عالم اليوم ـ مايو 1977 ـ راجي عنايت
عصر الإختيارات الواســعة
.. من سباتس، و التليفون الأسود
إلى السوبر ماركت
من بين التحوّلات الكبرى المتنامية التي نمر بها، و نحن ننتقل من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات، التحوّل من الإختيارات المعدومة أو المحدودة إلى الإختيارات الواسعة المتنوّعة . و قبل أن نتكلّم عن السرّ في هذا التحول، و عن الأسباب التي دفعت إليه، دعونا نستعرض مظاهر هذا التحوّل في حياتنا، على إمتداد العقود الماضية
و لنبدأ بالأشياء الصغيرة، التي نحتكّ بها يوميّاً . زجاجة المياه الغازيّة .. لم نكن نعرف سوى صنف أو صنفان منها، و لكن على مدي العقود الأخيرة أصبحنا نرى عشرات الأصناف و الأشكال و الألوان والأحجام، و أصبح كلّ واحد يختار من ذلك التنوّع ما يرتاح إليه، و يوافق مزاجه ثم التليفون .. هل تذكرون التليفون الأسود الشهير، الذي لم يكن يوجد غيره في العمل أو البيت ؟، الآن أصبحنا نشاهد عشرات، و ربّما مئات، الطرز و الأشكال و الأحجام و الألوان . و نفس الشيئ ينسحب على الملابس و أثاث البيوت و الأدوات التي نستخدمها
رفوف اللبن المحيّرة
ذلك بعض ما يجري لدينا في مجال التنوّع و التباين، فإذا إنتقلنا إلى الدول الكبرى الأكثر منّا تطوّرا، وبخاصة الأكثر منّا اخذاً بمقتضيات عصر المعلومات، لعرفنا أن ما يحدث هناك أضعاف أضعاف ما يجري عندنا . في إحدى زياراتي لأمريكا، دخلت إلى أحد محال السوبر ماركت لأشتري لبناً . و عندما وصلت إلى رفوف اللبن، وقفت حائرا. فعلى إمتداد عدّة رفوف طويلة، وجدت أنواعاً و أشكالاً من اللبن . أخذت أقرأ ما هو مكتوب على العبوات، لبن كامل الدسم، و نصف دسم، و منزوع الدسم .. لبن بالفواكه، و لبن بالفيتامينات، إلى آخر ذلك
و في المؤتمر الذي كنت قد سافرت لأحضره، تكلّم المحاضر عن التنوّع في الحياة و العمل و الإعلام والفنون و العقائد
العمل في عصر المعلومات
قال أنّه منذ خمسين سنة مثلاً، كان نظام العمل اليومي في المصانع و المكاتب موحّداً . بداية يوم العمل، و عدد ساعاته و مكانه . يدخل العمّال و الموظّفين إلى عملهم في المصانع أو المكاتب في ساعة معيّنة، و يخرجون منه في توقيت محدّد
لكن الوضع قد أخذ في التغيّر مع بدايات دخول الدول المتطوّرة إلى عصر المعلومات . فقد أصبحنا أمام تنوع كبير في أشكال و أماكن و أوقات العمل . البعض يعمل لبعض الوقت فقط، متفرغا لنشاطات أخري. و البعض الآخر يختار ساعات العمل صباحاً أو مساء وفقاً لظروفه . العمل الواحد يقوم به فرد واحد، أو يتقاسمه مع الآخرين . البعض يعمل في المكتب أو في المصنع أو المعمل، و البعض الآخر يعمل من بيته، ولا يضطّر إلى الخروج منه، إلاّ إذا رغب في الترويح عن نفسه
و عن هذه النقطة الأخيرة، قال مفسّراً أنه قد ثبت من الدراسات أنه من الممكن أن يعمل 30% من العاملين في بيوتهم . بالطبع هذا ينسحب على أنواع معيّنة من العمل ، و خاصّة الأعمال التي تعتمد على الإبتكار، كالتصميم الفنّي و الهندسي، و إعداد الدراسات و التقارير . و قال أن الذي يسهّل هذا، وجود الكمبيوتر المنزلي، المتصل بجهات العمل و مخازن البيانات و المعلومات، من خلال الكابل . كما يساعد على هذا، إمكان عقد المؤتمرات من خلال الأجهزة الإلكترونية، بالنسبة لأفراد في أماكن أو دول أو قارات مختلفة. و لنا أن نتصوًر ما يوفًره هذا من وقت و جهد و طاقة
من المحل الكبير، إلى الدكاكين
يمكن لنا أن نرى مثالاً واضحا لهذا التحوّل من الخيار الواحد أو الخيارات المحدودة، إلى الخيارات الواسعة المتنوّعة، في مجال وسائل الإعلام
لقد أحدث زحف ثورة المعلومات إنقلاباً في طبيعة و أسس المجال الإعلامي، و سارت به في إتّجاه معاكس لإتجاهه السابق . ففي مكان تعميق التأثير الإعلامي على الجماهير، و توسيع القاعدة التي تتأثّر كلّها بنفس الرؤية النمطيّة، عمدت ثورة المعلومات إلى تفتيت هذه الجماهير و شرذمتها، متيحة بذلك الفرصة لتعدّد الرؤى و وتنويعها . و قد إنعكس هذا، بصورة واضحة متكرّرة، على الصحف و المجلاّت الكبري، و على محطّات الإذاعة و قنوات التلفزيون الكبرى
المجلاّت و الصحف الكبرى، ذات الأغراض العامة، التي تحاول أن تتضمّن كلّ ما يهم القارئ، مثل مجلّة (لايف) و (لوك)، ذات التوزيع الذي بلغ عشرة ملايين نسخة، لاحظت منذ حوالي عشرين سنة أن أرقام التوزيع بدأت تهبط بشكل مؤثّر، مع أن الخدمة التي تقدّمها لم تكن أقلّ من السابق، بل ربّما كانت أفضل . و في نفس الوقت، لاحظت تصاعد عدد المقبلين على المجلاّت المتخصّصة، المتوجّهة إلى جماهير محدّدة بعينها . مع بداية هبوط توزيع المجلاّت الكبرى، ظهرت 300 مجلةّ متخصّصة جديدة ، ثم تضاعف عددها سنة بعد أخرى . هذا النوع من المجلاّت المتوجّه إلى جماهير خاصّة، ذات إهتمام معين، بلغ عدده في الولايات المتّحدة مايزيد عن 20 ألف مجلّة، أمّا المجلاّت الكبرى فقد إحتجب معظمها
التنوّع في الإذاعة و التلفزيون
نفس الشيئ، حدث في مجال المحطّات الإذاعية و القنوات التلفزيونية . منذ إندفاع ثورة المعلومات، بدأت المحطّات الإذاعية الرئيسيّة تفقد جمهورها، لتستولي عليه الإذاعات المتخصّصة و الفئويّة، مثل إذاعة تعليم الحرفيّين، أو إذاعة الموسيقى الريفيّة، أو إذاعة هواة السفر و الرحلات، و غير ذلك من الإذاعات الصغيرة العديدة، التي تخاطب كلّ منها قطاعا محدّداً
و عن التلفزيون، يقول آلفين توفلر الكاتب المستقبلي : ظلّ التلفزيون، أكثر وسائل الإعلام تأثيراً على الجماهير، فارضاً رؤيته الخاصّة المحدّدة، التي سبق رسمها لتتفق مع مصالح المجتمع الصناعي . لكن ما أن حلّ عام 1977، حتّى بدأ ظهور معالم الأزمة التلفزيونيّة . فكتبت مجلّة تايم تقول : إنكبّ جميع العاملين و المذيعين و المديرين، يتطلّعون بعصبيّة إلى الأرقام .. إنّهم لا يصدّقون ما يرونه أمامهم .. فلأوّل مرّة في التاريخ، تنخفض مشاهدة التلفزيون بدلاً من أن تزيد
و هذا يعني أن الإرسال التلفزيوني، كوسيلة في يد الصفوة العليا لفرض رؤيتها الوحيدة على الجمهور، قد بدأ يفقد صلاحيّته القديمة . ساعد على هذا الإنتشار السريع لتلفزيون الكابل في المناطق التي بدأ تنفيذه فيها . ذلك النظام الذي يتيح للفرد أن يختار نوعية القنوات التي يحبّ أن يشاهدها، و التي تنسجم مادتها مع إهتماماته . و في هذا يقول توفلر: و هكذا يتحوّل الجمهور القديم الموحّد المتأثّر برؤية وحيدة مفروضة، إلى جماهير صغيرة متعدّدة، نشيطة إيجابيّة، تتبنّى العديد من الرؤى
الخروج من قبضة الأخّ الأكبر
لا أريد أن أسترسل في سرد أمثلة التحول إلى الخيارات المتعدّدة في مجالات أخرى، كالأسرة و الثقافة و الفنون و العقائد . فقد حان الوقت لنرى السرّ في هذا التحوّل
طوال سيادة عصر الصناعة، كانت مصلحة الإقتصاد الصناعي، و حكوماته، أن يتحكّم في جماهير الشعب، و فرض الرؤية التي تعبّر عن مصالحه . و كما كان الإنتاج جماهيرياً و نمطيّاً، كان التعليم و الإعلام و الثقافة، و كلّ شيئ في الحياة . لقد نجح عصر الصناعة في إرغام البشر على الدخول في قالب واحد، يضع تصميمه و يعدّل في ذلك التصميم، "الأخّ الأكبر"، متمثّلاً في المصالح الإقتصاديّة للصفوة
نجح عصر الصناعة في قولبة الناس، رغم تناقض هذا مع الطبيعة البشريّة . إلى أن بدأ تدافع ثورة المعلومات، التي تغذّيها التكنولوجيات المعلوماتية المتطوّرة الجديدة
لقد أصبح بإمكان الإنسان أن يصل إلى المعلومات التي يريدها هو و ليس النظام، و من ثم يصل الى المعارف و الرؤى التي تعبّر عن خصوصيّته . و من هنا تعدّدت مشارب البشر و أمزجتهم، و أصبحوا قادرين على الخروج من القالب الذي صنعه لهم الأخ الأكبر
ما أن بدأ هذا التيّار، حتّى إنعكس على كل نشاط في حياة البشر . و تتالت الظواهر التي تحدّثنا عنها في مجالات الحياة اليومية من مأكل و مشرب و ملبس و إعلام و ثقافة . و بدأ النشاط الإقتصادي، المنزعج من هذه الهزّة، يعيد ترتيب أوضاعه بما يتيح للفرد تلبية إختياره الخاص . و لعل هذا ما دفع الإبتكارات الإنتاجية إلى أن تركّز على تحقيق هذا
و في هذا المجال يقول الكاتب المستفبلي الكبير آلفن توفلر أن هذا التحوّل يعتبر خيراً خالصاً للإنسان، فكلّما تأثّرنا برؤية نمطيّة واحدة للواقع، مفروضة علينا من أعلى، كلّما قلّت حاجتنا إلى التعرّف على بعضنا البعض، ورغبتنا في إكتشاف غيرنا..بإعتبارنا جميعاً نسخا متطابقة من أصل واحد. أو هذا ما كان يشعر به الناس بطريقة لاشعوريّة . لذلك فإن شرذمة التأثّر الجماهيري و تفتيته، و تعدّد الرؤى للواقع، ستقود الفرد إلى الشعور بالحاجة إلى التعرّف على الآخرين الذين يختلفون عنه، و إلى المزيد من الإهتمام و الإحتكاك، حتّى يتم التنبؤ بالسلوك الذي يمكن أن يبدونه
No comments:
Post a Comment