة العضلية بنفس حدودها الضيّقة . كذلك جرى تطبيق الرأسمالية و الاشتراكية على مجتمعات تقوم على النمطية، و التوحيد القياسي، و الجماهيرية في كلّ شيء، في الإنتاج و الاستهلاك و التعليم و الممارسة السياسية و الإعلام .. أي أنهما ـ باختصار ـ جرى تطبيقهما معا على مجتمعات صناعية

ثورة المعلومات، و حياة جديدة

و منذ منتصف القرن الماضي، و مع بداية ثورة المعلومات ، أخذت مبادئ المجتمع الصناعي في التراجع، مفسحة المجال لمبادئ جديدة مختلفة، بل و متناقضة مع مبادئ عصر الصناعة . لقد أصبح للتقدّم و الترقّي أهدافا جديدة، غير الأهداف التي شاعت في عصر الصناعة
هذه الأهداف الجديدة هي التي يجب أن نسعى للتعرّف عليها و نحن نبحث عن حلول لأوضاع مصر، تقود إلى مستقبل أفضل . لن يفيدنا أن نبحث عن حلول من مجتمعات قامت على أسس مجتمعية مختلفة عن أسس مجتمع المعلومات، شاعت و نجحت في مجتمعات تاريخية أخرى
لهذا، أنصح من يحاولون ـ بجد ـ أن يبحثوا عن واقع و مستقبل أفضل لمصر، أن يضعوا نصب أعينهم المهام الضرورية التالية
أولا : النظر إلى التاريخ باعتباره تتابع لموجات حضارية كبرى، زراعية، ثم صناعية، ثم معلوماتية
ثانيا : الاعتماد على مؤشّرات التغيّر الكبرى الحالية في التعرّف على طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات، و الأسس الجديدة التي تقوم عليها حياة البشر
ثالثا : التوصّل إلى رؤية مستقبلية شاملة، نستنبط منها مستقبل أي نشاط في حياتنا
رابعا : الفهم الصادق الأمين للواقع المصري الحالي، و معالم الخريطة الحضارية لمصر، أي مدى سيادة و تأثير المبادئ الزراعية و الصناعية و المعلوماتية على أرض مصر

* * *

هذا هو السبيل الأسلم للتفكير في إعادة بناء مصر، من أجل اللحاق بركب التطوّر البشري، و هو الذي سيغنينا عن التنقيب في حلول من مخلّفات الماضي، و يريحنا من محاولات فتح الأبواب الجديدة بمفاتيح قديمة

راجي عنايــت


1 comment:

  1. المجتمع الصناعي أثبت فشله في عدة أوجه من أهمها بالطبع علاقته بالبيئة وهو ما يجعله نموذج لا يصلح للاستمرار
    ولذلك عندك كل حق يا سيدي أن الحل هو البدء من حيث انتهى الآخرون، لكن علينا ان نعرف اين انتهى الاخرون بالفعل لأب بعض الاخرين ما زالوا في المرحلة الصناعية أو انهم في مرحلة انتقالية وقد يكون الوضع اسهل لبدء مشروع النهضة من النهاية اي ان مصر قد تدخل عصر المعلومات بشكل افضل عما لو كانت دخلت العصر الصناعي وتريد التحول منه الى عصر المعلومات والحضارة المستدامة
    sustainable
    لكن بالطبع تظل المشكلة الحقيقة في مصر ان القائمين على االامر لا يفكرون في النهضة اساسا لكن اولوياتهم ذاتية قبل ان تكون في صالح وطنهم

    ReplyDelete