Saturday, June 26, 2010

في مجتمع المعلومات

عالم اليوم ـ يوليو 1997ـ راجي عنايت


تعدّدية عصر المعلومات
تختلف عن تعدّدية عصر الصناعة

في نفس الوقت الذي حقّق فيه اتّجاه " سيادة " الحكومة انتصاره العظيم، بزغـت عدّة مراكز قوّة جديدة، من بينها المؤسّسة الاقتصادية الحديثة .. هذا هو ما يقوله بيتر دراكر، في كتابة " حقائق جديدة "، خلال حديثه عن التعددية الجديدة التي تصاحب قيام مجتمع المعلومات
و كان من أمثلة هذه المؤسّسات الاقتصادية الحديثة، السكك الحديدية الضخمة في الولايات المتّحدة، و ما كان يعرف باسم البنك العالمي في ألمانيا . لقد كانت مشروعات العمل الاقتصادي موجودة، بشكل أو بآخر، على مدى العديد من القرون . و مع ذلك، فإن المؤسسات الاقتصادية الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، كانت مختلفة عن أي شيء آخر، و أكثر ضخامة
و نظرا لأن أول مركز قوّة جديد، كان مؤسسة النشاط الاقتصادي، يفسر السرّ في أننا ما زلنا نسمع تعبير إدارة المشروع الاقتصادي، عندما يذكر أحد ما كلمة إدارة . و هو أيضا يكشف السبب في أننا أمضينا ما يصل إلى مائة سنة، نركّز في مناقشاتنا على العلاقة بين المؤسسة الاقتصادية و الحكومة، و بين المؤسسة الاقتصادية و العمالة، و بين المؤسسة الاقتصادية و المجتمع . و هو يفسّر لماذا نتكلّم أساسا عن : المسئولية الاجتماعية للمؤسسة الاقتصادية ، بدلا من الكلام عن المسئوليات الاجتماعية للمنظّمات الحديثة

الخدمة المدنية الحديثة

و ثاني المؤسسـات التعـددية الجديدة، ظهرت بعد مؤسسـة النشاط الاقتصادي بسنوات قليلة، و كانت " الخدمة المدنية الحديثة "، و التي بدأت في النمو ـ تأثيرا و حجما ـ ما بين عامي 1875 و 1880
و منذ بداية ظهور الخدمات المدنية الحديثة، تكاثرت المؤسسات التعددية، واحدة بعد الأخرى، و أصبحت أكثر نموا من حيث الوظيفة، و الحجم، و البروز، و النفوذ : اتحادات العمال، المدارس، الجامعات ( مع نمو شديد القوّة بعد الحرب العالمية الثانية )، نظام الرعاية الصحية بأكمله، و الآليات الضخمة لدولة الرفاهية، و كذلك القطاع الثالث، و المؤسسات التي لا تستهدف الربح، و غير هذا كثير
و التعددية ليست شيئا جديدا، فمعظم المجتمعات على مدى التاريخ كانت تعددية . لكن، هناك فارقا حيويا بين التعددية الأولى و تعددية اليوم . التعددية القديمة كانت تقوم على : القــوّة ، بينما تقوم التعددية الجديدة على : الوظـيفة
منظمات التعددية الجديدة في المجتمع، لا تهتم بالحكم أو بالحكومة . و على عكس مؤسسات التعددية القديمة لا تصنع " كلاّ "، إنّها هي عبارة عن " عضو " من أعضاء المجتمع . و على هذا الأساس يكون إنتاجها بأكمله خارجها . " إنتاج " النشاط الاقتصادي مستهلك يشعر بالرضا . و " إنتاج " المستشفى هو مريض أنهى علاجه . و " إنتاج " المدرسة هو تلميذ يضع في عمله خلاصة ما درسه بعد عشر سنوات . في داخل هذه المؤسسات لا توجد سوى التكاليف
سمات التعددية الجديدة
و بشكل ما تعتبر التعددية الجديدة أكثر مرونة، و أقلّ قابلية للانقسام، من سابقتها . فالمؤسسات الجديدة لا تستند إلى القوّة، كما كانت تفعل المؤسسات التعددية القديمة، سواء كانت كنيسة العصور الوسطى، أم بارونات الإقطاع . و المؤسسات التعددية الجديدة، بعكس القديمة، لا تشترك مع بعضها في نفس الاهتمام، أو ترى العالم بنفس الرؤية . فكل واحدة من هذه المؤسسات الجديدة يكون لها هدفها الخاص الذي يدور نشاطها حوله، و الذي يعتبر القيمة الكبرى بالنسبة لها، و الشيء الوحيد الذي يهمّها . لهذا، نشأت الحاجة إلى تحقيق الاتّصال بين هذه المؤسسات الجديدة
فكل مؤسسة جديدة، تتكلّم لغتها الخاصّة، و لها معارفها الخاصّة، و لها سلّمها الوظيفي الخاص، و قبل هذا و ذلك، لها قيمها الخاصة . و لا تنظر أي من هذه المؤسسات إلى نفسها باعتبارها مسئولة عن مجتمعها ككلّ . فهذا مسئولية آخرين . و هنا يتساءل بيتر دراكر : و لكن، مسئولية من ؟

وضع الفرد في ظل المؤسسات الجديدة

و من المستجدات أيضا، وضع الفرد
في القرن التاسع عشر، كان هناك نموذجان متنافسان للمجتمع . أحدهما يتطلّع إلى مجتمع يتكوّن من صغار المستقلين : الفلاح بقطعة أرضه الصغيرة و بغله، و صاحب الدكان الصغير، و الحرفي . على أن يكونوا جميعا متساوين، لا يمارس أحد منهم سلطة على الآخر . لن يحظى أي منهم بالقوّة أو الثروة، و لكن لا يعاني أي منهم من فقر مدقع أو يكون عالة على أحد آخر
و لقد صاغ توماس جفرسون، في الولايات المتحدة، هذه الفكرة بشكل واضح . و عندما وافته المنية في عام 1826، كان قد بدا واضحا أن المجتمع لن يمضي في السبيل الذي أشار إليه . و يواصل بيتر دراكر طرحه للتحوّل التالي قائلا : و مناقضا لهذه الرؤية خرجت المدينة الفاضلة المضادة، التي وجدت تعبيرها النهائي و الأفضل في التنبؤات الماركسية، حول مجتمع يتكوّن من أفراد متساوين في فقرهم، و في خضوعهم للاستغلال .. البلوتريات المتساوية في اعتمادها على الغير، التي يسيطر عليها تماما مجموعة صغيرة من المستغلين الرأسماليين
على أي حال، لم تتحقّق أي من الرؤيتين في الواقع . لقد جاء الواقع الجديد بشيء لم يخطر على بال جفرسون أو ماركس ـ و لا بال أحد قبل خمسينيات و ستينيات القرن الماضي ـ و لا دخل في تصوراتهما أو ضمن تخيلاتهما : مجتمع " الموظفين المعرفيين "، الذين هم ليسوا مستغلين لغيرهم، و لا هم خاضعين لاستغلال أحد آخر
هذه العمالة المعرفية، يقول دراكر، التي لا يكون أفرادها من أصحاب رؤوس الأموال، و لكنّهم " معا " يملكون وسائل الإنتاج، من خلال ميزانيات معاشهم، و ميزانياتهم المتبادلة، و مدخراتهم الشخصية، و الذين يدخلون في تنظيمات، و لكنّهم يكونون في الغالب رؤساء أنفسهم أيضا . هؤلاء البشر يكونون في نفس الوقت معتمدون على الآخرين و معتمدين على أنفسهم . لديهم هامش حركة واسع، لكنهم يحتاجون إلى الانتساب إلى مؤسسة ـ كمستشارين إن لم يكن كموظفين ـ حتى يكون لهم تأثير على ما حولهم

خارج الحدود الجغرافية

التعددية الجديدة، غالبا ما تتعدّى الحدود الجغرافية التقليدية .
كان نشاط الأعمال ( البزنيس ) أوّل من دخل نطاق التنظيمات التعددية الجديدة، لذلك فقد أصبح ضمن المؤسسات متعددة الجنسيات في وقت مبكّر، ما بين 1960 و 1970 . و لكن سرعان ما لحقت مؤسسات أخرى بالركب الجديد، من بين ذلك شركات المحاسبة، و الشركات القانونية، و الشركات الاستشارية .. حتّى الجامعات قد أصبحت الآن متعددة الجنسيات
و هذا الواقع الجديد، يتناقض مع النظريات السياسية التي ما زالت تسيطر على تفكيرنا، و على نوعية تعليمنا، و على ممارساتنا القانونية
و هناك خمسة مجالات تتحدّانا فيها التعددية الجديدة حاليا
أولا :المسئولية الاجتماعية للمؤسسات التعددية
ثانيا : و مسئوليتها في مجتمعها
ثالثا : و مسئولياتها السياسية
ربعا : ما يتّصل بحقوق الفرد و مسئولياته
خامسا : دور و وظيفة الحكومة في مجتمع التعددية

و هذا هو ما سنعرض له فيما يلي من حديث

Wednesday, June 16, 2010

التحوّل الكبير

عالم اليوم ـ مايو 1977 ـ راجي عنايت

عصر الإختيارات الواســعة

.. من سباتس، و التليفون الأسود
إلى السوبر ماركت

من بين التحوّلات الكبرى المتنامية التي نمر بها، و نحن ننتقل من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات، التحوّل من الإختيارات المعدومة أو المحدودة إلى الإختيارات الواسعة المتنوّعة . و قبل أن نتكلّم عن السرّ في هذا التحول، و عن الأسباب التي دفعت إليه، دعونا نستعرض مظاهر هذا التحوّل في حياتنا، على إمتداد العقود الماضية
و لنبدأ بالأشياء الصغيرة، التي نحتكّ بها يوميّاً . زجاجة المياه الغازيّة .. لم نكن نعرف سوى صنف أو صنفان منها، و لكن على مدي العقود الأخيرة أصبحنا نرى عشرات الأصناف و الأشكال و الألوان والأحجام، و أصبح كلّ واحد يختار من ذلك التنوّع ما يرتاح إليه، و يوافق مزاجه ثم التليفون .. هل تذكرون التليفون الأسود الشهير، الذي لم يكن يوجد غيره في العمل أو البيت ؟، الآن أصبحنا نشاهد عشرات، و ربّما مئات، الطرز و الأشكال و الأحجام و الألوان . و نفس الشيئ ينسحب على الملابس و أثاث البيوت و الأدوات التي نستخدمها
رفوف اللبن المحيّرة

ذلك بعض ما يجري لدينا في مجال التنوّع و التباين، فإذا إنتقلنا إلى الدول الكبرى الأكثر منّا تطوّرا، وبخاصة الأكثر منّا اخذاً بمقتضيات عصر المعلومات، لعرفنا أن ما يحدث هناك أضعاف أضعاف ما يجري عندنا . في إحدى زياراتي لأمريكا، دخلت إلى أحد محال السوبر ماركت لأشتري لبناً . و عندما وصلت إلى رفوف اللبن، وقفت حائرا. فعلى إمتداد عدّة رفوف طويلة، وجدت أنواعاً و أشكالاً من اللبن . أخذت أقرأ ما هو مكتوب على العبوات، لبن كامل الدسم، و نصف دسم، و منزوع الدسم .. لبن بالفواكه، و لبن بالفيتامينات، إلى آخر ذلك
و في المؤتمر الذي كنت قد سافرت لأحضره، تكلّم المحاضر عن التنوّع في الحياة و العمل و الإعلام والفنون و العقائد

العمل في عصر المعلومات

قال أنّه منذ خمسين سنة مثلاً، كان نظام العمل اليومي في المصانع و المكاتب موحّداً . بداية يوم العمل، و عدد ساعاته و مكانه . يدخل العمّال و الموظّفين إلى عملهم في المصانع أو المكاتب في ساعة معيّنة، و يخرجون منه في توقيت محدّد
لكن الوضع قد أخذ في التغيّر مع بدايات دخول الدول المتطوّرة إلى عصر المعلومات . فقد أصبحنا أمام تنوع كبير في أشكال و أماكن و أوقات العمل . البعض يعمل لبعض الوقت فقط، متفرغا لنشاطات أخري. و البعض الآخر يختار ساعات العمل صباحاً أو مساء وفقاً لظروفه . العمل الواحد يقوم به فرد واحد، أو يتقاسمه مع الآخرين . البعض يعمل في المكتب أو في المصنع أو المعمل، و البعض الآخر يعمل من بيته، ولا يضطّر إلى الخروج منه، إلاّ إذا رغب في الترويح عن نفسه
و عن هذه النقطة الأخيرة، قال مفسّراً أنه قد ثبت من الدراسات أنه من الممكن أن يعمل 30% من العاملين في بيوتهم . بالطبع هذا ينسحب على أنواع معيّنة من العمل ، و خاصّة الأعمال التي تعتمد على الإبتكار، كالتصميم الفنّي و الهندسي، و إعداد الدراسات و التقارير . و قال أن الذي يسهّل هذا، وجود الكمبيوتر المنزلي، المتصل بجهات العمل و مخازن البيانات و المعلومات، من خلال الكابل . كما يساعد على هذا، إمكان عقد المؤتمرات من خلال الأجهزة الإلكترونية، بالنسبة لأفراد في أماكن أو دول أو قارات مختلفة. و لنا أن نتصوًر ما يوفًره هذا من وقت و جهد و طاقة
من المحل الكبير، إلى الدكاكين
يمكن لنا أن نرى مثالاً واضحا لهذا التحوّل من الخيار الواحد أو الخيارات المحدودة، إلى الخيارات الواسعة المتنوّعة، في مجال وسائل الإعلام
لقد أحدث زحف ثورة المعلومات إنقلاباً في طبيعة و أسس المجال الإعلامي، و سارت به في إتّجاه معاكس لإتجاهه السابق . ففي مكان تعميق التأثير الإعلامي على الجماهير، و توسيع القاعدة التي تتأثّر كلّها بنفس الرؤية النمطيّة، عمدت ثورة المعلومات إلى تفتيت هذه الجماهير و شرذمتها، متيحة بذلك الفرصة لتعدّد الرؤى و وتنويعها . و قد إنعكس هذا، بصورة واضحة متكرّرة، على الصحف و المجلاّت الكبري، و على محطّات الإذاعة و قنوات التلفزيون الكبرى
المجلاّت و الصحف الكبرى، ذات الأغراض العامة، التي تحاول أن تتضمّن كلّ ما يهم القارئ، مثل مجلّة (لايف) و (لوك)، ذات التوزيع الذي بلغ عشرة ملايين نسخة، لاحظت منذ حوالي عشرين سنة أن أرقام التوزيع بدأت تهبط بشكل مؤثّر، مع أن الخدمة التي تقدّمها لم تكن أقلّ من السابق، بل ربّما كانت أفضل . و في نفس الوقت، لاحظت تصاعد عدد المقبلين على المجلاّت المتخصّصة، المتوجّهة إلى جماهير محدّدة بعينها . مع بداية هبوط توزيع المجلاّت الكبرى، ظهرت 300 مجلةّ متخصّصة جديدة ، ثم تضاعف عددها سنة بعد أخرى . هذا النوع من المجلاّت المتوجّه إلى جماهير خاصّة، ذات إهتمام معين، بلغ عدده في الولايات المتّحدة مايزيد عن 20 ألف مجلّة، أمّا المجلاّت الكبرى فقد إحتجب معظمها

التنوّع في الإذاعة و التلفزيون

نفس الشيئ، حدث في مجال المحطّات الإذاعية و القنوات التلفزيونية . منذ إندفاع ثورة المعلومات، بدأت المحطّات الإذاعية الرئيسيّة تفقد جمهورها، لتستولي عليه الإذاعات المتخصّصة و الفئويّة، مثل إذاعة تعليم الحرفيّين، أو إذاعة الموسيقى الريفيّة، أو إذاعة هواة السفر و الرحلات، و غير ذلك من الإذاعات الصغيرة العديدة، التي تخاطب كلّ منها قطاعا محدّداً
و عن التلفزيون، يقول آلفين توفلر الكاتب المستقبلي : ظلّ التلفزيون، أكثر وسائل الإعلام تأثيراً على الجماهير، فارضاً رؤيته الخاصّة المحدّدة، التي سبق رسمها لتتفق مع مصالح المجتمع الصناعي . لكن ما أن حلّ عام 1977، حتّى بدأ ظهور معالم الأزمة التلفزيونيّة . فكتبت مجلّة تايم تقول : إنكبّ جميع العاملين و المذيعين و المديرين، يتطلّعون بعصبيّة إلى الأرقام .. إنّهم لا يصدّقون ما يرونه أمامهم .. فلأوّل مرّة في التاريخ، تنخفض مشاهدة التلفزيون بدلاً من أن تزيد
و هذا يعني أن الإرسال التلفزيوني، كوسيلة في يد الصفوة العليا لفرض رؤيتها الوحيدة على الجمهور، قد بدأ يفقد صلاحيّته القديمة . ساعد على هذا الإنتشار السريع لتلفزيون الكابل في المناطق التي بدأ تنفيذه فيها . ذلك النظام الذي يتيح للفرد أن يختار نوعية القنوات التي يحبّ أن يشاهدها، و التي تنسجم مادتها مع إهتماماته . و في هذا يقول توفلر: و هكذا يتحوّل الجمهور القديم الموحّد المتأثّر برؤية وحيدة مفروضة، إلى جماهير صغيرة متعدّدة، نشيطة إيجابيّة، تتبنّى العديد من الرؤى

الخروج من قبضة الأخّ الأكبر

لا أريد أن أسترسل في سرد أمثلة التحول إلى الخيارات المتعدّدة في مجالات أخرى، كالأسرة و الثقافة و الفنون و العقائد . فقد حان الوقت لنرى السرّ في هذا التحوّل
طوال سيادة عصر الصناعة، كانت مصلحة الإقتصاد الصناعي، و حكوماته، أن يتحكّم في جماهير الشعب، و فرض الرؤية التي تعبّر عن مصالحه . و كما كان الإنتاج جماهيرياً و نمطيّاً، كان التعليم و الإعلام و الثقافة، و كلّ شيئ في الحياة . لقد نجح عصر الصناعة في إرغام البشر على الدخول في قالب واحد، يضع تصميمه و يعدّل في ذلك التصميم، "الأخّ الأكبر"، متمثّلاً في المصالح الإقتصاديّة للصفوة
نجح عصر الصناعة في قولبة الناس، رغم تناقض هذا مع الطبيعة البشريّة . إلى أن بدأ تدافع ثورة المعلومات، التي تغذّيها التكنولوجيات المعلوماتية المتطوّرة الجديدة
لقد أصبح بإمكان الإنسان أن يصل إلى المعلومات التي يريدها هو و ليس النظام، و من ثم يصل الى المعارف و الرؤى التي تعبّر عن خصوصيّته . و من هنا تعدّدت مشارب البشر و أمزجتهم، و أصبحوا قادرين على الخروج من القالب الذي صنعه لهم الأخ الأكبر
ما أن بدأ هذا التيّار، حتّى إنعكس على كل نشاط في حياة البشر . و تتالت الظواهر التي تحدّثنا عنها في مجالات الحياة اليومية من مأكل و مشرب و ملبس و إعلام و ثقافة . و بدأ النشاط الإقتصادي، المنزعج من هذه الهزّة، يعيد ترتيب أوضاعه بما يتيح للفرد تلبية إختياره الخاص . و لعل هذا ما دفع الإبتكارات الإنتاجية إلى أن تركّز على تحقيق هذا
و في هذا المجال يقول الكاتب المستفبلي الكبير آلفن توفلر أن هذا التحوّل يعتبر خيراً خالصاً للإنسان، فكلّما تأثّرنا برؤية نمطيّة واحدة للواقع، مفروضة علينا من أعلى، كلّما قلّت حاجتنا إلى التعرّف على بعضنا البعض، ورغبتنا في إكتشاف غيرنا..بإعتبارنا جميعاً نسخا متطابقة من أصل واحد. أو هذا ما كان يشعر به الناس بطريقة لاشعوريّة . لذلك فإن شرذمة التأثّر الجماهيري و تفتيته، و تعدّد الرؤى للواقع، ستقود الفرد إلى الشعور بالحاجة إلى التعرّف على الآخرين الذين يختلفون عنه، و إلى المزيد من الإهتمام و الإحتكاك، حتّى يتم التنبؤ بالسلوك الذي يمكن أن يبدونه

Thursday, June 3, 2010

رؤية يابانية

عالم اليوم ـ 1977 ـ راجي عنايت

.. مجتمع المعلومات

من التكنولوجيا، إلى السوق، إلى الإنسان

الكثير من الغموض و التخبّط الذي نلمسه في كتابات من يتصدّون للحديث عن المستقبل، و عن عصر المعلومات، يرجع إلى عدم وضوح طبيعة الذي يتحدّثون عنه . رغم حديثهم عن التغيير، و عن أثر ذلك التغيير على حياتنا، و عن ضرورة اللحاق بركب التطوّر، إلاّ أنهم ما أن ينتقلوا من التعميم إلى التخصيص، حتّي يقعوا في خظأ تصوّر أن مجتمع المعلومات هو مجرّد تحديث أو تطوير للمجتمع الصناعي الذي عرفوه . إلى هؤلاء أنقل المقارنة الشاملة التي أجراها المفكّر الياباني يونيجي ماسودا بين مجتمعي الصناعة و المعلومات

أولا : جوهر التكنولوجيا الإبتكارية

كانت الآلة البخارية، هي الإبتكار التكنولوجي الأساسي، و جوهر المجتمع الصناعي . و كانت وظيفتها أن تحلّ محل القوّة الجسدية للإنسان، و أن تضخّمها
و تكنولوجيا الكمبيوتر، هي التكنولوجيا الإبتكارية لمجتمع المعلومات، و جوهره . وظيفتها أن تحل محلّ العمل العقلي للإنسان، و تعمل على تضخيمه
و هذا يعني إنتقالنا من العمل الجسدي، إلى العمل العقلي

ثانيا : القوّة الإنتاجية المحرّكة

في المجتمع الصناعي، كانت ثورة القوة النابعة من الآلة البخارية، هي السبيل إلى التنمية السريعة لقوى الإنتاج المادي، و قد مكّنت الإنسان من إنتاج البضائع و الخدمات على نطاق واسع
أمّا في مجتمع المعلومات، فإن "الثورة المعلوماتية" التي نتجت عن تطوير الكمبيوتر، هي التي تقود إلى التعجيل بانتشار قوّة الإنتاج المعلوماتية، بحيث يمكن إنتاج المعلومات المعرفية المنظّمة و المعارف على أوسع نطاق
أي : الإنتقال في مركز الثقل من إنتاج البضائع، إلى إنتاج المعلومات

ثالثا : مركز الإنتاج

كان المصنع الحديث، بآلاته و تجهيزاته، هو الرمز الحقيقي لمجتمع الصناعة، و مركز إنتاج بضائعه . و في مجتمع المعلومات، تحل محل المصنع المرافق المعلوماتية(أي الينية التحتية المعتمدة على الكمبيوتر)، و التي تتضمّن شبكات المعلومات، و بنوك البيانات . و تصبح هذه المرافق المعلوماتية مركز الإنتاج و التوزيع للبضائع المعلوماتية
أي: الإنتقال من المصنع، إلى المرافق المعلوماتية

رابعا : السوق كبنية إجتماعية-إقتصادية

إتّسعت الأسواق في المجتمع الصناعي، نتيجة لإكتشاف قارات جديدة، و الإستيلاء على المستعمرات . و كانت زيادة القدرة الشرائية عند المستهلكين، هي العامل الرئيسي في توسّع السوق
أمّا في مجتمع المعلومات، فالجبهة المعرفية تصبح هي السوق المحتملة . و يكون العامل الأساسي وراء إتّساع سوق المعلومات، هو زيادة فرص حل المشاكل بالنسبة لمجتمع ينمو بشكل دائم و ديناميكي
أي : إنّنا ننتقل من سوق الإستهلاك، إلى سوق المعرفة

خامسا : الصناعات القائدة

الصناعات القائدة في التنمية الإقتصادية بالنسبة للمجتمع الصناعي، هي صناعات الآلات و المواد الكيماوية . و البناء الكلّي لهذه الصناعات، يتضمّن صناعات أولى و ثانية و ثالثة
و في مجتمع المعلومات، ستكون الصناعات القائدة هي الصناعات العقلية، و التي يكون جوهرها صناعات معرفية . و ستضاف الصناعات المتّصلة بالمعلومات، كعنصر جديد في البناء الكلّي للصناعات، بإعتبارها المجموعة الرابعة المضافة على صناعات عصر الصناعة . و بهذا يتضمّن البناء الصناعي، صناعات متّصلة بالمعلومات على المحور الرأسي، و صناعات متّصلة بالصحّة و الإسكان و ما أشبه على المحور الأفقي
أي : الإنتقال من الآلات و الكيماويّات، إلى المعلومات و المعرفة

سادسا : البنيـة الإقتصادية

يتميّز الهيكل الإقتصادي الصناعي بالتالي : (أ) إقتصاد السلع المعتمد على المبيعات، (ب) التخصّص في أقسام العمل لحساب الإنتاج، (ج) الإنفصال الكامل للإنتاج عن الإستهلاك، و للمؤسّسة عن البيت، بالإضافة إلى الإنقسامات الأخرى في مجال المال و العمل
أمّا في مجتمع المعلومات، فنجد التالي : (أ) المعلومات - التي هي محور التنمية الإجتماعية الإقتصادية- سيتم إنتاجها إعتمادا على المرافق المعلوماتية، (ب) تزايد الإنتاج الشخصي للمعلومات، كنتيجة لإستخدامها، ممّا يقود إلى تراكم المعلومات، (ج) سيشيع هذا التراكم المعلوماتي، من خلال الإنتاج التعاوني، و المشاركة في المرافق المعلوماتية، (د) سيتغيّر الإقتصاد - بنيويّاً - من إقتصاد تبادل أو مقايضة، إلى إقتصاد تعاوني
أي : الإنتقال من إقتصاد فصل الإنتاج عن الإستهلاك، إلى إقتصاد تعاوني

سابعا : المبدأ الإجتماعي - الإقتصادي

في المجتمع الصناعي، يكون قانون السعر، و هو المبدأ الإجتماعي الإقتصادي العام، اليد الخفيّة التي تحقّق التوازن بين العرض و الطلب . و يكون النموّ في الإقتصاد و في المجتمع ككلّ خاضعا لذلك النظام الإقتصادي
أمّا في مجتمع المعلومات، فيكون مبدأ الهدف ( و هو في حقيقته مبدأ الهدف و الوسيلة معاً)، هو المبدأ الرئيسي في المجتمع . و في هذا المجال تعمل التغذية الأمامية التعاونية، و التي تعيد توزيع الواجبات من أجل تحقيق الهدف العام، هي المسئولة عن توفير النظام في المجتمع
أي : الإنتقال من قانون السعر، إلى مبدأ التعاون

ثامنا : الأداة الإجتماعية - الاقتصادية

في المجتمع الصناعي، يعتبر المشروع الإقتصادي، أو المجموعة الإقتصادية، أكثر الأدوات أهمّية للنشاط الاجتماعي . و المشروع الإقتصادي يعمل في ثلاثة مجالات : المشروع الخاص، و المشروع العام، يالإضافة إلى المجال الثالث الذي يتضمّن ملكية الحكومة من خلال إدارة خاصّة
أمّا في مجتمع المعلومات، فيكون "المجتمع التطوّعي" أهمّ أدوات النشاط الإجتماعي . و تعبير "المجتمع التطوّعي"، يعني مجموعة إقتصادية، يمكن تقسيمها بشكل واسع إلى مجتمعات محلّية، و إلى مجتمعات معلوماتية
أي : الإنتقال من المؤسّسة الإقتصادية، إلى المجتمع التطوّعي

تاسعا : النظام الإجتماعي - الإقتصادي

النظام الإجتماعي الإقتصادي لمجتمع الصناعة، هو نظام المشروع الخاص، الذي يتميّز بالملكية الخاصّة لرأس المال، و التنافس الحرّ، و تعظيم الإرباح و السعي إلى أقصى ربح
أمّا في مجتمع المعلومات، فيقوم النظام الإجتماعي الإقتصادي على المجتمع المدني التطوّعي، الذي يتميّز بتفوّق بنيته التحتيّة، باعتبارها جامعة بين رأس المال العام، و رأس المال البشري ذي التوجّه المعرفي . و في إطار أساسي يجمع بين مبدأي التعاون، و المنفعة الإجتماعية
أي : الإنتقال من تعظيم الربح، إلى التعاون و المنفعة الإجتماعية

عاشرا : شــكل المجتمـع

المجتمع الصناعي، هو مجتمع السلطة المركزية، و تسلسل الطبقات
أمّا مجتمع المعلومات، فيكون مجتمع تعدّد المراكز و التكامل التطوّعي . و هو مجتمع يعمل أفقيـــاً، و ليس بشكل رأسي كما في حالة المجتمع المركزي . و هو يحقّق نظامه الإجتماعي، من خلال عمليات الإستقلال الذاتي و التكامل، ممّا يتميّز به المجتمع التطوّعي
أي : الإنتقال من المركزيّة، إلى المراكز المتعدّدة، و من الطبقات إلى التكامل التطوّعي

حادي عشر : الهـدف القومــي

هدف المجتمع الصناعي، هو إقامة مجتمع الرفاهية القومي، ساعيا إلى تحقيق المجتمع عالي الرفاهية، من المهد إلى اللحد
أمّا مجتمع المعلومات، فيستهدف تحقيق مبدأ "قيمة الزمن" لكل إنسان . و قيمة الزمن، تعني القيمة التي ترسم و تعمل على تحقيق الزمن المستقبلي أو الآتي . هدف مجتمع المعلومات، هو أن يستمتع الإنسان بحياة ذات قيمة، من خلال سعيه إلى إمكانات مستقبلية أعظم
أي : الإنتقال من الرفاهية، إلى قيمة الزمن

ثاني عشر : شـكل الحكـومة

النظام السياسي للمجتمع الصناعي، هو نظام التمثيل النيابي، و حكم الأغلبية
أمّا في مجتمع المعلومات، فيصبح النظام السياسي هو ديموقراطيّة المشاركة، أو السياسة القائمة على مشاركة الجماهير بنفسها . و سياسة الإدارة الذاتيّة للمواطنين، التي تقوم على الإتّفاق و المشاركة والتعاون. و هي سياسة تدخل في إعتبارها آراء الأقلّيات
أي : الإنتقال من التمثيل النيابي، إلى المشاركة

ثالث عشر : قـوّة التغيير الإجتماعي

تقوم إتّحادات و نقابات العمّال في المجتمع الصناعي، بإعتبارها قوّة التغيير الإجتماعي . و تكتسب الحركات النقابية المزيد من نفوذها، بالإعتماد على النزاعات بين العمّال و أصحاب العمل، كسلاح في يدها
أمّا في مجتمع المعلومات، فتكون حركات المواطنين هي أداة قوّة التغيير الإجتماعي، أسلحتها هي التقاضي أو الإلتجاء إلى القانون، و تنامي المشاركة
أي : الإنتقال من النقابة العمّالية، إلى قوّة حركة المواطنين

رابع عشر : المشـاكل الإجتماعية

في المجتمع الصناعي، توجد ثلاثة أنواع من المشاكل الإجتماعية، البطالة الناشئة عن الكساد، والحروب الناتجة عن الصراع الدولي و عن الأطماع التوسّعية من أجل دعم الموقف التنافسي الإقتصادي، ثم دكتاتورية النظم الفاشية
أمّا مشاكل مجتمع المعلومات، فستكون صدمات المستقبل، و عدم قدرة الأفراد على مواكبة التحوّلات الإجتماعية السريعة، و أعمال الإرهاب الفردية و الجماعية، و أزمات سيطرة قلّة على المعلومات
أي : الإنتقال من اليطالة و الحرب و الدكتاتورية، إلى صدمات المستقبل والإرهاب والمجتمع المحكوم

خامس عشر : أعلى تطوّر للبنية الإجتماعية الإقتصادية

أعلى مراحل تطوّر المجتمع الصناعي، هي مرحلة الإستهلاك الجماهيري المرتفع على أوسع نطاق، والتي تنصبّ على السلع المعمّرة، كالسيارات
أمّا أعلى مراحل المجتمع المعلوماتي تطوّراً، فهو تأسيس مجتمع خلق المعرفة الجماهيرية، إعتمادا على الإستخدام المتنوّع للكمبيوتر، من أجل إشباع الذات
أي : الإنتقال من مجتمع الإستهلاك، إلى مجتمع خلق المعارف و إشباع الذات

سادس عشر : المعايير القيمية

القيم الماديّة لإشباع الحاجات البدنية و النفسية، هي المعايير العامّة في المجتمع الصناعي
و في مجتمع المعلومات، تنبع المعايير العامة للقيم الإجتماعية من السعي إلى الإشباع، الناتج عن تحقيق الأهداف
أي : الإنتقال من إشباع الحاجات المادّية، إلى تحقيق الأهداف