Saturday, June 26, 2010

في مجتمع المعلومات

عالم اليوم ـ يوليو 1997ـ راجي عنايت


تعدّدية عصر المعلومات
تختلف عن تعدّدية عصر الصناعة

في نفس الوقت الذي حقّق فيه اتّجاه " سيادة " الحكومة انتصاره العظيم، بزغـت عدّة مراكز قوّة جديدة، من بينها المؤسّسة الاقتصادية الحديثة .. هذا هو ما يقوله بيتر دراكر، في كتابة " حقائق جديدة "، خلال حديثه عن التعددية الجديدة التي تصاحب قيام مجتمع المعلومات
و كان من أمثلة هذه المؤسّسات الاقتصادية الحديثة، السكك الحديدية الضخمة في الولايات المتّحدة، و ما كان يعرف باسم البنك العالمي في ألمانيا . لقد كانت مشروعات العمل الاقتصادي موجودة، بشكل أو بآخر، على مدى العديد من القرون . و مع ذلك، فإن المؤسسات الاقتصادية الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، كانت مختلفة عن أي شيء آخر، و أكثر ضخامة
و نظرا لأن أول مركز قوّة جديد، كان مؤسسة النشاط الاقتصادي، يفسر السرّ في أننا ما زلنا نسمع تعبير إدارة المشروع الاقتصادي، عندما يذكر أحد ما كلمة إدارة . و هو أيضا يكشف السبب في أننا أمضينا ما يصل إلى مائة سنة، نركّز في مناقشاتنا على العلاقة بين المؤسسة الاقتصادية و الحكومة، و بين المؤسسة الاقتصادية و العمالة، و بين المؤسسة الاقتصادية و المجتمع . و هو يفسّر لماذا نتكلّم أساسا عن : المسئولية الاجتماعية للمؤسسة الاقتصادية ، بدلا من الكلام عن المسئوليات الاجتماعية للمنظّمات الحديثة

الخدمة المدنية الحديثة

و ثاني المؤسسـات التعـددية الجديدة، ظهرت بعد مؤسسـة النشاط الاقتصادي بسنوات قليلة، و كانت " الخدمة المدنية الحديثة "، و التي بدأت في النمو ـ تأثيرا و حجما ـ ما بين عامي 1875 و 1880
و منذ بداية ظهور الخدمات المدنية الحديثة، تكاثرت المؤسسات التعددية، واحدة بعد الأخرى، و أصبحت أكثر نموا من حيث الوظيفة، و الحجم، و البروز، و النفوذ : اتحادات العمال، المدارس، الجامعات ( مع نمو شديد القوّة بعد الحرب العالمية الثانية )، نظام الرعاية الصحية بأكمله، و الآليات الضخمة لدولة الرفاهية، و كذلك القطاع الثالث، و المؤسسات التي لا تستهدف الربح، و غير هذا كثير
و التعددية ليست شيئا جديدا، فمعظم المجتمعات على مدى التاريخ كانت تعددية . لكن، هناك فارقا حيويا بين التعددية الأولى و تعددية اليوم . التعددية القديمة كانت تقوم على : القــوّة ، بينما تقوم التعددية الجديدة على : الوظـيفة
منظمات التعددية الجديدة في المجتمع، لا تهتم بالحكم أو بالحكومة . و على عكس مؤسسات التعددية القديمة لا تصنع " كلاّ "، إنّها هي عبارة عن " عضو " من أعضاء المجتمع . و على هذا الأساس يكون إنتاجها بأكمله خارجها . " إنتاج " النشاط الاقتصادي مستهلك يشعر بالرضا . و " إنتاج " المستشفى هو مريض أنهى علاجه . و " إنتاج " المدرسة هو تلميذ يضع في عمله خلاصة ما درسه بعد عشر سنوات . في داخل هذه المؤسسات لا توجد سوى التكاليف
سمات التعددية الجديدة
و بشكل ما تعتبر التعددية الجديدة أكثر مرونة، و أقلّ قابلية للانقسام، من سابقتها . فالمؤسسات الجديدة لا تستند إلى القوّة، كما كانت تفعل المؤسسات التعددية القديمة، سواء كانت كنيسة العصور الوسطى، أم بارونات الإقطاع . و المؤسسات التعددية الجديدة، بعكس القديمة، لا تشترك مع بعضها في نفس الاهتمام، أو ترى العالم بنفس الرؤية . فكل واحدة من هذه المؤسسات الجديدة يكون لها هدفها الخاص الذي يدور نشاطها حوله، و الذي يعتبر القيمة الكبرى بالنسبة لها، و الشيء الوحيد الذي يهمّها . لهذا، نشأت الحاجة إلى تحقيق الاتّصال بين هذه المؤسسات الجديدة
فكل مؤسسة جديدة، تتكلّم لغتها الخاصّة، و لها معارفها الخاصّة، و لها سلّمها الوظيفي الخاص، و قبل هذا و ذلك، لها قيمها الخاصة . و لا تنظر أي من هذه المؤسسات إلى نفسها باعتبارها مسئولة عن مجتمعها ككلّ . فهذا مسئولية آخرين . و هنا يتساءل بيتر دراكر : و لكن، مسئولية من ؟

وضع الفرد في ظل المؤسسات الجديدة

و من المستجدات أيضا، وضع الفرد
في القرن التاسع عشر، كان هناك نموذجان متنافسان للمجتمع . أحدهما يتطلّع إلى مجتمع يتكوّن من صغار المستقلين : الفلاح بقطعة أرضه الصغيرة و بغله، و صاحب الدكان الصغير، و الحرفي . على أن يكونوا جميعا متساوين، لا يمارس أحد منهم سلطة على الآخر . لن يحظى أي منهم بالقوّة أو الثروة، و لكن لا يعاني أي منهم من فقر مدقع أو يكون عالة على أحد آخر
و لقد صاغ توماس جفرسون، في الولايات المتحدة، هذه الفكرة بشكل واضح . و عندما وافته المنية في عام 1826، كان قد بدا واضحا أن المجتمع لن يمضي في السبيل الذي أشار إليه . و يواصل بيتر دراكر طرحه للتحوّل التالي قائلا : و مناقضا لهذه الرؤية خرجت المدينة الفاضلة المضادة، التي وجدت تعبيرها النهائي و الأفضل في التنبؤات الماركسية، حول مجتمع يتكوّن من أفراد متساوين في فقرهم، و في خضوعهم للاستغلال .. البلوتريات المتساوية في اعتمادها على الغير، التي يسيطر عليها تماما مجموعة صغيرة من المستغلين الرأسماليين
على أي حال، لم تتحقّق أي من الرؤيتين في الواقع . لقد جاء الواقع الجديد بشيء لم يخطر على بال جفرسون أو ماركس ـ و لا بال أحد قبل خمسينيات و ستينيات القرن الماضي ـ و لا دخل في تصوراتهما أو ضمن تخيلاتهما : مجتمع " الموظفين المعرفيين "، الذين هم ليسوا مستغلين لغيرهم، و لا هم خاضعين لاستغلال أحد آخر
هذه العمالة المعرفية، يقول دراكر، التي لا يكون أفرادها من أصحاب رؤوس الأموال، و لكنّهم " معا " يملكون وسائل الإنتاج، من خلال ميزانيات معاشهم، و ميزانياتهم المتبادلة، و مدخراتهم الشخصية، و الذين يدخلون في تنظيمات، و لكنّهم يكونون في الغالب رؤساء أنفسهم أيضا . هؤلاء البشر يكونون في نفس الوقت معتمدون على الآخرين و معتمدين على أنفسهم . لديهم هامش حركة واسع، لكنهم يحتاجون إلى الانتساب إلى مؤسسة ـ كمستشارين إن لم يكن كموظفين ـ حتى يكون لهم تأثير على ما حولهم

خارج الحدود الجغرافية

التعددية الجديدة، غالبا ما تتعدّى الحدود الجغرافية التقليدية .
كان نشاط الأعمال ( البزنيس ) أوّل من دخل نطاق التنظيمات التعددية الجديدة، لذلك فقد أصبح ضمن المؤسسات متعددة الجنسيات في وقت مبكّر، ما بين 1960 و 1970 . و لكن سرعان ما لحقت مؤسسات أخرى بالركب الجديد، من بين ذلك شركات المحاسبة، و الشركات القانونية، و الشركات الاستشارية .. حتّى الجامعات قد أصبحت الآن متعددة الجنسيات
و هذا الواقع الجديد، يتناقض مع النظريات السياسية التي ما زالت تسيطر على تفكيرنا، و على نوعية تعليمنا، و على ممارساتنا القانونية
و هناك خمسة مجالات تتحدّانا فيها التعددية الجديدة حاليا
أولا :المسئولية الاجتماعية للمؤسسات التعددية
ثانيا : و مسئوليتها في مجتمعها
ثالثا : و مسئولياتها السياسية
ربعا : ما يتّصل بحقوق الفرد و مسئولياته
خامسا : دور و وظيفة الحكومة في مجتمع التعددية

و هذا هو ما سنعرض له فيما يلي من حديث

No comments:

Post a Comment