Thursday, December 31, 2009

مستقبل مصر

مقال لم ينشر سابق لفضيحة تعديل الدستور


دستور بلا مستقبل !.. هل هذا ممكن ؟
..دعـوة إلى التوقـّف عن العبـث بالدســتور
و ترك أمره إلى جمعية عمومية من الشعب المصري


الدستور .. بين التراضي و الأمل


هل يمكن أن يتّفق الجميع : مفكّرون، و جامعيون، و رجال سياسة، و إعلاميون..قضاة و خبراء قانون دستوري .. رئاسة، ومجلس شعب و شوري، و حكومة، و حزب وطني، و أيضا أمانة سياسات .. أن يتّفق هؤلاء جميعا على إمكان التفكير في تعديل الدستور، وفقا للمصالح القريبة، في غياب أدنى فكرة عن مستقبل البشر فوق أرض مصر، على مدى 25سنة على الأقل ؟! .. و دون أن نحاول التعرّف على طبيعة النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية لمجتمع المعلومات التي يتصاعد تطبيقها، و التي سيتعامل معها الدستور، و يرسم حياة الشعب المصري من خلالها ؟
لقد كنّا نعترض على مجرّد التفكير في استراتيجية أو خطّة ما، لا تستند إلى رؤية مستقبلية لمصر، تدخل في اعتبارها التحولات التي تطرأ على حياة البشر، مع زحف مجتمع المعلومات، و أثر ذلك على الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية في مصر .. فما بالكم بالدستور الذي يفترض فيه أن يحكم مختلف الخطط و الاستراتيجيات ؟

مرجعيات فقدت صلاحيتها

المشكلة الحقيقية التي تواجهنا في كل ما نفكّر فيه ـ و إعادة صياغة الدستور من بين ذلك ـ هي أنّه حتّى عندما نحاول أن نتناسى المصالح الضيّقة لكل منّا، يكون اعتمادنا على مرجعيات تاريخية فقدت صلاحية التعامل مع الواقع الحالي ..كما أن النقيصة الكبرى في حياتنا، و التي تعوق قدرتنا على إرساء أسس رؤية مستقبلية لمصر، هي غياب منهج التفكير العلمي المعاصر .. المنهج العلمي، الذي يحل إشكالية تضارب الأحلام و الأماني مع الواقع . و الذي يساعدنا على التوصّل إلى رؤية مستقبلية طموحة، و واقعية في نفس الوقت .. و أدوات هذا التفكير العلمي المعاصرة، مثل التفكير الناقد، و التفكير الابتكاري


نحو دستور .. له مستقبل

الدستور، يجب أن يلبّي مطلبين : التراضي و الأمل
أولا : التراضي = قبول من جانب الأغلبية، و ضمان دعمها لتطبيقه ◄ و الوصول إليه يكون بالممارسة الديموقراطية الأمينة، و تعميم الجدل البنّاء = مما يعني الاستفادة من تجارب الماضي و الحاضر
ثانيا : الأمل = الطموح، و الحلم بمستقبل أفضل◄ و الوصول إليه يكون عن طريق رؤية مستقبلية شاملة لمصر = مما يعني رصد وفهم مرحلة التحولات الحالية المتلاحقة، و إدراك العلاقات المتبادلة بين هذه التحوّلات، للتعرّف على القوانين التي تحكم انتقالنا من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات . على أمل الاسـتفادة من اندفاع تيار التطور البشري الذي يعمّ العالم

السؤال الذي يطرح نفسه هنا

هل هذا ممكن ؟.. هل نستطيع في مصر أن نلتزم بهذه الجدية عند التفكير في الدستور الذي نطمح إليه، في الفترة المحدودة، و الظروف الخاصّة، التي فرضها النظام الحاكم ؟
الإجابة الأكيدة هي : لا .. لا يمكن
و الحل ؟ :هو الإجماع على ترك الدستور الحالي على حاله، بعيدا عن عبث النظام الحاكم و رجاله و لجانه .. و تأجيل عملية تعديل الدستور برمّتها .. فما يضير أن نتحمّل سنوات معدودة ما فرض علينا للعديد من العقود ؟
على أن نبدأ من الآن، في سنوات التحمّل هذه، جهدا جادا لتكوين كيان جديد ـ بعيدا عن الأحزاب الحالية فاقدة المرجعية ـ أشبه بجمعية عمومية للشعب المصري، تفكّر في دستور مصري جديد يحقق ما أشرنا إليه من : التراضي و الأمل

راجي عنايـت





Friday, December 25, 2009

و الله أعلم ..

عالم اليوم – يناير2005 ـ راجي عنايت


من 2004 إلى 2009
! يا قلبي لا تحزن

هذا المقال نشر في نهاية عام 2004
استعراضا لحصاده، و استشرافا لعام 2005
! و ما أشبه الليلة بالبارحة


ما هو الحصاد الحقيقي لعام 2004 ؟ .. رغم أن تعبير " حصاد " قد يرفضه البعض، نتيجة لما يوحي به من إيجابية ما تحقّق في 2004، فأنا أقبـله، و أقبل ما فيه من إيحاء، فالذي حـدث في عام 2004 ـ بكل ما تضمّنه من حروب و خراب و دسائس و فواجع ـ يعتبر من الأمور الإيجابية، لأنّه يضعنا وجها لوجه مع حقيقة أوضاعنا، و أوضاع العالم من حولنا .. و المواجهة الصادقة ـ بكل آلامها ـ هي الخطوة الأولى نحو إعادة التفكير، و تصحيح المسارات
سأحاول فيما يلي تطبيق ذلك على الأوضاع العالمية، و العربية، و المصرية


في الأوضاع العالمية


أولا : انكشاف الأهداف الأمريكية
من أهم الإنجازات، انكشاف الأهداف الحقيقية للإدارة الأمريكية، أمام الشعب الأمريكي و باقي شعوب العالم، و عدم اقتصار ذلك على النخبة من المفكّرين . و يرجع الفضل في ذلك إلى كتيبة الرجعيين الجدد، بأغلبيتها اليهودية، و بتبعيتها ـ أو عبوديتها ـ لرؤوس أموال السلاح و البترول و المقاولات في الولايات المتحدة . لقد ساعدت منشورات ما يطلق عليه المحافظين الجدد، أو رابطة المسيحية الصهيونية، في كشف سوء نيّة الإدارة الأمريكية بالنسبة لشعوب العالم جميعا، بما في ذلك أصدقاء و حلفاء أمريكا
ثانيا : الإحساس المرضي بالقوّة
الإحساس المرضي بالقوّة، الذي يعكسه موقف جورج بوش، و محاولة تهميش الأمم المتحدة، ساعد على تكافل العديد من الدول دفاعا عنها، و ألحاق الهزائم المتعددة بخطط بوش تجاهها . كما قاد انفراد الولايات المتحدة بقرارات الحرب و العدوان إلى تدعيم العلاقات الأوربية من ناحية، و خلق محاولات جديدة لدعم العلاقات في جبهة الصين ـ روسيا
ثالثا : بلير و التبعية الكلبية
خيبة الأمل المتكررة، التي لاحقت توني بلير، نتيجة لتبعيته الكلبية لبوش، أقنعت بريطانيا و باقي حلفاء الولايات المتحدة ـ كأسبانيا ـ بخطورة التحالف مع الإدارة الأمريكية التي بدت فاقدة لصوابها، و التضحية بالمكاسب المتوقّعة من ذلك التحالف، إبراء للذمّة و هربا من الانجراف إلى دوامة الفشل الأمريكي، التي تجلّت بشائرها
رابعا : إنحسار نفوذ جبهة الرجعية الجديدة
لقد بدأ انحسار تكتّل جبهة الرجعية الجديدة، نتيجة لإحساس الحكّام الحقيقيين للولايات المتحدة، من كبار صناع السلاح، و تجار النفط، و أباطرة المقاولات، بضروب الفشل المتكررة التي نتجت عن السير خلف استراتيجياتها، و باحتمال انهيار النظام " البلوتوقرطي " الذي يتحكّمون بفضله في مقدّرات الشعب الأمريكي

خامسا : تناحر القيادات الفكرية للمحافظين الجدد
كما بدأ انسحاب عناصر الفكر من جبهة المحافظين الجدد، و كان أوّل المنسحبين هو واحد من أشهر منظّريها، هو فرانسيس فوكوياما صاحب الكتاب الشهير " نهاية التاريخ " . ظهر هذا من المعركة المحتدمة الدائرة بينه و بين قطب كبير من المحافظين الجدد هو تشارلز كراوتهامر، و التي ثارت بعد إعلان فوكوياما معارضته لحرب العراق، و عزمه على عدم انتخاب بوش للرئاسة الثانية
سادسا : صحوة الإنترنيت
رغم الكوردون المحكم الذي نصبه الحكّام الحقيقيين لأمريكا ( كبار الأثرياء ) لعقول أبناء الشعب الأمريكي، متمثلا في فوكس بكل نشاطاتها الإعلامية، و محطة ( سي إن إن ) الشهيرة بمغالطاتها، و آلاف البرامج التلفزيونية و الأفلام و المسرحيات و الكتب التي يمتلكها هؤلاء الحكّام، و التي تستهدف بكلّ قوّتها غسل مخ الشعب الأمريكي .. رغم كل ذلك، فقد بدأت صحوة حقيقية في الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق الإنترنيت . و رغم حرص الإدارة الأمريكية على الإقلال من تأثير هذا القادم الجديد، و زعم ضعف تأثيره، فقد كشفت قياسات الرأي العام في أمريكا، أن قدرة الإنترنيت، قد تجاوزت قدرة الجبهة الرجعية، من ناحية كسب الجمهور الأمريكي في كثير من الشئون
سابعا : انقلاب بوش على نفسه
رغم ما يبديه بوش من المزيد من عناد التيوس، سواء في محاولاته لتغيير طاقم الولاية الثانية، أو في تمسّكه غير المبرر برامسفيلد رغم سقطاته المتكررة، و إصراره على أكاذيبه بخصوص الأوضاع العراقية، و بن لادن و الزرقاوي و باقي المخترعات الاستخبارية الأمريكية .. رغم ذلك كلّه فالأغلب أن يضطر بوش ـ فيما بقي من ولايته الثانية ـ إلى القيام بانقلاب على نفسه و سياسته و معاونيه، نتيجة لتدهور الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية في الولايات المتحدة، ذلك التدهور الذي نتج عن سحب تمويل التعليم و الخدمة الصحية و الاجتماعية لحساب ميزانيات السلاح و مغامرات تجار البترول، و نتيجة للعجز غير المسبوق في الميزانية الأمريكية


في الأوضاع العربية


أولا : سقوط أوراق توت الأنظمة العربية
الأحداث العالمية لعام 2004، أسقطت أوراق التوت عن عورات جميع الأنظمة العربية، بلا اسـتثناء . لقد تجلّت سوءات هذه الأنظمة ـ بشكل غير مسبوق ـ لمن بقي في غفلته من أبناء الشعب العربي . انكشفت الأكاذيب التاريخية التي يستتر بها الرؤساء و الملوك و الأمراء .. و المضحك المبكي في هذا الأمر، أن الذي قام بهذا الكشف لم يكن الشعب العربي و لا النخبة العربية و أهل الفكر من العرب، و لكنه كان الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت ـ و ما تزال ـ الحامية و الراعية لمعظم هذه الأنظمة العربية، و الواقفة معها في وجه شعوبها
ثانيا : الديموقراطية أولوية أمريكية متأخّرة
رغم ترديد أمريكا لمطلب الديموقراطية، فالأوراق الرسمية لاستراتيجية الولايات المتحدة تفيد أنّها تترك هذا لقادة الدول العربية، يقومون به بما لا يهدد وجودهم الضروري لأمريكا . كما أن موضوع الديموقراطية جاء في الأهمية السادسة بعد المطامع الأمريكية الحقيقية
ثالثا : مهزلة منتدى الشرق الأوسط
و كانت مهزلة " منتدى مستقبل الشرق الأوسط الكبير " خير دليل على أكاذيب و ادعاءات الولايات المتحدة، و التي يعشقها الحكّام العرب . من واقع دراسات البنتاجون، تنحصر المصالح الأمريكية في محاربة الإرهاب الذي تصدّره الدول العربية و الإسلامية، ثم مواجهة أسلحة الدمار الشامل التي يمكن أن يستخدمها، و يحرم إسرائيل من الانفراد بها، ثم ضمان إمدادات البترول مع استقرار أسعاره مع التأكيد على المستقبل الباهر للبترول العراقي لو أدارته الاستثمارات الأمريكية، ثم ضمان استقرار الأنظمة الصديقة، و المعتدلة المستعدة للدخول في الأجندة الأمريكية ( ومصر منها)، ثم تأكيد أمن إسرائيل.. و أخيرا، و في نهاية القائمة تأتي مسألة الديموقراطية و حقوق الإنسان بشكل متواضع، فتقول الدراسة أن المسئولين الأمريكيين قد مالوا إلى الموافقة على مطالب المسئولين في النظم العربية، بأن تقلّل أمريكا من دعوتها للديموقراطية، و تحد من اتصالاتها بأولئك الذين يعملون ضد تلك الأنظمة
رابعا : التنافس بين الحكّام العرب على الحظوة الأمريكية
كان من الطبيعي أن تكون النتيجة المباشرة لهذه الخطوة هي الخلافات التي بدأت تحتدم بين الحكّام العرب، و الاتهامات النائمة التي أفاقت من رقادها، و التنافس الشرعي على نول الحظوة عند سيد العالم ( و في هذا فليتنافس المتنافسون ! ) . المطمئن في الموضوع، أن هذه المشاحنات لن تقود إلى اشتباك عسكري أو حرب لسبب أساسي، لأنّه ليس في مصلحة أمريكا


في أوضاع مصر المحروسة


أولا : الإصبع الأمريكي، و الخطوط الحمراء
هذا الفوران الذي أحدثه الإصبع الأمريكي في عمق المنطقة العربية، انعكس ـ من ناحية ـ على شكل خطوات شجاعة من جانب النظام الحاكم المصري في سبيل التطبيع مع إسرائيل، و لإظهار العواطف الإيجابية نحوها ( على طريقة : أحبّك و أحبّ اللي يحبّك ! ) . و انعكس من ناحية أخرى على شكل انهيار في الخطوط الحمراء التي حرص النظام دائما على التمسّك بها، فبدأ الشعب يرفع صوته في أمور كتعديل الدستور، و رفض ولاية جديدة للرئيس، و موضوع توريث الحكم .. و رغم جهود حرس النظام في ملاحقة هذه الظاهرة المزعجة، فالنظام معرّض ـ مستقبلا ـ لتصعيد هذا الوضع، و خاصة بين من صدّق دعوة الديموقراطية الأمريكية، و أساء تفسير هدف الضغوط الأمريكية على النظام
ثانيا : البحث عن حلول جزئية
أيا كانت نتيجة هذا الصدام، فالثابت أن مصر لن تجد ـ في المستقبل القريب ـ النخبة القادرة على قيادتها في طريق التقدّم الحقيقي المتكامل نحو مجتمع المعلومات . و من ثمّ، فستظل مصر تبحث عن حلول جزئية وقتية لمشاكلها، من خلال السعي الفردي لأصحاب رؤوس الأموال و المغامرين نحو التنسيق مع أمريكا و إسرائيل، و مع القوى النظيرة في العالم العربي التي ستلعب نفس الدور في مجتمعاتها
ثالثا : بطالة مستفحلة و تعليم و صحة أكثر تدهورا
أصحاب رؤوس الأموال و المغامرون سيتضاعف وجودهم في الحكومة، و سيحاولون التخفيف عن المواطن المصري، و حمايته بعض الشيء من جنون تصاعد الأسعار مع انخفاض قيمة الجنيه المصري، لكنّهم ـ شأنهم شأن الحكّام الحاليين ـ لن ينجحوا في إصلاح الأوضـاع الاقتصادية والاجتماعية و السياسية، بالنسبة لقضايا البطالة المستفحلة، و الوضع التعليمي المتدهور، و الرعاية الصحية التي تكاد أن تكون غائبة
رابعا : غياب الرؤية المستقبلية لمصر
مرجع هذا إلى غياب أمرين أساسيين : (1) فهم طبيعة مجتمع المعلومات الآتي، (2) فهم حقيقة الأرض التي تقف عليها مصر بشكل صادق أمين . و هما السبيل إلى وضع رؤية مستقبلية مصرية متكاملة، تنبع منها الاستراتيجيات و الخطط الخاصّة بإعادة البناء، و ليس الإصلاح


و الله أعلم ..

Thursday, December 17, 2009

العقل المصري .. و الضغوط

نهصة مصر ـ عام 2002 ـ راجي عنايت
رفع الشعارات
هربا من البحث عن منهج

عندما تتزايد الضغوط على العقل المصري : الضغوط الداخلية متمثلة في تدهور الوضع الاقتصادي و السياسي الذي أصبح انشغالا عاما، يشيع القلـق في نفوس عامة المصريين ( أقصد بالعامة غير المستفيدين من ذلك التدهور )، و الضغوط الخارجية متمثلة في التهديد الأمريكي المتصاعد، و الوباء الإسرائيلي المستفحل .. أقول كلّما تزايدت هذه الضغـوط تذكّر الجميع أننا في حاجة إلى شيء، وبدأنا البحث عن ذلك الشيء
و للأسف يتمخّض هذا الشيء، كما هو حادث هذه الأيام، عن شعارات نستنبطها من جوف التاريخ الخاص و العام، تشكّل احتياجات مشروعة، و يكون لها بريقها، لكنّها لا تصلح منفردة أو مجتمعة أساسا لمواجهة التخلّف الحضاري الذي نعيشه . شعارات يبدو بعضها جديدا، نزعت عنه بطاقة المنشأ حديثا، مثل شعار المواطنة، و الجودة و التميّز.. و يبدو البعض الآخر خارجا من جوف المدارس الفكرية القديمة، مثل الليبرالية، و حقوق الإنسان، و تداول السلطة، و الشفافية، و أخيرا النهضة
و أسـجّل هنا أن هذه الشعارات جميعا يشكّل كلّ منها مطلبا إيجابيا مشروعا . لكنّها جميعا ـ أكررّ جميعا ـ لا تصلح أساسا لتجاوز الهوّة الحضارية بيننا و بين الدول التي سبقتنا بخطوات واسعة في تطبيق احتياجات مجتمع المعلومات
عيب هذه الشعارات ـ الوحيد ـ هو أنّها تشكّل مهربا مشروعا من محاولة البحث عن منهج فكري، يتيح لنا أن نضع رؤية مستقبلية شاملة لمصر . رؤية تحقّق لنا التالي
أولا : فهم التغيّرات الجذرية الكبرى التي يمر بها المجتمع البشري حاليا
ثانيا : فهم العلاقات متبادلة التأثير بين هذه المتغيرات
ثالثا : فهم أسس إعادة البناء في مختلف المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية، و الأولويات التي يجب أن نلتزم بها في دخولنا مجتمع المعلومات، وفقا للواقع الصادق الأمين لمصر حاليا

* * *

و لكن، ما هي العقبات التي تقف في وجه التوصّل إلى المنهج المناسب لوضع الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر ؟، و هل هي عقبات في مقدورنا ـ كمصريين ـ تخطيها ؟
المنهج الذي أدعو إلى اكتشافه و الاعتماد عليه، لا ينبت من جهد فردي لأذكى الأذكياء، و لا تقدر عليه بيروقراطيات الحكومة المصرية بكلّ ما تضمّه من كفاءات، و لا يمتّ بصلة لاجتهادات المستويات المختلفة للأحزاب المصرية ..و
و هو بالقطع يخرج عن جهد و نيّة جميع المستفيدين ـ اقتصاديا ـ من الأوضاع الحالية، من الحكومة أو القطاع العام أو الخاص

* * *

منذ أكثر من عشر سنوات، ظهر لي كتاب " أفيقوا يرحمكم الله .."، يتضمّن بالتفصيل المنهج الذي يتيح للإنسان العربي أن يفكّر في مسـتقبل مصر ضمن المستقبل العام للبشرية في إطار التحوّل إلى مجتمع المعلومات . و قد تضمّن محاولات لرسم صورة الحياة خلال عصر المعلومات في : التعليم، و الإدارة، و الاقتصاد، و الممارسة الديموقراطية، و الإعلام . حاولت في ذلك الكتاب أن أطرح منهجا للتفكير في التحوّلات الحاضرة التي يشهدها الجنس البشري، و في مستقبل هذه التحوّلات
و الآن، بعد مرور هذه السنوات العشر، أجد أن مسار التفكير في مستقبل مصر لم يتقدّم خطوة واحدة عمّا كان عليه الحال في ذلك الوقت . معظم المفكّرين و الكتّاب و رجال السياسة في مصر، و في العالم العربي أيضا، مازالوا يتصوّرون أن بإمكانهم الاعتماد على دراساتهم و خبراتهم القديمة في التصدّي لفهم الواقع الجديد و التعامل معه، و في التوصّل إلى حلول للمشاكل الحالية المتفاقمة . إنّهم لا يتصورون إن المساطر القديمة التي كانوا يقيسون عليها الأمور قد سقطت، و أن دراساتهم العالية لأصول و مقتضيات الحياة في عصر الصناعة، و خبراتهم الطويلة في التعامل مع المجتمع الصناعي، لن تفيدهم في التعامل مع المشاكل الحالية الناشئة عن التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات

هل كان من الممكن لمفكّر أو خبير في عصر الزراعة، و في أوضاع و أحلام و مشاكل المجتمع الزراعي، أن يتعامل مع حقائق عصر الصناعة، التي فرضت انقلابا تاما في الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية ؟ ! .. هل كان ذلك من الممكن، لو لم يبدأ ذلك المفكّر في دراسة مرحلة التحوّل التي قادت إلى قيام المجتمع الصناعي، و الأسس و المبادئ و العقائد الجديدة لهذا المجتمع ؟
نحن الآن في نفس الموقف، لا يمكننا أن نتعامل مع حقائق و مشاكل و مستجدّات مجتمع المعلومات، اعتمادا على خبراتنا المستمدّة من عصر الصناعة، و دون أن نفهم مرحلة التحول الحالية، و الأسس و المبادئ و العقائد الجديدة لمجتمع المعلومات، و التي تختلف ـ بل تتناقض ـ مع تلك الخاصّة بالمجتمع الصناعي
إحجامنا عن هذا الجهد الفكري لاستنباط المنهج المناسب، هو الذي يلجئنا إلى الشعارات المعادة

ــــــــ
ملحوظة : كتابي الذي أشرت إليه صدر منذ حوالي عقدين
و هذا الموضوع نشر منذ حوالي 8 سنوات
فمتى نفيق ممّا نحن فيه يا أهل مصر ؟؟؟
راجي عنايــت

Friday, December 11, 2009

ديموقراطية المشاركة - 5 شروط

نهضة مصر- الثلاثاء 27/12/ 2005 – راجي عنايــت


كيف يشارك الشعب
في حكم مصر ؟


حديثي عن ديموقراطية المشاركة، باعتبارها بديل عصر المعلومات لديموقراطية التمثيل النيابي، ذكّرتني بواقعة طريفة، حدثت على شاشة القناة الأولى للتلفزيون المصري، منذ سنوات عديدة .. و هي توضّح في الحقيقة مدى عزلة قياداتنا السياسية عن التغيرات التي تدور حولنا
بدأت الواقعة باستدعاء من وزير الإعلام السيد صفوت الشريف، و في حجرته وجدتني وسط مجموعة من مثقفي مصر، د. سعد الدين إبراهيم، و د. لبيب رزق يونان، و د. علي الدين هلال . طلب منّا الوزير أن يختار كل واحد منّا يوما من أيام الأسبوع، ليقدّم حديثا على القناة الأولي، بعد نشرة أخبار التاسعة . و كان خامسنا الأستاذ الجامعي د. على راضي، الذي لم يحضر معنا ذلك الاجتماع . و قد أطلقت أوساط التلفزيون على هذه المجموعة تعبير " مجموعة التنوير و قد اخترت أن تجري أحـاديثي تحت عنوان " مستقبليات "، الذي كان اسم الباب الأسبوعي الذي أكتبه في مجلة المصوّر

ديموقراطية .. و ديموقراطية

كنت أتحدّث عن طبيعة النظم الجديدة في مجتمع المعلومات، بالنسبة لكافة المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و كان حديثي في أحد الأسابيع عن " ديموقراطية المشاركة "، و قد حرصت على شرح الفرق بينها و بين ديموقراطية التمثيل النيابي التي ابتدعها المنظرون الأوائل لعصر الصناعة، نتيجة للتضخّم الهائل في عملية اتخاذ القرار، بعد أن تكفّلت الدولة بجميع المهام التي كانت تقوم بها الأسرة الزراعية، من تعليم و علاج و رعاية للكبار .. و أيضا بعد أن قام عصر الصناعة على الإنتاج على نطاق شديد الاتّساع، مستقلا عن الاستهلاك شديد الاتّساع، و قيام السوق بمعناها المعاصر للربط بين الجانبين . و كيف أن هذه الديموقراطية قد أحدثت شرخا في جدار السلطة، دخلت منه أعدادا كبيرة من الطبقة المتوسّطة إلى عملية اتخاذ القرار لأوّل مرّة .. إلى آخر ذلك
في نفس الأسبوع، خطر لي أن أري ما يتكلّم فيه الآخرون، و كان الحديث التالي للدكتور علي الدين هلال .. فوجدته يشرح بالتفصيل الممل، الديموقراطية النيابية، و الفصل بين السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية .. إلى آخر ما هو في مقرر دروس التربية القومية بالإعدادية .. و في الأسبوع التالي، وجدته ما زال يتكلّم في نفس الموضوع ... فعرفت مدى ثقل المهمة التي تنتظرني
بالمناسبة، عندما سمعت أن د. علي الدين تم اختياره لرئاسة أمانة التثقيف بالحزب الوطني، تذكرت تلك الواقعة، و فهمت سر التخلف المنهجي و الفكري للحزب الوطني

المعلومات .. و تنوّع البشر

ما علينا .. دعونا نعود إلى الحديث عن الديموقراطية اللامركزية، أو ديموقراطية المشاركة و كما أحب أن أوضّح دائما : أنا لا أتكلّم عن أحلام أو أماني، نابعة من مدينة فاضلة .. أنا أقوم بعمل علمي حسابي، أقرأ مؤشرات التغيير التي يمر بها العالم، و أتفهّم العلاقات المتبادلة بينها، ثم أجتهد في رسم صورة لمختلف مجالات النشاط البشري، وفقا للحياة الجديدة التي تقودنا إليها هذه المؤشرات
مثال ذلك، أسأل نفسي : و لماذا نتنازل عن نظم عصر الصناعة القائمة على المركزية ؟، و لماذا تحلّ اللامركزية محل المركزية ؟ .. فأكتشف أنّه : نتيجة لثورة المعلومات، و تطور تكنولوجيات المعلومات، تنوّع البشر، نتيجة لتنوّع ما أقبلوا عليه من ذلك التدفّق المعلوماتي . تنوّع البشر . لم يعودوا متماثلين متطابقين تقريبا، يكفي أن تتفهّم واحدا منهم حتّى تفهم باقيهم
نفهم ذلك جيدا، إذا تأملنا مجموعة من البشر في قرية من القرى، خلال عصر الزراعة، أو في بدايات عصر الصناعة .. سنجد تقاربا شديدا في أفكار و توجهات و عادات الأفراد، نتيجة لقلة المعلومات المستجدة، و ندرة التغيرات و تباعدها زمنيا . و كان يكفي أن تقابل واحدا منهم حتّى تعرف الكثير عن باقيهم ..لكن، عندما يتنوّع البشر، يتغيّر الوضع .. و تنهار معظم النظم التي اعتمدها عصر الصناعة

المشاركة .. ثقافة عصر

التنوّع الذي طرأ على البشر أسقط أحد أهم مبدأ من مبادئ عصر الصناعة، و هو مبدأ النمطية، الذي يجعلنا ننظر إلى البشر كآحاد متطابقة .. و هو المبدأ الذي جعل من المركزية ممارسة عظيمة، و فن كبير، و مكسب ضخم، طوال عصر الصناعة .. و هو الذي أشاع كلّ ما هو جماهيري، أي كلّ ما يستهدف تنظيم خدمة الآحاد المتطابقة من البشر .. الإنتاج الجماهيري النمطي على نطاق واسع، و الاستهلاك الجماهيري للسلع و الخدمات النمطية، التي تقبل عليها الجماهير النمطية .. و الإعلام الجماهيري الذي يتوجّه لجماهير نمطية، ساعيا إلى مزيد من قولبتها .. و أيضا الديموقراطية النيابية الجماهيرية، و التي تلخّص إرادة و توجّهات و مصالح أبناء الدائرة في نسق نمطي، يعبّر عنه بالتوكيل شخص واحد، هو النائب البرلماني
عندما تنوّع البشر، و اختلفت مشاربهم، سقط مبدأ النمطية و التوحيد القياسي للبشر، فاهتزّت النظم المركزية، و انهارت جميع المؤسسات الجماهيرية .. و كان من بين هذا التعثّر الحالي لديموقراطية التمثيل النيابي عالميا .. و بدأت تظهر بدائل للممارسة السياسية، كان من بينها ديموقراطية المشاركة
و الحقيقة، أن المشاركة لا تقتصر تطبيقاتها على الممارسة الديموقراطية، فهي ثقافة أساسية في جميع مجالات النشاط البشري في مجتمع المعلومات .. فالمشاركة هي ثقافة عصر .. عصر المعلومات

إدارة القطاع الخاص

لقد ظهرت التغيرات الأولى، عند التحوّل من نظم الصناعة إلى نظم المعلومات، في مجال التنظيم الإداري، و بشكل محدد في مجالات النشاط الاقتصادي الخاص . فالقطاع الخاص، أكثر حساسية، في جميع بلاد العالم، من القطاع العام أو الحكومي
لقد شعر مدير الشركة أن النظم التقليدية في إدارة العمل، و التي نجحت كثيرا في عصر الصناعة، لم تعد تعطي نفس النتائج، بل أصبحت تشكّل عائقا أمام نجاح العمل . و اكتشف المدير السر وراء ذلك .. أنّه التغيّر الذي طرأ على الإنسان الذي يعمل في الشركة، لقد أصبح أكثر علما، و أوسع معرفة، و أكثر اختلافا عن غيره من العاملين .. و الأهم من كل هذا أنه أصبح عاملا عقليا معرفيا، لا تحصل منه على أفضل نتيجة إلاّ إذا احترمت إنسانيته، و جعلته شريكا في قرارات العمل .. فظهرت نظم الإدارة الجديدة للغاية، و التي تقوم على المشاركة، و احترام عقل ومزاج الإنسان

هل هي ممكنة عندنا ؟
قد نسمع من يسأل : و هل نحن في وضع يسمح لنا بتطـبيق ديموقراطية المشـاركة عندنا ؟ .. هل وصل وعي
المواطن المصري عند القواعد إلى حد قدرته على اتخاذ القرار السليم ؟
هذا هو ما سنناقشـه فيما يلي من حديث تفصيلي عن ديموقراطية المشاركة .. لكن الأكيد هو أننا سنواجه في القريب بضرورة تصحيح مسار الممارسة الديموقراطية عندنا، بما ينسجم مع التحولات الكبرى التي يمر بها الجنس البشري ..و في هذا المجال، كما في المجال الاجتماعي و الاقتصادي، يفضل أن نبادر نحن بإصلاح مسارنا، بدلا من أن تتدخّل قوى أخرى، و تفرضه علينا، لحسابهم أكثر من حسابنا، كما يحدث معنا هذه الأيام ، و ما نسمعه من بوش و تشيني و كنداليزا من أوامر على شكل توجيهات
تطبيق ديموقراطية المشاركة عندنا، يعتمد على التالي
أولا : الاستقرار الديناميكي
صدق نية النظام الحالي، النابعة من فهمه أن المشاركة هي سبيل " الاستقرار الديناميكي "، و هو غير استقرار الجمود الذي يتمسّك به
ثانيا : حكم محلي حقيقي
قبول النظام الحاكم لفكرة حكم محلّي حقيقي، و الهبوط بنسبة عالية من مسئولية اتخاذ القرار رأسيا، من القمّة، إلى ما يليها من مستويات، حتّى القاعدة، و أفقيا من دوائر الحكم إلى فئات و تشـكيلات المواطنين النوعية . لتصحيح وضع الديموقراطية النيابية التي أقيمت على الأساس الجغرافي، نتيجة لتأثير المجتمع الزراعي، السابق لمجتمع الصناعة، مخترع تلك الديموقراطية
ثالثا : تجاوز التخلف التعليمي
تجاوز التخلّف الشديد في أدوات التعليم و نظم اكتساب المعارف في مصر .. لا تصدّقوا من يقول لكم أن لدينا الحد الأدنى من النظم التعليمية الضرورية حتّى لو صدر هذا عن وزير، أو رئيس وزراء، أو حتّى رئيس جمهورية ! .. فالتعليم عندنا متخلّف عن الحد الأدنى للتعليم التقليدي الذي ساد عصر الصناعة، و عرفته في طفولتي و صباي ( عمري الآن تجاوز 77 سنة ) .. و هو مناقض لأهم أساسيات التعليم القائم على التفكير و الابتكار و إعمال العقل، و الاعتزاز بالاختلاف عن الآخرين، ممّا يتيح لنا أن نلحق بمسيرة عصر المعلومات
رابعا : مجتمع مدني حرّ
السماح بنشاط حرّ لجمعيات المجتمع المدني، في القواعد، و في التجمعات المهنية و الحرفية
خامسا : تعميم ثقافة المشاركة
تعميم ثقافة المشاركة في الإدارة، في المدارس و الجامعات, و المؤسسات الاجتماعية



Saturday, December 5, 2009

حقيقة ما تفعله أمريكا

نهضة مصر ( الخميس 17 مارس 2005 ) راجي عنايــت

اعترافات قنّاص اقتصادي أمريكي

أمريكا تستخدم القروض
في خداع الشعوب الفقيرة

ثلاث خطوات تعتمد عليها الولايات المتحدة في فرض نفوذها على العالم، و بناء الإمبراطورية الأمريكية، منذ منتصف القرن الماضي : الطليعة التي تتكوّن من جيش القناصة الاقتصاديين، و عندما يفشل القناصة يأتي دور أباء آوى التابعين لأجهزة المخابرات، و تكون الخطوة الثالثة و الأخيرة عند عدم تحقّق الهدف المنشود هي الغزو العسكري
هذا هو بعض ما يعترف به القنّاص الاقتصادي القديم جون بيركينز، في الحديث الذي أجرته معه آمي جودمان، في إذاعة الديموقراطية الآن
كان التساؤل الأول، حول معنى الاصطلاح الغريب، اصطلاح " القنّاص الاقتصادي"، قال بيركينز: القنّاص الاقتصادي يقوم بما هو مدرّب عليه، و وظيفتنا هي المساهمة في بناء الإمبراطورية الأمريكية .. و أن نجلب لمؤسساتنا و لحكومتنا ما نستطيع أن نوفّره، و أن نخلق الأوضاع التي تحقق أكبر قدر من الموارد لخزينة البلاد .. و الحق أننا كنّا نحقق نجاحا كبيرا في هذا المجال .. لقد ساهمنا في بناء أكبر إمبراطورية في تاريخ العالم، من خلال التلاعب الاقتصادي، و الغش، و التزوير، و من خلال إغواء الناس من خلال التلويح لهم بطريقتنا في الحياة

أكثر أجهزة التجسس غموضا

و يحكي جون بيركينز قصة دخوله إلى ذلك العالم الغريب، فيقول أنه قد تم تجنيده في أواخر الستينيات، عندما كان يدرس في مدرسة الأعمال، بواسطة " وكالة الأمن القومي "، و التي يصفها بأنّها أكبر منظمات الجاسوسية في البلاد، و أكثرها غموضا . لكنه كان يعمل بشكل علني و رسمي مع إحدى شركات القطاع الخاص . و سنعرف أن السر في هذا هو إبعاد الإدارة الأمريكية عن مسئولية عواقب العمليات الفاشلة أمام الرأي العام العالمي، و الداخلي أيضا
و هنا، يجدر بنا أن نتوقّف قليلا ـ و نحن نرفع جانبا من ستار التخفّي السميك ـ لنرى طبيعة النظام الأمريكي، و المخطط الاستغلالي الذي يختفي وراء جميع الشعارات العظيمة التي يكثر الرئيس بوش ترديدها هذه الأيام .. لنرى المصدر الحقيقي للغنى الفاحش الذي يتيح لأمريكا كل ما تطمع فيه من أدوات السيطرة على شعوب العالم، بالقول أو المال أو السلاح
و نعود إلى حديث جون بيركينز، الذي يقول أن أوّل قنّاص اقتصادي أمريكي كبير، ظهر في بداية الخمسينيات، هو كيرميت روزفلت، الذي نجح في الإطاحة بالحكومة الإيرانية المنتخبة ديموقراطـيا، حكوة مصدّق، الذي ظهر على غلاف
مجلة تايم باعتباره رجل العام . و يستطرد بيركينز قائلا " لقد نجح في فعل ذلك دون إراقة دماء.. و الحقيقية أنه كانت هناك بعض الدماء المراقة، و لكن دون تدخّل عسكري .. فقط إنفاق عدة ملايين من الدولارات، لاستبدال مصدّق بالشاه .. أدركنا وقتها أهمية فكرة القنّاص الاقتصادي . لم يعد علينا أن نقلق للتهديد بحرب مع روسيا، إذا كنا نقوم بعملنا بهذه الطريقة .. كانت المشكلة هي كون كيرميت روزفلت عميلا للمخابرات المركزية الأمريكية، أي موظّف في الحكومة.. فإذا انكشف نشاطه في تلك النقطة، كنّا سنواجه الكثير من المتاعب " . و من هنا، كان قرار أن تجنّد المخابرات المركزية، أو وكالة الأمن القومي، العملاء الذين يصلحون كقنّاصين اقتصاديين، ثم ترسلهم للعمل لشركات استشارية خاصة، أو مؤسسات هندسية، أو شركات مقاولات، لكي لا تكون هناك عواقب تضر بالحكومة، في حالة اكتشافهم

قروض لا يمكن سدادها

ثم يقول بيركينز أن بداية عمله (كقنّاص )، كانت مع شركة تشاس مين في بوسطن . كان عدد العاملين يصل إلى ألفي موظف، و عمل هو كرئيس الاقتصاديين، مع 50 موظفا يعملون تحت قيادته . ثم يقول " لكن وظيفتي الحقيقية كانت عقد الصفقات .. كانت إقراض بعض الدول قروضا هائلة، أكبر من أن يستطيعوا سدادها . من بين تلك القروض، مثلا بليون دولار لدولة مثل إندونيسيا أو أكوادور، و كان على تلك الدولة أن تعيد 90% من ذلك القرض إلى شركة أو شركات أمريكية، مثل هاليبورتن أو بيكتيل،، لإنشاء بنية تحتية.."، و يقول بيركينز أن تلك المشروعات لم تكن تفيد غير قلة من العائلات الأكثر ثراء في تلك البلاد .. دولة مثل إكوادور تدفع أكثر من نصف دخلها القومي لتغطية الدين . و عندما تفشل الدولة في تدبير المال اللازم، و نكون في حاجة إلى المزيد من البترول، يتقدّم القنّاص ليقول للمسئولين في إكوادور " أنظروا ..أنتم غير قادرين على دفع الدين، بيعوا لشركاتنا غابات الأمازون الممطرة، المليئة بالبترول "، و النتيجة هي أن تصبح تلك الدول عبدة للإمبراطورية الأمريكية

ضمير القنّاص .. مرن

منذ سنوات، أعلن بيركينز، أنه يعد كتابا بعنوان " ضمير قنّاص اقتصادي " في تسعينيات القرن الماضي، فأسرعت إحدى شركات المقاولات الكبرى، و ساومته عارضة نصف مليون دولار، مقابل عدم نشر الكتاب، و في هذا يقول " لم تكن رشوة، لقد تقاضيت المبلغ كمستشار للشركة، و هذا شيء قانوني، لكنّي لم أفعل شيئا لتلك الشركة ّ " . و عندما أبدت آمي جودمان اندهاشها، قال : عندما عينتني وكالة الأمن القومي، وضعوني في جهاز كشف الكذب ليوم كامل .. و اكتشفوا جميع نقط ضعفي، و استخدموا معي أقوى عقاقير حضارتنا ... الجنس، والنفوذ، و المال
و يستطرد بيركينز قائلا : أنا أنتمي إلى عائلة ذات تاريخ قديم في نيو انجلاند، تؤمن بالمذهب الكالفيني،
الفرنسي البروتستانتي، و تربيت على قيم أخلاقية قوية .. أعتقد أن قصتي توضّح كيف يمكن لهذا النظام، و هذه العقاقير القوية من جنس ومال و سلطة أن تغري البشر .. و هذا هو ما جعلني آخر الأمر أكتب كتاب "اعترافات قنّاص اقتصادي" لأن بلدنا يحتاج أن يعرف . لو أن شعب هذه الأمة فهم حقيقة سياستنا الخارجية، و حقيقة المعونات الخارجية، و كيف تعمل مؤسساتنا، و أين تذهب أموال الضرائب، أعرف أننا سنطالب جميعا بالتغيير

كيف مات تورريجوس ؟

عمر تورريجوس، كان رئيس دولة بنما . و كان قد وقّع اتفاقية حول قناة بنما مع كارتر . ثم بدأ تورريجوس الحديث مع اليابان لبناء قناة في مستوى البحر، و أبدت اليابان استعدادها لتمويل بناء تلك القناة . و كان هذا مثار غضب شديد في شركة بيكتيل، التي كان رئيسها في ذلك الحين جورج شولتز، و مستشارها الأعلى كاسبر واينبيرجر . يقول بيركينز عندما ألقي بكارتر، و جاء ريجان، خرج من بيكتيل كلّ من شولتز الذي أصبح وزيرا للخارجية، و واينبيرجر الذي أصبح وزيرا للدفاع، و كانا غاضبين للغاية من تورريجوس، و حاولا الضغط عليه لكي يوقف اتصالاته باليابان، فلم ينجحا .. لقد كان صاحب مبدأ، و هكذا فقد حياته في انفجار طائرته لتي كان بها قنبلة داخل جهاز تسجيل
و يحكي بيركينز عن رد فعل هذه الواقعة على حياته كقنّاص اقتصادي، و بداية إحساسه بضرورة إجراء تحوّل في حياته، و في هذا يقول :كنت أنا الذي يعمل معه، و أدركت أننا معشر القنّاصة الاقتصاديون قد فشلنا

مؤامرات البنك الدولي
و عندما سألته آمي عمّا إذا كان قد عمل مع البنك الدولي، أجاب : بشكل لصيق جدا جدا .. فالبنك الدولي يوفّر معظم الأموال التي يستخدمها القنّاصة الاقتصاديون، هو و صندوق النقد الدولي . لكن عندما وقعت ضربة 11 سبتمبر، أصابني انقلاب داخلي . و أيقنت بضرورة البوح بالقصة، لأن واقعة 11 سبتمبر هي النتيجة المباشرة لما يفعله القنّاصون الاقتصاديون . و الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تشعرنا بالأمان في هذه الدولة، و نحسّ بالرضا عن أنفسنا، هو أن نستخدم هذه النظم التي أوجدناها من أجل خلق تغيرات إيجابية في أنحاء العالم .. و أعتقد صادقا أن بإمكاننا أن نفعل ذلك ..و أعتقد أن البنك الدولي و المؤسسات الأخرى يمكن أن تعدّل مسارها، و تفعل ما قامت أصلا لتفعله .. و هو مساعدة البلاد المطحونة في أنحاء العالم كي تعيد بناء ذاتها

هل بدأت تتضّح لكم صورة ما تفعله الولايات المتحدة في حقيقة الأمر ؟

Sunday, November 29, 2009

ديموقراطية مجتمع المعلومات

نهضة مصر – الثلاثاء 15 /11/ 2005 – راجي عنايــت

عندما يعرف الناخب
!.. أكثر ممّا يعرف النائب

من فرط ما استجبنا للتلقين، و استندنا إلى سنن الأقدمين، فقدنا القدرة على التساؤل .. بل قد نكون قد فقدنا الرغبة في أن نعرف حقيقة و أسباب الأشياء، صغيرها و كبيرها .. نتعلّم في مدارس، و نعلّم فيها، و يذهب إليها أبناؤنا، و مع ذلك لم يحدث أن توقّف أحدنا ليتساءل : لماذا هي كذلك ؟ .. نشارك في الانتخابات النيابية، و ندخل في معاركها، و نترقّب بحماس نتائجها، و تمضي الدورة البرلمانية تلو الأخرى، و لم يحدث أن سألنا أنفسنا عن الجدوى الحالية لهذا الشكل من أشكال الممارسة الديموقراطية
إلى متى نظلّ نسعى وفق خطط مجهولة الصاحب و الغرض ؟ .. إلى متى نتهرّب من محاولة التفكير الناقد، الذي يتيح لنا أن نتعرّف على صلاحية الأشياء التي نقوم بها أو نخضع لها ؟
ومتى نستجيب لنداء العصر، عصر المعلومات، فنمارس حقنا و واجبنا في التفكير الابتكاري، الذي يسمح لنا بالنظر إلى الأشياء من منظور غير تقليدي، فنعرّيها من ثياب تنكّرها التي تراكمت عليها عبر الزمن لتخفي حقيقتها ؟، ثم يتيح لنا أن نكتشف البدائل الأكثر تعبيرا عن صالحنا، و أكثر انسجاما مع عصرنا ؟
لماذا ينقصنا دائما التفكير الواضح، في أحوالنا و أحوال العالم من حولنا ؟ .. لماذا يتجاوز هذا عامة الناس، و من فرضنا عليهم الأميّة مصيرا، و نراه شائعا بين معظم مثقفينا و كتّابنا و أساتذة جامعاتنا، و قيادات أحزابنا، قيادات ما نطلق عليه تعبير " الحزب الوطني الديموقراطي "، القديمة و الجديدة، و ما يستجد منها عند بلوغ الأحفاد السن القانونية ؟

ما المناسبة ؟
و قد يسأل سائل: و ما مناسبة هذه المقدمة الطويلة، و الأسئلة التي لن تجد من يجيب عنها، و نحن في قلب معركة تكسير العظام الانتخابية ؟
أجيب، بأن فرط الإسفاف السياسي المصاحب لهذه الحملة الانتخابية، و كمية الزيف و الكذب و التلفيق التي تتردد على ألسنة الجميع، و في مقدّمتهم أباطـرة الحزب الحاكم، و فحش الرشاوى العلنية النقدية و العينية .. و أيضا من فرط خوفي من أن يتصوّر بسطاء الناس أن هذا الذي يجري في أنحاء مصر له علاقة بالديموقراطية عامة، أو حتّى بديموقراطية التمثيل النيابي .. و أيضا خشيتي من تصور المثقف المصري أن هذا النوع من الديموقراطية، الديموقراطية النيابية، هدفا مثاليا لجميع العصور، و سنّة من السنن التي تستوجب تكفير كل من يدينها، و كلّ من يعلن ـ بعلمه ووعيه و تجربته ـ أنها فقدت صلاحياتها في جميع أنحاء العالم، نتيجة لتحول البشر من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات
ديموقراطية التمثيل النيابي، التي تنكر على المواطن قدرته على اتخاذ قراراته فيما يمس حياته، و تفرض عليه أن ينيب عنه من يتولّى هذا من نخبة اتخاذ القرارات .. و التعليم القائم على التلقين، و على إعداد السواد
الأعظم من الدارسين للقيام بالأعمال العضـلية أو اليدوية الروتينية المتكـررة التي لا تحتاج إلى إعمال العقل .. والإعلام الجماهيري، الذي يسعى إلى قولبة الجماهير، و تعويدها على قبول ما تفرضه النخبة الحاكمة .. و نظم الإدارة البيروقراطية، القائمة على النظام الهرمي لتسلسل الرئاسات، التي تحتكر فيها الصفوة عند قمة الهرم عمليات التفكير و الابتكار و اتخاذ القرارات، و لا يكون على القواعد سوى التنفيذ دون تساؤل .. و الاقتصاد القائم على الفصل بين الإنتاج و الاستهلاك، و تعظيم الأرباح على حساب البيئة و الإنسان .. هذه النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية بدأ ظهورها في حياة البشر بعد انطلاق الثورة الصناعية، و التي صاغها الآباء الأوائل للثورة الصناعية، بهدف تعظيم الأرباح الصناعية، و ترسيخ مكانة الصفوة

الانتخابات كأداة في يد الصفوة

الديموقراطية النيابية، أو ديموقراطية التمثيل النيابي .. أو الديموقراطية التي يقوم فيها سكّان رقعه من الأرض باختيار من ينوب عنهم في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياتهم، باعتباره أقدر منهم على معرفة ما هو في صالحهم .. هذه الديموقراطية كانت نصرا للشعوب في بدايات عصر الصناعة، و ساهمت في إدخال عناصر من الشعب و طبقته المتوسطة إلى عملية اتخاذ القرار التي كانت قاصرة على الصفوة قبل ذلك، و اقتضت وجود الأحزاب التي تلعب دور الوسيط بتجميع الأصوات، التي هي وقود العملية الانتخابية و في هذا يقول المفكر المستقبلي ألفن توفلر : لابد من الاعتراف بأن الحكومة القائمة على التمثيل النيابي و الانتخاب، و التي ولدت من الأحلام التحررية لثوار المجتمع الصناعي، كانت تقدما مدهشا بالنسبة لنظم السلطة السابقة عليها .. و بفضل تمسّك هذه الحكومة القائمة على التمثيل الانتخابي بمبدأ حكم الأغلبية، و بحق كل إنسان في إعطاء صوته، ساعدت بعض الفقراء و الضعفاء في استدرار بعض المنافع، و ظهرت الحكومة في مطلع الثورة الصناعية بمظهر الثورة الإنسانية .. و مع ذلك، و منذ البدايات الأولى، عجزت تلك الحكومات دائما عن الوفاء بالتزاماتها، و فشلت في تغيير البناء التحتي للسلطة .. و هكذا تحوّلت الانتخابات، بصرف النظر عمن يربح فيها، إلى أداة حضارية قوية في يد الصفوة

ما الذي تغيّر.. و متى ؟

ظلّت ديموقراطية التمثيل النيابي، بتنويعاتها المختلفة، هي الشكل المعتمد للممارسة الديموقراطية في العالم، إلى أن انسحبت الأسس و المبادئ التي قامت عليها من حياة البشر . حدث هذا بعد قيام ثورة المعلومات، و تبلور شكل مجتمع المعلومات في نهايات القرن الماضي
فقدت النظم القديمة في الاقتصاد والممارسة السياسية و التعليم و الإدارة و الإعلام .. فقدت مصداقيتها، لتناقضها مع الواقع الجديد الذي أحدثه التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات . و في جميع المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، بدأ البحـث عن النظم الجديدة التي ستحل محلّ النظـم القديمة .. و كانت النظم الجديدة للممارسة السياسية من بين الأمور التي شغلت بال المفكرين
و بديهي أن نواقص الممارسة السياسية التي نشهدها هذه الأيام في انتخاباتنا النيابية، لا تشبه في شيء المشاكل التي واجهت الممارسة الديموقراطية في الدول الديموقراطية العريقة . لكن الثابت أن التركيبة بأكملها لم تعد قابلة للتطبيق .. الأحزاب، و صناديق الانتخابات، و اختيار نوّاب عن الشعب يتولّون عنه مهمة اتخاذ القرارات، و تحوّل نواب الشعب إلى جانب من كيان الصفوة التقليدية، بمجرّد انتخابهم ..
الأسباب الحقيقيةالمسألة ليست ـ كما هي عندنا ـ تزوير في كشوف الانتخاب، و ضغوط أمنية و أدبية و مالية على الناخبين و المرشّحين، و رغبة من النظام الحاكم ( و صفوته العليا ) في عمل كل ما يبقي له سيطرته و سلطانه .. المسألة ترتبط بالمستجدات التي خلقتها ثورة المعلومات، و أوجبها مجتمع المعلومات، و هي

أولا : الناخب أكثر خبرة من النائب
التكنولوجيات الحديثة في مجالات المعلومات و الاتصالات و الانتقالات أتاحت للبشر تدفّقا متواصلا من المعلومات و المعارف، و جعل بإمكان الفرد أن يعتمد على نفسه، أيا كان عمره، في متابعة كل ما هو جديد في الحياة و نظمها، و قاد إلى تحوّل السواد الأعظم من العمالة العضلية إلى العمالة العقلية . لقد ارتفع التعليم الذاتي، المعتمد على التكنولوجيات الجديدة، بمستوى معارف و تفكير و القدرات الابتكارية الفرد، ممّا جعله أكثر خبرة من معظم النواب فيما يجب اتخاذه من قرارات فيما يتصل بالأمور التي تمس حياته بشكل مباشر

ثانيا : التنوّع و انقضاء الجماهيرية
تزايد المعلومات و المعارف المتاحة للأفراد، و تباين استجاباتهم لها، خلق تنوّعا واسعا بين الأفراد، فلم يعودوا الآحاد المتطابقة التي قامت على أساسها جميع النظم الجماهيرية في المجتمع الصناعي، التعليم الجماهيري، و الإعلام الجماهيري، و أيضا الديموقراطية الجماهيرية

ثالثا : من التنظيمات المركزية إلى الشبكية
و انعكس هذا على النظم الإدارية التي نعتمد عليها في حياتنا، و بدأ التحوّل من المركزية إلى اللامركزية، و تغيّرت العلاقة بين القيادة و القاعدة، و اختفت طبقة الإدارة الوسيطة، فحدث انقلاب في تصميم المؤسسات، نتيجة للتحوّل من التنظيمات البيروقراطية الهرمية، إلى التنظيمات الشبكية . هذا التحوّل يتيح إقامة ديموقراطية لامركزية، تجعل الحكم المحلّي حقيقة مؤثّرة في حياتنا

* * *

لعل ما أوردناه من نقاط، يتيح لنا إدراك أن ما نحن بصدده بالنسبة للممارسة الديموقراطية، ليس مجرّد تجويد، أو تحسين، أو تخلّص من نواقص التطبيق .. إننا بصدد شكل جديد للديموقراطية، يشارك فيه كل فرد في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياته، فلا ينيب أو يوكّل من يقوم نيابة عنه بذلك .. ديموقراطية لامركزية ترتبط ارتباطا وثيقا بإعطاء أهمية مضاعفة للحكم المحلّي، و تستفيد من التكنولوجيات المعلوماتية في التصويت و تبادل الآراء و الأفكار .. يطلق عليها مؤقّتا اسم : ديموقراطية المشاركة

Saturday, November 21, 2009

ديموقراطية جديدة لمجتمع المعلومات

العالم اليوم السبت 31 مايو 1997

الديموقراطيّة النيابية
و أزمتها الحالية ...


لكي نفهم أبعاد أزمة الممارسة الديموقراطة الشائعة ، علينا أن نتأمّل تاريخ تطوّر مسئوليّة إتّخاذ القرار، التي أوصلتنا إلى ما تمارسه معظم دول العالم من ديموقراطيّة برلمانيّة، تقوم على التوكيل أو التمثيل النيابي
على مدى عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة، كانت الحياة بسيطة للغاية إذا قورنت بحياتنا المعاصرة . و كانت عمليّة إتّخاذ القرار - بالتبعيّة - سهلة و بسيطة، يستطيع الحاكم أن يقوم بها بمفرده، دون حاجة إلى العون من أحد
غاية ما يفعله الحاكم، عندما يلتبس عليه الأمر، هو إن يتّجه إلى وزيره قائلاً : دبّرني ياوزير . و كان رأي الوزير أو تدبيره إستشاريّاً، غير ملزم للحاكم، بأخذ به أو يهمله . و مع مرور الزمن، عمد بعض الحكّام إلى تكوين مجلس من حكماء البلد، يستشيره عند الضرورة، و يتنوّر بآرائه .. و هكذا، ولد أول شكل من أشكال الديموقراطيّة، نظام مجلس الشورى . غير أن رأي هذا المجلس كان، كما في حالة الوزير، إستشاريّاً ..ظلّ هذا على مرّ القرون، الحدّ الأقصى للمارسة الديموقراطيّة . و حتّى عنما قامت ديموقراطيّة روما النيابية، كانت ديموفراطيّة السادة، لا يسمح فيها لجماهير الشعب من العبيد بأيّ نوع من المشاركة

شرخ في جدار السلطة

و مع إندفاع عصر الصناعة، تعقدّت الحياة . حدث الأنفصال بين الإنتاج و الإستهلاك، ممّا قاد إلى ظهور السوق بمعناها المعاصر . و تشكّلت الحكومات البيروقراطيّة الكبرى، و مؤسّساتها الضخمة، فأصبح من الصعب على الحاكم، وعلى الصفوة التي تساعده في الحكم، القيام بمهمّة إتّخاذ القرار . و قاد هذا إلى ضرورة إحداث شـرخ في جسم السلطة لإدخال عناصر جديدة إلى عمليّة صناعة القرار ، و من ثمّ ظهرت المجالس النيابية، التي ينوب أفرادها عن الشعب في إتّخاذ القرار
وجري تصميم هذه الآلة الديموقراطيّة على نسق المصنع، الذي كان أعجوبة العصر، و محلّ إعجاب القيادات الأولى لعصر الصناعة . فأنشئت الأحزاب، المناظرة لخطوط التجميع في المصنع، تجمع أصوات المواطنين، أو المادّة الخام للعمليّة الديموقراطيّة . و تجمّعت الأحزاب داخل البرلمان أو المجلس النيابي، بقدر ما حصلت عليه من أصوات . و أصبح هذا المجلس، من الناحية النظريّة، الجهة التي تتخذ القرارفي كل ما تعرضه الحكومة من تخصيصات للميزانية، أو قوانين
في هذا النوع المستحدث من الديموقراطيّة، يعطي المواطن صوته، ليوكّل عنه شخص آخر في إتّخاذ القرارات، ويتراوح المدى الزمني لهذا التوكيل بين ثلاث و خمس سنوات في العادة . خلال هذا الزمن تنقطع صلة المواطن بعمليّة إتّخاذ القرار، و حتّى موعد الإنتخابات التالية
كانت خطوة ثوريّة

في كتابه "الموجة الثالثة"، يقول آلفين توفلر أن الحكومة القائمة على التمثيل و الإنتخاب، و التي ولدت من الأحلام التحرّريّة لثوار الموجة الثانية(يقصد عصر الصناعة)، كانت تقدّماً مدهشاً بالنسبة لنظم السلطة الأسبق، كانت نصراً تكنولوجيّاً أكثر إثارة من الآلة البخاريّة أو الطائرة . لقد أتاحت هذه الحكومة تتابعاً منظّماً، يختلف كثيراً عن حكم السلالة الوراثي، و فتحت قنوات الإتّصال في المجتمع بين القاعدة و القمّة، ووفّرت طقساً يتيح التعامل مع الخلافات بين الجماعات و الفئات المختلفة على أساس سلمي
و بفضل تمسّك هذه الحكومة، القائمة على التمثيل الإنتخابي، بمبدأ حكم الأغلبيّة، و بحقّ كلّ إنسان في إعطاء صوته، ساعدت بعض الفقراء و الضعفاء، في إستدرار بعض المنافع من إخصائيي السلطة الذين يديرون آلة التكامل في المجتمع . فظهرت الحكومة بمظهر الثورة الإنسانيّة
و مع ذلك، و منذ البداية الأولى، عجزت الحكومة دائماً عن الوفاء بالتزاماتها . لم تستطع، في أيّ مكان، أن تغيّر البناء التحتيّ للسلطة في الدول الصناعيّة ... بناء الصفوة و الصفوة العليا . و هكذا، تحوّل الإنتخاب، بصرف النظر عمّن يكسب فيه، إلى أداة ثقـافيّة قويّة في يد الصفوة
تبدّد الأحلام الورديّة

و على مرّ السنين تبدّدت الأحلام الورديّة للديموقراطية النيابية
ومع إندفاع ثورة المعلومات، و تطوّر تكنولوجيّاتها، فقدت هذه الديموقراطيّة مصداقيّتها، في جميع الدول التي تأخذ بها . و الشواهد على ذلك لا تحتاج إلى حصر، أو تقديم
لقد كانت هذه الديموقراطيّة مناسبة منذ قرنين، عندما كانت المشاركة المباشرة للناس غير ممكنة أومجديّة . أمّا الآن فقد تغيّر الوضع . و في هذا يقول الكاتب المستقبلي جون ناسبيت: أنّنا بصدد أوضاع جديدة، بعد مقدم ثورة الإتّصالات، و ما صاحبها من إرتفاع المستوى المعرفي للناخبين، ومع قدرتنا الحاليّة على معرفة الكثير عمّا يجري، بما لا يقل عمّا يعرفه ممثّلونا في البرلمان، و معرفتنا به بنفس السرعة
قلنا أن الأحزاب كانت حجر الأساس في العمليّة الديموقراطيّة، و خط التجميع الرئيسي في مصنع التمثيل النيابي . و كانت تمثّل الخطوط العريضة لمصالح و لتوجّهات المواطنين، التي كانت تستقطب في اليمين و اليسار و أحيانا الوسط . و بشكل عام، كان الفرد ينتسب إلى هذه الأحزاب وفقا لهذا التقسيم
353
حزبا في أمريكا

الذي حدث خلال نصف القرن السابق، أن كلّ حزب من هذه الأحزاب قد لحق به ما لحق بكلّ شيئ قي حياتنا ، نتيجة الدخول المتصاعد لثورة المعلومات، التنوّع و التمايز و الإختلاف . و بذلك تحوّل كلّ حزب إلى يمين اليمين، و يمين، و وسط، و يسار، و يسار اليسار !، فاختلطت التقسيمة التقليديّة، و فقدت الأحزاب مصداقيّتها بالنسبة للناخبين، و تحوّلت الإنتخابات البرلمانيّة إلى حرب عصابات
عن هذا يقول ناسبيت،" اليوم، أصبحت الأحزاب القوميّة السياسيّة مجرّد أسماء، لقد أصبح لدينا في كابيتول هيل 535 حزبا سياسيّاً.."، مشيراً إلى عدد النوّاب . و يقول عن قيادات الأحزاب،" القيادة، تتضمّن البحث عن موكب، و الوقوف أمامه، و الذي يحدث في أمريكا الآن هو أن هذه المواكب قد أصبحت أصغر فأصغر..ومازالت تتكاثر " . و مع المزيد من الدخول في مجتمع المعلومات، يتحوّل الشعب إلى مجموعة من المستقلّين . و الحقيقة أن إهتمام المواطن بالسياسيّين يقل يوما بعد يوم، و هذا هو السرّ في إنخفاض الإهتمام بالإنتخابات القوميّة السياسيّة

إنصراف المواطن عن الإنتخابات

و يستطرد ناسبيت قائلا، أن إشتراك الشعب في الإنتخابات القوميّة يتناقص مرّة بعد مرّة . و رقم99% الشهير لا نراه سوى في الدول الشموليّة . لقد إعتاد المحلّلون السياسيّون أن يربطوا بين ضعف الإقبال على الإنتخابات و بين اللامبالاة و الجهل . إلاّ أن هذا التحليل يفقد قوّته، عنما نرى أن الناخبين قد أصبحوا أفضل تعليماً، و أغزر معرفة، و أكثر تحديداً لموقفهم . لهذا، بدأ المحلّلون يفهمون أخيراً أن الناخبين يتخذون قراراً واعيا بعدم المشاركة في الانتخاباتً
يقول الناس أنهم لا يحملون ثقة كبيرة، لا في التنظيمات السياسيّة و لا في يشغلونها . و هم بموقفهم هذا، يعبّرون عن إيماتهم بأن السياسيّين: إمّا لا يستطيعون القيام بما يطلبه الناخبون، أو لا يريدون فعل ذلك
إلى أن يقول ..إنتزعنا جوهر القوّة السياسيّة من أيدي ممثّلينا المنتخبين، لكي نعيد إستثمارها في مجالين أساسيّين
الأول هو الإقتراع السرّي المباشر، بالنسبة لحق إقتراح و تعديل القوانين، و بالنسبة للإسستفتاء على العمليّات المعيّنة، و الثاني هو النشاط السياسي الشعبي . و في كلّ من الحالتين، يكون المواطنون و ليس السياسيّون، هم الذين يقرّرون ما يفعلونه، و يمارسونه

* * *

ماذا يعني هذا كلّه ؟ . يعني أنّنا بصدد الإنتقال من الديموقرطيّة النيابيّة إلى شكل جديد للمارسة الديموقراطيّة أكثر تلبية لحاجات المجتمع في عصر المعلومات، بالضبط كما إنتقلنا من ديموقراطيّة الشورى إلى الديموقراطيّة النيابيّة تلبية لحاجات المجتمع في عصر الصناعة
و الديموقراطيّة النيابيّة، شأنها شأن جميع مؤسّسات المجتمع الصناعي، قد إستنفذت أغراضها . و لا يجدي في هذا القيام بجهود ترقيعيّة، و إنّما الذي يجدي، هو البحث عن شكل جديد للديموقراطية ـ سواء كانت ديموقراطية المشاركة، أو الديموقراطية التوقعية، أو الديموقراطية شبه المباشرة ـ على أن يتم ذلك من خلال فهم إحتياجات مجتمع المعلومات بشكل عام، وفي مجال الممارسة الديموقراطيّة بشكل خاص
راجي عنايــت

Monday, November 16, 2009

مستقبل مصر

العالم اليوم ـ السبت 28 يونيو 1997

.. كيف تدخل مصر
مجتمع المعلومات ؟

في مصر .. تغيّر الوضع كثيرا عمّا كان عليه، يوم أن بدأت الحديث عن المستقبل و عن ثورة المعلومات و مجتمع المعلومات، منذ أكثر من 15 سنة . لقد أصبحنا أكثر وعياً بالتغيّر الجذري الذي يؤثّر على حياة البشر في هذه المرحلة . و التكنولوجيات المعلوماتية التي كنت أشير إليها كمستحدثات مستقبلية، تثير الإندهاش، قد أصبحت في كثير من المجالات أمراً واقعاً محسوساً . و دخول هذه التكنولوجيات المعلوماتية المتطوّرة إلى حياتنا، جعل من السهل علينا أن نتفهّم ما كنت أكتبه طوال هذه السنوات عن مجتمع المعلومات، و عن أسلوب الحياة الجديد الذي يفرضه الدخول إلى مجتمع المعلومات، و الذي يؤثّر على كلّ شيئ في حياتنا، الإقتصاد و الأسرة و التعليم و الإدارة و الممارسة السياسية و الثقافة و القيم
و من ناحية أخرى، هناك الجانب السلبي لهذا التغيّر، متمثّلاً في إستخدام الساسة، في الحكومة والمعارضة، و في مجالات الدعاية الإعلامية، لمفردات و مصطلحات هذا التحوّل، لتحقيق أهداف سياسيّة و دعائية قصيرة المدى . نشهد ذلك في نصوص الخطط الحكومية، و في التصريحات اليومية للوزراء و المسئولين، و في كتابات الصحفيّين، ممّا يفرغ هذه المفردات من محتواها، و يثير البلبلة في عقول الذين يسعون إلى فهم الواقع الجديد

خريطة مصر الحاليّة

لقد تحدّثت كثيراً، على مدى هذه السنوات، عن طبيعة التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات، و عمّا يقتضيه هذا التحول من عمليات إعادة بناء في جميع المجالات . و إذا أسقطنا ما نقرأه و نسمعه كلّ يوم من دعايات غير صادقة، عن الطفرة التي حقّقتها التكنولوجيا المصريّة، و عن المكانة غير المسبوقة للإقتصاد المصري، و عن الثورة التي حدثت في النظم التعليمية و التي تنقلنا إلى تعليم عصر المعلومات .. إذا أسقطنا هذا كلّه، أصبح بإمكاننا أن نصل إلى نظرة واقعية أمينة للخريطة المجتمعية الحالية في مصر . التأمّل الأمين للأرض التي نقف عليها، هو السبيل لرسم المسار العملي الذي يساعدنا على تجاوز تخلّفنا، و اللحاق بركب التحوّل إلى مجتمع المعلومات
مصر، و الدول النامية بشكل عام، تختلف في خريطتها المجتمعيّة عن الولايات المتّحدة، و العديد من الدول الأوربية، و اليابان، أعني بذلك الدول التي إستكملت طور الصناعة، و خضعت منذ عشرات السنين لمقتضيات مجتمع الصناعة

تتشابك على أرض مصر اليوم ثلاثة أنساق مجتمعية . فالخريطة المجتمعيّة لمصر تتكوّن من الآتي

أولا : بقايا قويّة لمبادئ و أسس و ممارسات و قيم المجتمع الزراعي
ثانيا : دخول غير مكتمل إلى مبادئ و أسس و قيم المجتمع الصناعي
ثالثا : إرهاصات غير مترابطة لإقتحام مبادئ و أسس و قيم مجتمع المعلومات
ماذا يفعل صانع القرار ؟

ماذا يفعل صانع القرار في مواجهة هذا الوضع ؟
على صناع القرار، في القيادة و على مختلف المستويات، أن يدخلوا في إعتبارهم عدّة أمور أساسيّة، إذا ما عزموا على دخول مجتمع المعلومات، و اللحاق بالدول التي سبقتنا، و مواجهة الواقع الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي الذي تفرضه العولمة .. جلوباليزم

(1)
إسقاط فكرة السعي إلى تقليد و محاكاة مراحل التطوّر التي إجتازتها الدول الصناعية المتطوّرة، فإنّ مثل هذا التوجّه لا يعني سوى تأخّرنا عن ركب الدخول إلى مجتمع المعلومات، و إستمرار تخلّفنا
(2)
محاولة تحسين ظروف مصانعنا القائمة و تطويرها، بحيث تصبح أقلّ تلويثاً للبيئة، و أكثر إعتماداً على التكنولوجيات المعلوماتية المتطوّرة، و على العمالة العقلية أو المعرفيّة المتطوّرة
(3)
عند إنشاء المصانع الجديدة، يجب تغليب التوسّع في الصناعات الصاعدة، ذات القيمة المضافة العالية، كالصناعات الإلكترونية، و صناعات هندسة الجينات، و البتروكيماويات المتطوّرة، و أشباه الموصّلات . و عدم قبول المصانع القديمة، التي تسعى الدول المتطوّرة إلى التخلّص منها، و التي تقود إلى تكريس بقاء العمالة المصريّة عند مستوى العمالة العضلية
(4)
الخطوتان السابقتان تقودان إلى تفاقم مشكلة بطالة جديدة، يطلق عليها البطالة البنيويّة، الأمر الذي تعاني منه حاليا جميع الدول الكبرى المتطوّرة . و هذا يقتضي التركيز الشديد على نشاط التدريب و إعادة التأهيل، لتسهيل تشغيل العمالة التقليدية في الصناعات الجديدة . علما بأن صناعة التدريب و التأهيل هذه يمكن أن تحل جانبا من مشكلة البطالة بالنسبة للعاملين فيها
(5)
و أيضا، في مواجهة البطالة المتزايدة، لابد من تطوير قطاع الخدمات، لخلق وظائف جديدة . والإعتماد في ذلك على الإنجازات التكنولوجيّة في هذا المجال
(6)
العنصر الثالث في مواجهة البطالة، يقتضي إعادة النظر في أيام و ساعات العمل المعمول بها حاليّا، الأمر الذي تأخذ به الدول المتطوّرة، إحتراماً لبشرية العام
(7)
الإختيار بين البدائل التكنولوجية المطروحة، لكي نحصل على ما يكون أكثر إتّفاقاً مع ظروف حياتنا، و الإستراتيجية التي نضعها للتحوّل إلى مجتمع المعلومات . و في هذا المجال يمكننا أن نوازن بين الإندفاع إلى تبنّي التكنولوجيات المختلفة، و بين خططنا لتخفيف حدّة البطالة، و نختار التكنولوجيات غير المعقّدة التي يمكن الإعتماد عليها في المشروعات الصغيرة المنتشرة على إتّساع رقعة مصر
(8)
إعادة بناء نظمنا التعليمية الحالية، بما يتّفق مع إحتياجات العمل و الإبتكار في مجتمع المعلومات، من التعليم العام إلى الجامعة و مراكز البحث المتخصّصة . و وضع إستراتيجية علمية للعملية التعليمية، تنبع من رؤيتنا العامة لعملية التحوّل، و لا تخضع للأهواء السياسية قصيرة المدى . على أن يكون الهدف المباشر من هذه الإستراتيجية هو بناء الإنسان المصري وفقا لإحتياجات عصر المعلومات، أمّا هدفها البعيد فيكون السعي إلى إبتكار التكنولوجيات المتطوّرة المناسبة لنا، و عدم الإكتفاء باستيراد ما يسمح لنا بإستيراده
(9)
في مواجهة التغيّرات الدائمة، التي يتميّز بها عصر المعلومات، يكون علينا أن ندعم التعليم الذاتي، إعتمادا على التكنولوجيات الإلكترونية المتطوّرة المتاحة، بحيث يكون سندا للفرد في سنوات تعلّمه وفي عمله بعد ذلك، يساعده على تطوير خبراته أوّلا بأول، بحيث لا يتعرض لمخاطر البطالة
(10)
أن يفهم صانع القرار أن المعلومات و المعارف - و هي المورد الأساسي و الأهمّ في مجتمع المعلومات - ليست كباقي الموارد التي عرفها الإنسان، سواء في عصر الزراعة أم في عصر الصناعة، لأنّها لا تخضع - كسابقاتها - لقانون بقاء الطاقة . فالمعلومات و المعارف يمكن أن تستحدث، و يمكن أن تفنى و ينقضي أجلها . هذا بالإضافة إلى أن حجمها الكلّي أكبر من مجموع أجزائها . المعلومات - بعكس السلع - يمكن أن تبيعها و تتقاضى ثمنا لها، بينما تظل مالكا لها كل هذا، يقتضي أن يفهم صانع القرار أن النظريات الإقتصادية الحالية و المعمول بها لن تصلح للتعامل مع واقع مجتمع المعلومات . هذا الفهم ينهي الحيرة التي يقع فيها حاليا صنّاع القرار في أنحاء العالم، عندما تفشل خططهم القائمة على النظريات الإقتصاديّة التقليديّة، و تتولّد عنها المشاكل غير المسبوقة ، يوماً بعد يوم . فائض القيمة التقليدي يتحوّل من العمل إلى المعلومات و المعارف، ونظريات و قوانين الملكيّة التي إبتدعها الإقتصاد الصناعي، لم تعد صالحة للتعامل مع الواقع الجديد
(11)
الواقع الجديد الذي نتحدّث عنه، لا يقف أثره عند حدّ الإقتصاد، بل يمتدّ إلى جميع مجالات حياتنا. ولكي نضمن إستمرار نجاح خططنا الإقتصادية، لا بد أن نعيد بناء الأسس الديموقراطية التي شاعت في عصر الصناعة . النجاح الإقتصادي و الإنتعاش و حل مشاكل البطالة، يتطلّب إعادة توزيع سلطة إتّخاذ القرار بشكل جذري، وفقا للنظام الإداري الذي ينسجم مع عصر المعلومات . إنّنا بصدد نوع جديد من الديموقراطية، القائمة على المشاركة و ليس النيابة و التوكيل . إنّنا بصدد دور جديد للحكومة، يتضمّن أساساً التسهيل و التيسير، و ليس القيادة و التحكّم و الأمر
(12)
مجتمع المعلومات، هو مجتمع التغيّرات السريعة المتلاحقة . التغيّرات تحدث فيه بسرعة متزايدة، أكبر من أن تتيح لنا التعامل معها بعد حدوثها . لم يعد ممكناً أن يمضي صانع القرار في مصر، فيما إعتاده من إنتظار وقوع الحدث، ثم البحث عمّا يتوفر لديه من أدوات للتعامل معه

* * *

الحديث عن المستقبل في مصر، يجب أن يتجاوز تجميل الخطاب السياسي . علينا جميعاً أن نسعى بصفة دائمة إلى تأمّل مؤشّرات التحوّل الراهنة، و نحاول أن نتعرّف على القوانين الجديدة التي تحكمها، بحيث تتأسّس لدينا رؤية مستقبلية، تفيدنا في توقّع الأحداث، و تساعدنا في الإستعداد لها قبل أن تقتحمنا
راجي عنايــت

Wednesday, November 11, 2009

لماذا يفشل الأذكياء المخلصون ؟

نهضة مصر ( عدد الخميس 25نوفمبر2005 ) راجي عنايــت

..!وسائل منع الفهم
أفكار الأذكياء في مصرلماذا تبدو عقيمة ؟

لن أتكلّم هنا عن الأذكياء من محترفي العمل السياسي الغوغائي، و لا أنتوي الحديث عن الذكاء الانتهازي الذي يسيطر على حياتنا السياسية .. إنّما أتوجّه بالحديث إلى الأذكياء المخلصين لمصر، الجادين في البحث عن مخرج لها من مأزق التخلّف الحالي . فعلى مدى نصف قرن، عايشت المئات من المؤتمرات و حلقات البحث و الدوائر المستديرة، التي جمعت بين العديد من الأذكياء الجادّين، الساعين بصدق لحلّ مشاكل مصر، و البحث عن مستقبل مضيء لها.. و قرأت مئات المقالات الجادة عن هذا في صحافتنا .. لكن الواقع المرير يقول أن خلاصة الآراء و الأفكار و السياسات التي توصّل إليها هؤلاء الأذكياء، جاءت عقيمة، و لم تنجح في تشخيص المشكلة الحقيقية، و رسم الحلول العملية الواقعية .. السرّ وراء هذا كلّه، وسائل منع الفهم التي تشيع في حياتنا الفكرية
وسائل منع الفهم هذه، مصدرها سبب موضوعي، يتّصل بالتغيّرات الجذرية المتسارعة التي يمر بها المجتمع البشري، و التي تنقلنا من واقع و مبادئ و قوانين عصر الصناعة الذي ساد حياة البشر على مدى ما يزيد عن قرنين، إلى واقع جديد نابع من عصر المعلومات و الاتصالات، و له واقعه و مبادئه و قوانينه التي تختلف عن سابقه، بل و تتناقض معه
و سأورد فيما يلي ـ باختصار شديد ـ جانبا من وسائل منع الفهم هذه، و التي تصاحب عملية التحوّل الكبرى التي يمر بها البشر، في جميع أنحاء العالم
ليس المزيد ممّا كان
يعوق فهمنا لما يجري، اعتبار أن الآتي هو المزيد ـ أو الأقل ـ ممّا كان . أي أن الأمر مجرّد تغيّر كمّي، يجوز فيه الخضوع لنفس المبادئ و القوانين التي اعتمدنا عليها، على مدى القرنين الماضيين
و حقيقة الأمر أننا بصدد نسق حياة جديد تماما، تقوم على مبادئ و أسس جديدة في جميع المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية . و الفشل السائد ـ عندنا و في معظم المجتمعات البشرية ـ يرجع إلى محاولة فرض حلول تاريخية على واقع مستجد . فهم طبيعة مجتمع المعلومات الجديد، تفسّر لنا سر المشاكل الحالية المتضخّمة، في الاقتصاد، و التعليم، و الممارسة السياسية، و الإدارة، و الأسرة
تشابك الظواهر
كما يعوق فهمنا، تصوّر أنه من الممكن النظر إلى كلّ جانب، و دراسته بشكل جزئي بمعزل عن الجوانب الأخرى .. كأن يتصور الإنسان إمكان لبحث عن حلول مستقبلية للتعليم، دون معرفة مستقبل اقتصاد عصر المعلومات، و اختلافه
عن اقتصاد عصر الصناعة و هذا هو الخطأ الذي يقع فيه الوزراء بحكم تخصصهم، وهو أيضا الخطأ الذي وقعت فيه لجنة السياسات بالحزب الوطني عندما تصوّرت إمكان حل كلّ مجال على حدة، دون إدراك لتشابك الظواهر المستجدّة

المصطلح كائن حيّ
و من أسباب الخلط، استخدام الكلمات و المصطلحات بمعانيها القديمة، دون الاتفاق عن معانيها الجديدة في ظلّ المجتمع الجديد . كلمة " الديموقراطية " قد لا تعني شيئا في مجتمع قبلي، و لكنها تعني الشورى في المجتمع الزراعي . و قد ابتدعت القيادات الفكرية لعصر الصناعة نوعا جديدا من الديموقراطية، ينسجم مع درجة تعقّد الحياة و تركيبها، أحدث شرخا في جسم سلطة اتخاذ القرار دخلت منه أعداد من الطبقة المتوسطة، لم يسبق لها أن دخلت ذلك المجال، و كانت تلك ديموقراطية التمثيل النيابي . و اليوم، تفقد هذه الممارسة الديموقراطية جدواها في كل أنحاء العالم، و بدأ المفكّرون في البحث عن أشكال للممارسة الديموقراطية تناسب المبادئ و الأسس الجديدة لمجتمع المعلومات، و بدأنا نسمع عن الديموقراطية نصف المباشرة، و ديموقراطية المشاركة، و الديموقراطية التوقّعية
الأيديولوجيات السابقة
من أخطر وسائل منع الفهم، الانطلاق من نظرية أو أيديولوجية أو عقيدة سابقة، نبعت من ظروف مجتمعية تختلف عن الظروف الراهنة . يتّصل هذا بأهم أركان التفكير الناقد، الذي يلزم بمراجعة الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها أي نظرية أو عقيدة أو نظام أو مذهب، للتثبّت من أن تلك الافتراضات ما زالت قائمة و سليمة
مثال ذلك، ما نشهده حاليا من حديث عن السقوط النهائي للاشتراكية، و انتصار الرأسمالية، مع كلّ ما تعانيه الرأسمالية حاليا من مشاكل غير مسبوقة، يستحيل الوصول إلى حلّ لها.. و السبب هو أن الاشتراكية و الرأسمالية هما معا وجهان لعملة واحدة هي المجتمع الصناعي .. و أن هذه العملة ترفع حاليا من التعامل، بعد أن بدأنا الدخول إلى مجتمع المعلومات . النظريات و القواعد التي وضعت لمجتمع رعوي أو قبلي أو زراعي، لا يصحّ أن يأخذ بها أبناء المجتمع الصناعي، و كذلك لا يصح لأبناء عصر المعلومات أن يأخذوا بأي نظم أو نظريات أو عقائد نابعة من مجتمع سابق، إلا بعد التثبّت من أن الافتراضات التي قامت عليها ما زالت سليمة
التغيير متكامل
من الأمور التي تسبب لنا الكثير من الخلط الفكري، و تعوق فهمنا لما يجري حولنا، تناول عنصر واحد من عناصر التغيير، و محاولة تصوّر المسـتقبل من خلال ذلك، دون أن ندخـل في اعتبارنا باقي التغييرات
التي تتبادل التأثير فيما بينها
لا قيمة لجهد أي وزارة من الوزارات، في مجال إعادة البناء من أجل العبور إلى مجتمع المعلومات .. على مدى نصف القرن الماضي، تعددت المشاريع الوزارية في هذا المجال، دون أن تنجح في تحقيق هدفها . في زمن التغيير الشامل الذي نعيشه، لا يمكن لوزير التعليم ـ أي وزير ـ أن يعيد بناء العملية التعليمية دون أن يتم هذا بالتنسيق المحكم مع العمليات المناظرة في الاقتصاد و العمل و الممارسة الديموقراطية
لو نجح وزير التعليم ـ بمعجزة ـ في التحوّل من تعليم التلقين الذي نعتمده، إلى التعليم القائم على التفكير الناقد و الابتكاري، أو التعليم خالق المعرفة .. إذا تم هذا دون أن يتم التحوّل من العمل القائم على العمالة العضلية إلى العمل القائم على العمالة المعرفية، فستكون النتيجة بطالة بنيوية شاملة .. و العكس صحيح . كلك سينهار المجتمع لو أتاح التعليم أجيالا تفكّر و تناقش و تبتكر، بينما بقيت ممارستنا الديموقراطية على حالها من الشكلية و الادعاء لهذا، كنت أقول دائما : لا يكفي أن نحصر مؤشرات التغيير الحالية لنفهم طبيعة الحياة التي نمضي إليها، بل لا بد من أن نفهم جيدا التأثيرات المتبادلة بينها
أهمّية الرؤية المستقبلية
رصد مؤشرات التغيير الحالية التي تمر بها البشرية، ثم محاولة فهم طبيعة العلاقات متبادلة التأثير فيما بينها، هو الذي يتيح لنا أن نتبين معالم مجتمع المعلومات الذي نمضي إليه، و يسمح لنا بوضع رؤية مستقبلية شاملة تفيدنا في فهم حركة الأشياء المركبة، و نحن نعبر من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات
الرؤية المستقبلية، هي التي ستتيح لنا أن نستنبط صورة الحياة القادمة في أي مجال من مجالات حياتنا الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية، دون أي تناقض في تصوّراتنا المختلفة . و هي التي تتيح لنا وضع الاستراتيجية العامة لإعادة بناء مصر، و الاستراتيجيات الفرعية، و الخطط طويلة المدى و قصيرته، و هي التي ستسمح لنا بوضع الأولويات المناسبة لقدراتنا و واقعنا الراهن
* * *
إذا كان هذا الطرح يفيدنا في فهم سر فشل الأذكياء المخلصين من أبناء مصر، الذين يتصدون لطرح الأفكار، و يساهمون في العمل السياسي، أو العام ...فهو يفيد أيضا في فهم حالة الضياع التي يجد فيها الحزب الوطني نفسه، هو و أمانة سياساته .. رغم غياب صفتي الذكاء و الإخلاص في هذه الحالة

Sunday, November 8, 2009

لكل شيء نهاية

نهضة مصر – 22/11/2005 – راجي عنايــت

.. هذه الانتخابات
جعلها الله
آخر أحزان الشعب، و هزائمه

أوشك الحديث عن البرامج السياسية و الوعود الوردية أن ينتهي، لكي يتفرّغ الجميع لمراجعة كشوف المكسب و الخسارة، و الاستعداد لاسترداد كل جهد أو مال بذله حزب أو مرشّح.. و فوقه الأرباح . و لمّا كانت انتخابات هذا العام مكلّفة بشكل استثنائي استهلكت الكثير من أموال الشعب والحكومة و الأحزاب و كبار الرأسماليين و قيادات التيار الإسلامي، شعرت بحتمية وقوع التغيير الجذري .. فدون زعم التنبؤ بالمستقبل، لدي إيمان عميق بأن هذه الانتخابات ـ أيا كانت نتائجها ـ ستكون آخر الأحزان لشعب مصر .. لماذا ؟، لأن أطرافها جميعا قد استنزفوا جميع الفرص التي أتيحت لهم، و استغلوا براءة الجماهير أو سذاجتها أو انكسارها التاريخي، أو صبرها المرضي الطويل .. لكن، لكل شيء نهاية
الأغلبية الصامتة

نحن في أشد الحاجة إلى المعرفة الدقيقة لأساسيات البرامج المستقبلية لمصر، التي تساعدنا على إعادة البناء في جميع المجالات، بجهد مخطط مدروس، يساعدنا على اللحاق بالركب العالمي .. و سنرى أنها تختلف جذريا عمّا يردده دعاة الحزب الوطني و أمانة سياساته، و أيضا مع أي حزب أو تشكيل من التشكيلات التي أفرزتها الصحوة الديموقراطية الموءودة .. و الأمل كبير في أن تستفيد من هذه المعرفة الأغلبية الصامتة المنطوية من فرط يأسها، و الأقلية العاقلة الأمينة في جميع التجمّعات الحالية، و التي لم تتلوّث بعد بالمصالح، أو تغرق في التفكير السياسي الغوغائي .. إنّ ما أطرحه هنا يستهدف جيلا جديدا من أبناء مصر و بناتها، لمسوا فساد الساسة و تخلّفهم، و استندوا إلى معارف لم تكن ميسّرة لمن سبقهم، و أحسنوا استخدام التكنولوجيات المعلوماتية التي أتاحها عصر المعلومات، و أدركوا الحاجة إلى عمليات إعادة بناء جذرية، تحكمها معرفة شاملة بحقائق المجتمع الذي يمضي إليه البشر، مجتمع المعلومات

المسطرة الكبرى

لقد سبق أن قلت هذا و كتبت عنه، على مدى ربع القرن الماضي، لكنّي أتوجّه به اليوم إلى جيل جديد، أكثر حاجة إليه من الأجيال السابقة .. خاصّة و نحن في أعقاب صحوة شعبية، حطمت جميع الخطوط الحمراء، و أذاقت البشر حلاوة القول الصريح، و النطق بما يعتمل في الصدر دون تردد أو خوف .. و أملي كبير في أن يساعد هذا الطرح العلمي على توجيه طاقة هذا الجيل الجديد إلى عمل بنّاء، يتجاوز بنا هوّة التخلّف التي تفصلنا عن الشعوب المتقدّمة

المسطرة الكبرى، تتضمّن مؤشرات التحوّل من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات، أي أنها تحدد طبيعة الحياة الجديدة التي يمضي إليها البشر . لذلك يجب أن تكون هذه المسطرة هاديا لنا عند التصدّي لرسم استراتيجياتنا في أي مجال من مجالات الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و هذه المسطرة لا يمكن أن يتجاهلها أي برنامج إصلاحي لأي حزب أو جماعة أو هيئة تستهدف الانتقال بمصر من وضعها المتخلّف الحالي، و اللحـاق بركب الدول المتقدمة، التي قطعت شوطا في العبور إلى المستقبل .. إلى الحياة في مجتمع المعلومات
في هذا المقال سأطرح مؤشرات التغيّر الأساسية، التي تحكم انتقال البشر إلى عصر المعلومات .. و سأطرحها بتركيز شديد، حتّى يتضح للقارئ بسهولة طبيعة و نوع الهدف الذي يجب أن نسعى إليه، و نحن نخطط لعمليات إعادة البناء الشامل التي نحتاجها .. و لا نحتاج لأقلّ منها
بعد أن ننتهي من ذلك سنكتشف الهوّة الواسعة بين ما نطرحه، و ما تطرحه الحياة السياسية المصرية حاليا، كوسيلة للإصلاح السياسي .. و سنعرف سرّ الفشل المتكرر الذي صادفه الحزب الوطني على مدى عقوده الثلاثة، لانقطاع الصلة بين ما نطرحه و ما يدعو إليه كبرامج شكلية، لا تنجح في إخفاء الرابط الحقيقي الذي يجمع حوله الأنصار : النفعية و الانتهازية و تبادل المصالح

مؤشرات التغيير الكبرى

أهم مؤشرات الانتقال من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات، هي أننا نتحوّل
( 1 ) من سيادة العمل العضلي إلى سيادة العمل العقلي و المعرفي .
( 2 ) من نمطية البشر و محاولة قولبتهم إلى تشجيع التنوّع و التباين بين الأفراد .
( 3 ) من المركزية و اعتماد الهرم البيروقراطي، إلى اللامركزية و اعتماد التنظيمات الشبكية .
( 4 ) من التزامن المحكم، إلى الزمن المرن .
( 5 ) من الاقتصاد القومي، إلى الاقتصاد العالمي .
( 6 ) من التخطيط قصير المدى، إلى الرؤية المستقبلية .
( 7 ) من ديموقراطية التمثيل النيابي، إلى ديموقراطية المشاركة .
( 8 ) من التعليم القائم على التلقين النمطي، إلى التعليم الشخصي و الذاتي و القائم على الابتكار .
( 9 ) من الاعتماد على المؤسسات، إلى الاعتماد على الذات .
( 10 ) من عشق الضخامة، إلى الصغير الأنفع و الأجمل .
( 11 ) انقضاء عمليات الانفصال التي فرضها الاقتصاد الصناعي، بين المنتج و المستهلك، و بين العامل و صاحب العمل، و بين المدخر و المستثمر، و أخيرا بين الإنسان و الطبيعة
( 12 ) من الملكية الخاصّة، إلى الحيازة
من الصناعة إلى المعلومات
بديهي، أن جميع هذه التحوّلات، و غيرها ممّا لم يتّسع له المجال، هي نتاج التحوّل الرئيسي من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات
و هناك ملاحظة هامة، أكررها كثيرا على سبيل الاحتياط، هي أن هذه التحولات ليست أحلاما أو أماني، لكنّها النتيجة الطبيعية لانتقال البشر من عصر لآخر ، و بشكل أدقّ الانتقال من الاعتماد على تكنولوجيا ابتكارية كبرى قامت عليها حياة البشر طوال عصر الصناعة، هي الآلة البخارية و ما تطوّر عنها من تكنولوجيا كهروميكانيكية.. إلى تكنولوجيا ابتكارية كبرى جديدة، هي الكمبيوتر و التحكّم الرقمي و أقمار الاتصال، تقوم عليها حياة البشر في عصر المعلومات

الفرق بين الإصلاح و إعادة البناء

حتّى نفهم بوضوح المحنة التي نحن في وسطها، علينا أن نفرّق بين اصطلاحين " الإصلاح " و " إعادة البناء" .. أو نعي المعني الحقيقي لكلمة ( ريفورم ) الإنجليزية، و التي تعني حرفيا إعادة التشكيل أو البناء، و نترجمها نحن إلى كلمة : إصلاح
الإصلاح، يعني إعادة الشيء إلى أصله .. عندما يتلف شيء في السيارة، و يتعطّل عملها، يستبدل الميكانيكي الجزء التالف بجزء مثيل سليم، فتعود السيارة إلى عملها كما في السابق .. و هذا هو الحد الأقصى لأحلام و أماني و برامج الحزب الوطني، و خطط أمانة سياساته، و كذلك برامج باقي الأحزاب و الجماعات الجديدة التي انبثقت من الآمال القصيرة للمرحلة الأخيرة، و الإصلاح هو غاية أحلام معظم المفكرين و الكتاب الذين ينتقدون الأوضاع الحالية .. الكل يريد العودة بالحال إلى ما كان عليه من عقد أو خمسة عقود .. أو قرن من الزمان كما في أحلام الماركسيين .. أو 14 قرنا كما في حال الإخوان المسلمين

..الخطأ الأكبر

و هذا هو الخطأ الأكبر الذي يقضي على أي أمل في مستقبل معقول لمصرـ و هذه هي نتيجة القصور في تفكير معظم المفكرين الإصلاحيين في مصر، الذين لا يدركون أن الجنس البشري، في كل مكان من العالم و بلا استثناء، يخضع لنظم حياة جديدة، تختلف اختلافا كبيرا عن النظم التي يعتبرها المصلحون هدفا لهم، بل و تتناقض معها في معظم الأحيان ـ و الجريمة الكبرى هي أن ننكر ضرورة و حتمية التصدّي لعمليات إعادة البناء الكاملة، و فق رؤية مستقبلية شاملة، تستوعب واقع مجتمع المعلومات، و طبيعة الخريطة الحضارية الحالية لمصر .. و أن نضيع لوقت في محاولة العودة إلى الوراء، في الوقت الذي يتقدّم فيه البشر بشكل متسارع، كل سنة، بل كل شهر و كل يوم
و قد طرحت جانبا من مؤشرات التغيير التي تنقلنا إلى مجتمع المعلومات، حتّى أوضّح كم نحن في عزلة فكرية عن التطوّر الذي يسود العالم، و كم هو ساذج ذلك البرنامج الذي أعلنه الرئيس مبارك في حملة انتخاب الرئاسة .. و مصدر السذاجة هو تصوّر أن مستقبل مصر سيقف عند حد نهاية حكم الرئيس مبارك

و أعلم أن كلامي هذا ثقيل الوقع على نفوس كافة النشطين في حياتنا السياسية .. لكنني أصرّ على ترديده، لأنّه الحقيقة التي أرجو ألاّ نبدأ في فهمها بعد تكون الفرص قد تبددت

Wednesday, November 4, 2009

ما قبل الإنفجــار

نهضة مصر – الثلاثاء 3/1/2006 – راجي عنايــت

هل يتنازل النظام
عن نسبة من سلطة اتخاذ القرار؟

بعد أن اضطرّ النظام الحاكم إلى الكشف عن رفضه البات لمشاركة أي فئة من الشعب، من خلال نظام ديموقراطي مزيّف انتهت صلاحيته .. هل يعقل أن يقبل بالتنازل عن نسبة من سلطة اتخاذ القرار لمستويات و فئات من الشعب، رأسيا و أفقيا ؟
"هل يجوي أن أتحدّث عن طبيعة الممارسـة الديموقراطية لعصر المعلومـات، أعني بذلك " ديموقراطية المشاركة" لنظام يرفض التغيير شكلا و مضمونا
ما الذي يرغم هذا النظام الحاكم الذي تكلّست فقراته، على أن يتحرّك، و لا أقول أن يغيّر شيئا ؟ , لقد رسب في وعي الحاكم ـ لطول ما التصق بكرسيه ـ أنّه قدر مصر !! . فما هي الظروف الموضوعية التي تتيح التغيير ؟

مصر و دوامة الضغوط

المعروف علميا أن النظام ـ أي نظام سواء كان دولة، أو مؤسسة، أو جسد بشري، أو مركّب كيميائي ـ يتغيّر وفقا للضغوط الداخلية و الخارجية التي يتأثّر بها . و عندما تتزايد الضغوط الخارجية و الداخلية إلى حد معيّن ينفجر النظام، و ينتهي . و البديل الوحيد للانتهاء و التلاشي، هو وجود رؤية بديلة، تساعد النظام أن يتغير جذريا، و يعيد بناء نفسه بطريقة تسمح له بمواجهة الضغوط القوية : إذا كانت لدى القارئ أية حساسية سياسية، أو كان من كذبة ـ أقصد كتبة ـ الصحف الحكومية، فعليه أن يتصوّر حديثنا هذا يدور حول أحد المركبّات الكيميائية، و ليكن كلوريد الصوديوم، و ليس النظام الحاكم المصري
و مصر، في السنوات الأخيرة، أصبحت نموذجا لتواطؤ الضغوط الخارجية مع الضغوط الداخلية .. و هذا هو ما يهدد الكيان المصري، و المستقبل المصري و ليس النظام المصري فقط . وهذا هو ما يدفعنا إلى ضرورة تبنّي رؤية مستقبلية بديلة لإعادة بناء مصر، و ضرورة أن تتكاتف جميع القوى المخلصة الفاهمة، لإرساء أسس تلك الرؤية المستقبلية، ثم فرض الشكل الأمثل لتحقيقها
الرؤية المستقبلية لمصر، و التي أتحدّث عنها تختلف تماما عن الاستراتيجيات و الخطط التي ترسمها الأجهزة الأمريكية، و التي نقرأ عنها في أدبيات وزارة الدفـاع الأمريكية (راند )، ومجلس الاستخبارات
القومي الذي يضم كافة أجهزة المخابرات، أو موقع مشروع القرن الأمريكي الجديد، أو في مطبوعات المحافظون الجدد،و مجلة الويكلي استاندارد .. لقد درست هذه الجهات الأمريكية أيضا احتمالات التغيير في دول الشرق الأوسط، غير أن الهدف الذي يعلنونه بصراحة، هو المحافظة على مصالحهم ـ و ليس مصالحنا ـ في المنطقة

العزلة تعني الانتحار

و الرؤية المستقبلية لمصر، رغم انطلاقها من الواقع الحالي المتردّي، تنبع من الرؤية المستقبلية للجنس البشري، في توجّهه إلى مجتمع المعلومات .. هذه حتمية ستعم الجميع، بمن في ذلك دعاة العودة 14 قرنا إلى الوراء . الانعزال كان ممكنا في أوج سيادة عصر الصناعة، لكنّه الآن يعني الانتحار
مجتمع المعلومات له محدداته في المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، علينا أن ندرسها و نفهمها، حتّى نحقق القصد في تفكيرنا .. ومن بين أهم أسس الممارسة السياسية في مجتمع المعلومات، التحوّل من ديموقراطية التمثيل النيابي، إلى شكل جديد من الممارسة السياسية، يتوافق مع حياة البشر في مجتمع المعلومات , لكن هذا التحوّل الكبير، شأنه شأن التحولات الكبيرة الأخرى، يجب أن يتم تطبيقها بشكل متجانس، و بتوقيتات سليمة، وفقا لاستراتيجية نابعة من الرؤية المستقبلية التي نتحدّث عنها
بكلمات أخرى، لا يمكن تطبيق ديموقراطية المشاركة، إلا في ظل تعليم و إعلام ينشدان إحياء العقل و التفكير و الابتكار، و احترام اختلاف الفرد عن الآخرين، و يشيعان منطق المشاركة في جميع مراحل و جوانب الحياة . ( و هذا هو عكس ما كان يتطلبه عصر الصناعة من الاعتماد على التلقين و القولبة ) . أيضا في ظل اقتصاد حرّ لا تحتكره الحكومة، و يمضي وفق محددات جديدة تماما، اقتصاد رمزي، يعتمد على نقود رمزية .. اقتصاد قادر على التعامل مع الطبيعة الخاصّة للمعلومات، و على تعلية قيمتها بالنسبة للسلع و الخدمات

تحذير واجب

لا بد هنا من طرح تحذير واجب، فيما يتصل بقدرة كهنة الحكم على استهلاك المصطلحات، و العبث بالكلمات بهدف التضليل و التزوير .. و إليكم مجالات التحرّك نحو ديموقراطية المشاركة
أولا
عشرون عاما مضت و أنا أكتب عن ضرورة إعادة بناء التعليم في مصر، وفق احتياجاتالمعلومات .. كتبت عشرات المقالات و الكتب، و تكلّمت في الإذاعة و التلفزيون، و حاضرت في مجتمعات تضم العديد من رجال التعليم .. و دخلت في حوارات و معارك مع وزراء التعليم المتعاقبين، و كان نصيبي حلو الكلام و المهادنة، كما كان الحال مع د. فتحي سرور و د. جمال الدين، و الحرب المسعورة على يد د. حسين كامل بهاء الدين . و النتيجة : لم يتغيّر شيء، التعليم
الحالي عندنا، في مختلف المراحل، من المرحلة الأولى و حتّى التعليم العالي، لا يوصف فقط بالتخلّف أو الانحطاط، بل هو في واقع الأمر جريمة في حقّ مصر، و حق الأجيال القادمة، التي ستجني ثمار التخلّف و البطالة التي ارتضيناها
ثانيا
الحكم المحلّي، على مختلف المستويات، هو آلية ديموقراطية المشاركة الأساسية، و منذ سنوات طويلة و نحن ندّعي إقامة حكما محليّا، و كل ما فعلناه أن أقمنا وكالات للحكم المركزي، سلمنا أمرها لعشرات من ضباط الشرطة معظمهم كان فاسدا، أو أفسد بحكم طبيعة العمل . و جعلنا الحكم المحلّي من العاصمة و حتّى القرية، مكاتب فرعية لمكتب السيد كمال الشاذلي، يدير بها أي انتخابات لحساب الحاكم
ثالثا
الحكم المحلّي المطلوب في ديموقراطية المشاركة، يكون لحساب إشاعة الحس الديموقراطي، و زرع فكرة حرية الاختيار، على مختلف المستويات .. و هو يعمل لحساب الموقع، و يتخذ القرارات المناسبة في حدود الاختصاص، وفقا للاستراتيجية العامة للدولة، و دون ضغوط من أعلى .. هو حكم لحساب الشعب في القواعد و على مختلف المستويات، و ليس سلطة تعمل لحساب الحاكم في العاصمة
رابعا
فكّ حصار الدولة عن نشاط منظمات المجتمع المدني، هو ضمان التمهيد لديموقراطية المشاركة . غير أن مجموعات العمل المدني التي أعنيها، تختلف عن التي نعرفها حاليا و تقصر نشاطها في مكاتب و صحافة و استديوهات تلفزيون و إذاعة القاهرة . مجموعات العمل المدني المطلوبة تكون في القرى و المراكز و الأحياء، تتدرّب على فهم مصلحة النطاق الذي تتحرّك فيه، و على حمايته من نفوذ كلّ من له نفوذ، و تساعد الجمهور المحدود على اتخاذ القرارات النافعة له
خامسا
إذا كان الكلام السابق يشير إلى التمهيد لعملية الهبوط بنسبة من مسئولية اتخاذ القرار، من قمّة الدولة إلى قواعدها، بشكل رأسي، فهناك أمر آخر يتّصل بتوزيع نسبة من مسئولية اتخاذ القرار أفقيا هذه المرّة . و قد نعود إلى شرح هذا بالتفصيل مستقبلا، لكن مجمل القول أن ديموقراطية التمثيل النيابي، التي ابتكرها الآباء الأوائل لعصر الصناعة، جاءت متأثّرة بمنطق الأشياء في عصر الزراعة السابق له، لهذا لم يكن بإمكانهم إقامة نظام ديموقراطي بعيدا عن التوزيع الجغرافي ( و هو ما نطلق عليه اليوم الوحدات الانتخابية ) . لكن الأمر يتغيّر حاليا
سادسا
ديموقراطية المشاركة، تحتمل التوزيع الأفقي لجانب من عملية اتخاذ القرار، بتعميق الممارسة الديموقراطية في الاتحادات و النقابات و الهيئات العلمية و الجامعات، و تصعيد حصيلة تلك الممارسة، أو صفوتها، إلى المستوى الأعلى للتشكيلات الديموقراطية في الدولة، لتشارك بنسبة معينة الصفوة المصعّدة من التشكيلات الرأسية

* * *

أمامنا احتمالان : أن يفهم النظام الحاكم طبيعة التغيرات المتسارعة التي تحاصره، و يمهّد طوعا للتغييرات الأساسية، التي لابد أن تعني انسحابه في مرحلة معينة .. أو أن يمضي فيما هو فيه، معاندا و متجاهلا جميع الضغوط المتزايدة، باعتبار أن ربنا كريم

Saturday, October 31, 2009

اللامركزية هي سبيل مشاركة الشعب

نهضة مصر – الثلاثاء 20/12/2005 – راجي عنايــت

الحل هو : اللامـركزيـة
و ليس أحزابكم أو تياركم الإسلامي

التوليفة الحزبية التي تصورها السادات، و التي قامت على حزب النظام، و مجموعة من ديكورات الأحزاب التي حرص على جعلها عاجزة عن مناطحة حزب القائد .. هذه التوليفة بأحزابها التي تفتقد جميعا أي رؤية مستقبلية لمصر.. ثبت فشلها، و تأكّدت عزلتها عن جماهير شعب مصر
و بصرف النظر عن أسباب هذا الفشل العام .. هل هو رغبة النظام في مواصلة السيطرة، بأي ثمن، حفاظا على مكاسب و مواقع كهنته و أذيالهم، أم هو ضعف و عجز الأحزاب الأخرى، فالثابت أننا جميعا: النظام، و توابعه الحزبية، و المعارضة الحقيقية، و الشعب، في مأزق كبير .. أهم دلالاته، أن الجماعات ذات المرجعية الدينية التاريخية، الأكثر عزلة عن واقع التطور البشري، و القائمة على النقل و إلغاء غلبة العقل، قد تحرّكت لتملأ الفراغ الرهيب الذي خلقته هذه الأوضاع .. و هي في هذا تستند إلى حقيقة لا بد أن نعترف بها، مهما كانت قسوتها، و هي حالة الأنيميا الشديدة في الوعي و الخبرة السياسية الشعبية، لدى جانب كبير ممّا نطلق عليه ـ أحيانا ـ الأغلبية الصامتة من الشعب المصري

عندما راحت السكرة

عندما أسدل الستار على آخر معارك الانتخابات البرلمانية .. راحت السكرة، و جاءت الفكرة .. ملأت صفحات الجرائد ـ غير الحكومية في الأغلب ـ مقالات و آراء و استفتاءات تدور كلّها حول سؤال واحد هو : و ماذا بعد ؟ . حرصت على متابعة معظم ما كتب .. و مع كل النيات الطيبة، أحسست أننا لم نتعلّم الدرس، و عدنا إلى ترديد نفس ما كنّا نقوله من قبل، رغم أنه لم يصل بنا إلى شيء
تراوحت المعاني التي طرحها الكتاب و الساسة و المفكرون بين عدة أشياء ( و لن أذكر الأسماء فليس الغرض هو الانتقاد، بل تأمّل الأوضاع )
اولا : حالة اليأس الكامل، و التهديد بالكوارث و النوازل .
ثانيا : دعوة أحزاب المعارضة إلى مراجعة نفسها .
ثالثا : أو الدعوة إلى حزب أو أحزاب جديدة .
من البديهي أنني أرفض سبيل اليأس، و إلاّ كنت يئست من عشرين سنة على الأقل ! . كما أن دعوة أحزاب المعارضة الحالية لتجديد نفسها و تنقية برامجها، إلى آخر ذلك الكلام، هو نوع من التفاؤل الكاذب، فهذه الأحزاب شأنها شأن الحزب الوطني الديموقراطي قد فقدت مبررات وجودها . و أعتقد أن دعوة تجديد الذات ليست موجّهة إلى الإخوان المسلمين، فهم قد نجحوا حيث فشل الآخرون، و ليس ببعيد أن يطالبوا هم الأحزاب بأن تعيد التفكير في مرجعياتها . يبقى لدينا بعد ذلك، الدعوة إلى تشكيل حزب جديد

!حزب لم يولد بعد
طرح فكرة الحزب الجديد اكثر من كاتب، لكن الوحيد الذي تكلّم بشيء من التفصيل، كان الأستاذ مجدي الجلاد، رئيس تحرير (المصري اليوم)، فقد كتب في العاشر من هذا الشهر، تحت عنوان الحزب الذي لم يولد، و سأستخلص من كلامه تصوّره لذلك الحزب
أولا : يجمع المستقلّين الذين رفضوا الأحزاب القائمة، فكانوا الأكثر فوزا بالمقاعد
ثانيا : يستوعب الغضب تجاه الحكومة، و يمتصّ (!) الرفض الشعبي للحزب الحاكم
ثالثا : يمتلك رؤيـة وطنية للإصلاح، و برنامجا سـياسيا واعيا . و زعـامات تختلف عن ( سحن) زعماء المعارضة الحاليين
رابعا : يأخذ من "الوطني" ثراءه و إمكاناته، و من "الوفد" ليبراليته و عراقته (؟)، و من "اليسار" ثقافته و حكمته، و من "الإخوان" تنظيمهم و جماعيتهم
مع غرابة هذا المونتاج السياسي، و بصرف النظر عن استحالة تحقيق هذا المخلوق الخرافي، قريب الشبه بمخلوقات الأساطير اليونانية، فجميع المواصفات التي طرحها الأستاذ مجدي، تدخل في باب الأماني و الأحلام .. تماما كالأماني و الأحلام التي أراد الرئيس حسني مبارك أن يزغللنا بها في برنامجه السياسي الطريف . و حتّى لا أظلم الأستاذ الجلاد، أقول أنه في هذا فعل ما فعله جميع الذين طالبوا بحزب جديد، فتكلّموا عن آمال و أحلام، لا تعتمد على أي رؤية مستقبلية حقيقية لمصر
الكلام المفيد

نحن أمام نقيصتان أساسيتان نحتاج إلى دراستهما لكي نستطيع إرساء حياة ديموقراطية نافعة للشعب المصري جميعه، تعبر بنا في أمان إلى عصر المعلومات الذي نزداد غربة عنه يوما بعد يوم، و هما
الأولى : أن الحزب الوطني و باقي أحزاب المعارضة، و الحركات الإيجابية التي تفجّرت وسط حالة الفوران الشعبي، مثل "كفاية" و باقي الحركات التي تستهدف التغيير، و الحزب الجديد الذي يحلم به البعض، كلّها مقطوعة الصلة بأيّ رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تقوم على
ـ رصد أمين لخريطتنا الحضارية الحالية، إلى أي مدى تحكمنا العقلية الزراعية، و إلى أي مدى تسيطر علينا العقلية الصناعية، و إلى أي حد استطعنا أن نقتحم مجتمع المعلومات
ـ الفهم الواضح لطبيعة التحوّل الحالي الذي يمر به البشر جميعا في أنحاء العالم، من حياة الصناعة إلى حياة المعلومات، و طبيعة الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي يقودنا إليها ذلك التحوّل
الثانية : أن الضوضاء السياسية و الصخب الانتخابي، و عمليات تقسيم الغنائم و المكاسب، من خلال انعدام الشفافية و غلبة الجشع و الفساد بين المسئولين .. كل هذا يدور في الواقع بين 20% على الأكثر من أبناء مصر، بينما الجسم الأعظم من شعب مصر، في عزلة كاملة عن هذا الذي يجري
التخلّف إشكالية كبرى

معظم أبناء الشعب المصري، ليست لهم أيّة علاقة بما يجري، سوى رشاش من رشاوى المرشحين، أو وقف حال و أضرار من جراء نشاط الأمن المصري العتيد
و الشعب المصري لا يعي شيئا ممّا يجري، و قد أرغمته النظم الحاكمة المتعاقبة، قبل الثورة و بعدها، على أن يبقى دون الحد الأدنى من النضج السياسي المطلوب .. هذه حقيقة يجب أن نعترف بها، تمهيدا لمواجهتها . و أذكر أن ضجّة ثارت عندما أشار رئيس الوزراء إلى هذه الحقيقة، و اتّهمته بعض الأقلام بالاستعلاء . و رغم تباين الدوافع بيني و بين الدكتور نظيف، لكن الحقيقة تكمن في وجود هذا العجز، الذي يمنع منعا باتا قيام أي نظام ديموقراطي حقيقي صادق فما هو الحل في مواجهة هذه الإشكالية الكبرى ؟ .. لو أننا استبدلنا شياطين العمل السياسي، من المزوّرين و الكاذبين و النهابين و الانتهازيين، و استطعنا تدبير انتداب مؤقّت لمجموعة من الملائكة الأبرار الأطهار ( طبعا عن غير طريق الإخوان المسلمين)، و أجرينا انتخابات على أساس الممارسة السياسية التي نأخذ بها، أعني ديموقراطية التمثيل النيابي، التي تعتمد على توكيل الجماهير لعناصر من النخبة، تنوب عنها في اتخاذ القرارات التي هي في صالح الجماهير ( .. لو أمكن تحقق هذه المعجزة، فستظل النسبة الأعظم من شعب مصر مستبعدة من عملية اتخاذ القرار ...
ما العمل إذا ؟ .. لا تضيقوا بي إذا قلت أن المطلوب ليس هو العمل، بل الفهم الواضح، قبل أي عمل أو إجراء

المشاركة = اللامركزية

لو فهمنا المعارف الأساسية عن عملية التحوّل التي يمر بها الجنس البشري، لأدركنا الحقائق التالية، التي يمكن أن ترشدنا على طريقة مواجهة هذه الإشكالية
أولا
ديموقراطية التمثيل النيابي، نبعت من احتياجات و طبيعة و مبادئ مجتمع الصناعة
ثانيا
هذه الديموقراطية تقوم على مبدأ المركزية الممعنة الذي ساد الحياة الصناعية
ثالثا
رغم أن هذا النوع من الممارسة السياسية كان ـ في وقته ـ خطوة ديموقراطية كبيرة، إلا أنه منذ البداية، لم يحقق الآمال المعقودة عليه . مع تضخّم عيوبه بانقضاء مبادئ عصر الصناعة، و بزوغ مبادئ جديدة، نابعة من طبيعة عصر المعلومات
رابعا
كانت المركزية من أهم مبادئ عصر الصناعة، غير أن ثورة المعلومات بددت أهمية هذا المبدأ، و أصبح الأرجح أن نعتمد على اللامركزية في تصميم نشاطاتنا
خامسا
اللامركزية أصبح لها تطبيقات مختلفة في مؤسسات عصر المعلومات، و كانت ترجمتها في مجال الممارسة السياسية هي " ديموقراطية المشاركة "، التي يشارك فيها المواطنون بأنفسهم في اتخاذ القرارات في كل ما يمس حياتهم مباشرة، و دون إنابة أو توكيل أحد
سادسا
هذا التحوّل في طبيعة الممارسة السياسية جاء نتيجة للتحوّل الذي طرأ على الفرد بوصوله إلى التكنولوجيات المعلوماتية المتطورة، الأمر الذي جعله عارفا بكثير من الأمور، بما يسمح له أن يساهم في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياته : و من هنا وجب أن نفهم الثورة المطلوبة في مجال التعليم حتّى يتحقق هذا عندنا .. أن نعرف التحدّي الحقيقي الذي يواجهنا : ليس فقط محو الأمية التقليدية، و لكن أيضا محو الأمية الإلكترونية
سابعا
ديموقراطية المشاركة، بطبيعتها، تقوم على تبنّي منطق مجتمع المعلومات في مجال الإدارة . و هي تقتضي إعادة ترتيب التسلسل الجماهيري الرأسي من القرية و القسم، و حتّى القمّة ( و هذا يحتاج منّا إلى فهم جديد للإدارة المحلية و الحكم المحلّي لحساب الشعب، و ليس لحساب أمن النظام الحاكم
* * *

أعرف أن هذا الكلام يختلف كثيرا عمّا يتردد في وسائل إعلامنا، و قاعات محاضراتنا، و جامعاتنا، لكنه الكلام العملي المطلوب لمواجهة الإشكالية الأهم في حياتنا.. إشكالية إشراك الشعب في تحديد مصيره

Thursday, October 29, 2009

مستقبل مصر

نهضة مصر – الثلاثاء 29/11/2005 – راجي عنايــت

أين الخطر الأكبر
على مستقبل مصر ؟

أطرح هذا السؤال بمناسبة التحذير الذي تكرر في وسائل الإعلام من مخاطر الصعود غير المتوقّع لجماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية الحالية .. و أدعو إلى أن نفيق من دوامة الانحطاط غير الديموقراطي الذي فرضته علينا انتخابات الرئاسة و البرلمان، و أن نفكّر بشكل جاد، لنعرف من الذي يشكّل ـ بحق ـ الخطر الأكبر على مستقبل مصر:الإخوان المسلمون، أم الحزب الوطني، أم الأحزاب الوهمية الأخرى، و التي لا يعلق بالذاكرة سوى القليل منها

لقد أوضّحت من قبل
أن البشر ـ في جميع أنحاء العالم ـ على مشارف نسق جديد من الحياة، يختلف اختلافا شديدا عن النسق الذي عرفوه، و رتّبوا شئون حياتهم وفقا لمتطلباته، على مدى ما يزيد عن قرنين من الزمان، طوال عصر الصناعة
و أن الانتقال من حياة مجتمع الصناعة، إلى حياة مجتمع المعلومات، يقتضي إعادة بناء معظم ما تعارفنا عليه في مجالات حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و أنّ هناك خطأ متكررا في حديث الجميع .. الحزب الوطني و أمانة سياساته، و الأحزاب السياسية الأخرى، و الجماعات و التشكيلات الجديدة التي نبتت من جوف الفوران السـياسي الحالي .. هذا الخطأ يكمن في الاستخدام الدائم لكلمة ( الإصلاح )، في البرامـج أو المطالب التي يجري طرحها · لقد سبق أن أوضحت معنى الإصلاح، و عدم جدواه بالنسبة لمستقبل مصر، الذي يقتضي القيام بعمليات إعادة بناء شاملة، وفقا لواقع الحياة في عصر المعلومات . الإصلاح يعني العودة بالنظام إلى وضعه الأصلي، قبل أن يفسد و يقتضي الإصلاح . و هو أمر قد يفيد على المدى القصير جدا، لكنه يكون ضارا بمستقبل مصر · أفضل ما تمخّضت عنه القرائح في برامج الأحزاب و الجماعات، لا يخرج عن أحد أمرين، إصلاحات متفرّقة في محاولة للعودة بالراهن إلى ما كان عليه الحال من قبل، أو أماني و أحلام لا تنبع من رؤية مستقبلية واضحة
الواقع المرير
انتهينا من البرامج والأحلام، و واجهنا الواقع المصري المرير . و بدأ الحزب الوطني في ارتكاب كلّ ما يخطر على البال من الخطايا
· استخدام القوّة المفرطة، انطلاقا من الرصيد التاريخي لوزارة الداخلية، بالإضافة إلى قواتها الخاصّة الجديدة من المسجلين و المسجلات خطـر، و حملة السيوف و الخناجـر و السواطير و النبابيت، و الاعتماد على هذه القوات الخاصّة في إرهاب المرشحين و الناخبين من غير جمهور الحزب الوطني، بالإضافة إلى إرهاب القضاة، و خطف و حرق صناديق الانتخاب
الضغط على ضعاف النفوس من عناصر الإشراف القضائي على العملية الانتخابية، من القضاء الجالس و الواقف، و المنتظر الثمن على ركبة و نص ! .. و بالمناسبة القضاة ليسوا أنبياء منزّهين عن الخطيئة و المطامع، بالضبط كما يوجد بين رعايا صاحبة الجلالة الصحافة عملاء للنظام الحاكم، أو من نطلق عليهم تعبير "الخدم السايرة" .. و أمامنا باقة منهم جلست حديثا على مقاعد من سبقهم في الصحف و المجلات الحكومية
تغيير النتائج إلى العكس تماما ـ بكل البجاحة السياسية غير المسبوقة ـ و بقرارات علوية، يوقظ من أجلها المسئولين من " أحلاها نومة " ! . و على المتضرر اللجوء إلى الله ( باعتبار أن القضاء في مأزق حاليا ) .. أو إلى الإخوان المسلمين
و النتيجة أن يسلك المرشحون من أحزاب أخرى نفس مسلك الحزب الرائد للحفاظ على حقّهم .. و يتبدد الأمل في انتخابات نظيفة و صادقة نهائيا
أوكازيون الإخوان المسلمين

ماذا حدث بعد كل هذه الجهود غير المباركة من جانب الحزب و الحكومة .. خرج الإخوان المسلمون من القمقم الذي أحكمته عليهم السلطة طويلا .. هذه اللعبة الخطرة مارسها من قبل الرئيس المؤمن أنور السادات، عندما حرّض التيار الإسلامي على اليسار المصري في الجامعة، و انتهت اللعبة و حياته معا بمأساة المنصّة
و بصرف النظر عمّا تتمخّض عنه النتائج النهائية لهذه الانتخابات المشئومة .. و بصرف النظر عمّا يمكن أن يحدث لو نجح الإخوان في الحصول بأنفسهم، أو من خلال تربيطات، على ما يزيد على ثلث مقاعد مجلس الشعب، و سواء تحالف معهم النظام الحاكم، أم اضطّر إلى أن يقلب المنضدة على الجميع بإلغاء هذه الانتخابات نهائيا، طارحا اختراعا جديدا ( على فرض أن الولايات المتحدة ستقبل هذا، ردا لجميل النظام الحاكم و خدماته العلنية و السرّية لأمريكا ) .. بصرف النظر عن كلّ هذا، فالحقيقة أن الشعب المصري أصبح واعيا بالهوّة التي يتردّى فيها الحزب الوطني، جديده و قديمه
و كانت النتيجة أن تحققت مكاسب الإخوان المسلمون، بفضل التصرفات الخرقاء للحزب الوطني، و بفضل الضعف و الهزال الشديد للأحزاب الأخرى، و الذي هو نتيجة مشتركة لتآمر الحزب الوطني و لعدم قدرة تلك الأحزاب على مواجهة ذلك التآمر
من هو الأخطر

و الآن .. دعونا من كل هذا، و لنسأل أنفسنا : من هو الذي يشكّل الخطورة الأكبر على مستقبل مصر من حيث ما يسير عليه من عقيدة أو أيديولوجية ؟ .. هل هو الحزب الوطني، أم الإخوان المسلمون، أم الأحزاب الأخرى ؟
الحزب الوطني مع كل أوراقه القديمة و الحديثة، التي يضمّها موقعه على الإنترنيت، لم يقم على أيديولوجية أو عقيدة أو فكر ما .. لقد اخترعه أنور السادات، فتدافعت إليه أكثر العناصر انتهازية في مصر، و نبعت قوّة الحزب منذ ذلك الوقت و حتّى الآن على تبادل المنافع و المصالح بين النخبة الحاكمة و قيادة الحزب .. ومع هذا فإن الحزب الوطني على مدى ثلاثة عقود، لم يفعل سوى تخريب الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية
و بهذا، يمكننا إخراج الحزب الوطني من القائمة، و استبعاد أي خطورة من جانبه على مستقبل مصر، باعتباره قد فقد مصداقيته بعد أن كشف أوراقه كاملة بممارساته العلنية، التي شهدها المصريون جميعا .. و الأرجح ألاّ بجد بعد اليوم المساندة التي كان يستمتع بها من الخارج
· لا يوجد بين باقي الأحزاب من بمكن اعتبار أنّه يقوم على أيديولوجية سوى حزب التجمّع . فحزب الوفد ينتسب إلى حدث تاريخي، في ظل تركيبة مجتمعية لم تعد قائمة . و الحزب الناصري، قد يزعم الاستناد إلى العقيدة الناصرية، لكن المشكلة هي أن الناصرية تجربة و ليست عقيدة، جرت في ظل العقود الأخيرة لسيادة المجتمع الصناعي . و على أي حال فإن الضعف الشديد لهذه الأحزاب، يسقط أي تخوّف منها في الحاضر أو المستقبل

عقيدة التجمّع، الماركسية، يرجع تاريخها إلى بدايات عصر الصناعة، و مرجعيتها تعود إلى ما يقرب من ثلاثة قرون ... و قد انقضت مصداقيتها، هي و الرأسمالية، باعتبارهما معا وجهان لعملة واحدة، هي صالح الاقتصاد الصناعي الذي تراجع منذ منتصف القرن العشرين مفسحا السبيل لاقتصاد المعلومات

· لم يبق لدينا سوى ( البعبع )، أو جماعة الإخوان المسلمين .. و التي تعود مرجعيتها إلى ما يقرب من 15 قرنا قرب نهايات عصر الزراعة، فيما قبل التحوّل إلى مجتمع الصناعة، و إلى مجتمع المعلومات، و كل من هذين العصرين له أسسه و مبادئه و نظمه و قيمه الخاصّة به و التي تختلف عن مثيلاتها في عصر الزراعة
و نحن نتّهم الإخوان المسلمين بالتقية، و أنهم يعلنون غير ما يخفون، بالنسبة لبرامجهم و سياساتهم .. فنظلمهم بذلك، لأنّهم ـ فعلا ـ لا يعرفون لهم أي ضرب من البرامج أو السياسات، سوى تلك القائمة على المرجعية الضاربة في أعماق التاريخ