Monday, November 16, 2009

مستقبل مصر

العالم اليوم ـ السبت 28 يونيو 1997

.. كيف تدخل مصر
مجتمع المعلومات ؟

في مصر .. تغيّر الوضع كثيرا عمّا كان عليه، يوم أن بدأت الحديث عن المستقبل و عن ثورة المعلومات و مجتمع المعلومات، منذ أكثر من 15 سنة . لقد أصبحنا أكثر وعياً بالتغيّر الجذري الذي يؤثّر على حياة البشر في هذه المرحلة . و التكنولوجيات المعلوماتية التي كنت أشير إليها كمستحدثات مستقبلية، تثير الإندهاش، قد أصبحت في كثير من المجالات أمراً واقعاً محسوساً . و دخول هذه التكنولوجيات المعلوماتية المتطوّرة إلى حياتنا، جعل من السهل علينا أن نتفهّم ما كنت أكتبه طوال هذه السنوات عن مجتمع المعلومات، و عن أسلوب الحياة الجديد الذي يفرضه الدخول إلى مجتمع المعلومات، و الذي يؤثّر على كلّ شيئ في حياتنا، الإقتصاد و الأسرة و التعليم و الإدارة و الممارسة السياسية و الثقافة و القيم
و من ناحية أخرى، هناك الجانب السلبي لهذا التغيّر، متمثّلاً في إستخدام الساسة، في الحكومة والمعارضة، و في مجالات الدعاية الإعلامية، لمفردات و مصطلحات هذا التحوّل، لتحقيق أهداف سياسيّة و دعائية قصيرة المدى . نشهد ذلك في نصوص الخطط الحكومية، و في التصريحات اليومية للوزراء و المسئولين، و في كتابات الصحفيّين، ممّا يفرغ هذه المفردات من محتواها، و يثير البلبلة في عقول الذين يسعون إلى فهم الواقع الجديد

خريطة مصر الحاليّة

لقد تحدّثت كثيراً، على مدى هذه السنوات، عن طبيعة التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات، و عمّا يقتضيه هذا التحول من عمليات إعادة بناء في جميع المجالات . و إذا أسقطنا ما نقرأه و نسمعه كلّ يوم من دعايات غير صادقة، عن الطفرة التي حقّقتها التكنولوجيا المصريّة، و عن المكانة غير المسبوقة للإقتصاد المصري، و عن الثورة التي حدثت في النظم التعليمية و التي تنقلنا إلى تعليم عصر المعلومات .. إذا أسقطنا هذا كلّه، أصبح بإمكاننا أن نصل إلى نظرة واقعية أمينة للخريطة المجتمعية الحالية في مصر . التأمّل الأمين للأرض التي نقف عليها، هو السبيل لرسم المسار العملي الذي يساعدنا على تجاوز تخلّفنا، و اللحاق بركب التحوّل إلى مجتمع المعلومات
مصر، و الدول النامية بشكل عام، تختلف في خريطتها المجتمعيّة عن الولايات المتّحدة، و العديد من الدول الأوربية، و اليابان، أعني بذلك الدول التي إستكملت طور الصناعة، و خضعت منذ عشرات السنين لمقتضيات مجتمع الصناعة

تتشابك على أرض مصر اليوم ثلاثة أنساق مجتمعية . فالخريطة المجتمعيّة لمصر تتكوّن من الآتي

أولا : بقايا قويّة لمبادئ و أسس و ممارسات و قيم المجتمع الزراعي
ثانيا : دخول غير مكتمل إلى مبادئ و أسس و قيم المجتمع الصناعي
ثالثا : إرهاصات غير مترابطة لإقتحام مبادئ و أسس و قيم مجتمع المعلومات
ماذا يفعل صانع القرار ؟

ماذا يفعل صانع القرار في مواجهة هذا الوضع ؟
على صناع القرار، في القيادة و على مختلف المستويات، أن يدخلوا في إعتبارهم عدّة أمور أساسيّة، إذا ما عزموا على دخول مجتمع المعلومات، و اللحاق بالدول التي سبقتنا، و مواجهة الواقع الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي الذي تفرضه العولمة .. جلوباليزم

(1)
إسقاط فكرة السعي إلى تقليد و محاكاة مراحل التطوّر التي إجتازتها الدول الصناعية المتطوّرة، فإنّ مثل هذا التوجّه لا يعني سوى تأخّرنا عن ركب الدخول إلى مجتمع المعلومات، و إستمرار تخلّفنا
(2)
محاولة تحسين ظروف مصانعنا القائمة و تطويرها، بحيث تصبح أقلّ تلويثاً للبيئة، و أكثر إعتماداً على التكنولوجيات المعلوماتية المتطوّرة، و على العمالة العقلية أو المعرفيّة المتطوّرة
(3)
عند إنشاء المصانع الجديدة، يجب تغليب التوسّع في الصناعات الصاعدة، ذات القيمة المضافة العالية، كالصناعات الإلكترونية، و صناعات هندسة الجينات، و البتروكيماويات المتطوّرة، و أشباه الموصّلات . و عدم قبول المصانع القديمة، التي تسعى الدول المتطوّرة إلى التخلّص منها، و التي تقود إلى تكريس بقاء العمالة المصريّة عند مستوى العمالة العضلية
(4)
الخطوتان السابقتان تقودان إلى تفاقم مشكلة بطالة جديدة، يطلق عليها البطالة البنيويّة، الأمر الذي تعاني منه حاليا جميع الدول الكبرى المتطوّرة . و هذا يقتضي التركيز الشديد على نشاط التدريب و إعادة التأهيل، لتسهيل تشغيل العمالة التقليدية في الصناعات الجديدة . علما بأن صناعة التدريب و التأهيل هذه يمكن أن تحل جانبا من مشكلة البطالة بالنسبة للعاملين فيها
(5)
و أيضا، في مواجهة البطالة المتزايدة، لابد من تطوير قطاع الخدمات، لخلق وظائف جديدة . والإعتماد في ذلك على الإنجازات التكنولوجيّة في هذا المجال
(6)
العنصر الثالث في مواجهة البطالة، يقتضي إعادة النظر في أيام و ساعات العمل المعمول بها حاليّا، الأمر الذي تأخذ به الدول المتطوّرة، إحتراماً لبشرية العام
(7)
الإختيار بين البدائل التكنولوجية المطروحة، لكي نحصل على ما يكون أكثر إتّفاقاً مع ظروف حياتنا، و الإستراتيجية التي نضعها للتحوّل إلى مجتمع المعلومات . و في هذا المجال يمكننا أن نوازن بين الإندفاع إلى تبنّي التكنولوجيات المختلفة، و بين خططنا لتخفيف حدّة البطالة، و نختار التكنولوجيات غير المعقّدة التي يمكن الإعتماد عليها في المشروعات الصغيرة المنتشرة على إتّساع رقعة مصر
(8)
إعادة بناء نظمنا التعليمية الحالية، بما يتّفق مع إحتياجات العمل و الإبتكار في مجتمع المعلومات، من التعليم العام إلى الجامعة و مراكز البحث المتخصّصة . و وضع إستراتيجية علمية للعملية التعليمية، تنبع من رؤيتنا العامة لعملية التحوّل، و لا تخضع للأهواء السياسية قصيرة المدى . على أن يكون الهدف المباشر من هذه الإستراتيجية هو بناء الإنسان المصري وفقا لإحتياجات عصر المعلومات، أمّا هدفها البعيد فيكون السعي إلى إبتكار التكنولوجيات المتطوّرة المناسبة لنا، و عدم الإكتفاء باستيراد ما يسمح لنا بإستيراده
(9)
في مواجهة التغيّرات الدائمة، التي يتميّز بها عصر المعلومات، يكون علينا أن ندعم التعليم الذاتي، إعتمادا على التكنولوجيات الإلكترونية المتطوّرة المتاحة، بحيث يكون سندا للفرد في سنوات تعلّمه وفي عمله بعد ذلك، يساعده على تطوير خبراته أوّلا بأول، بحيث لا يتعرض لمخاطر البطالة
(10)
أن يفهم صانع القرار أن المعلومات و المعارف - و هي المورد الأساسي و الأهمّ في مجتمع المعلومات - ليست كباقي الموارد التي عرفها الإنسان، سواء في عصر الزراعة أم في عصر الصناعة، لأنّها لا تخضع - كسابقاتها - لقانون بقاء الطاقة . فالمعلومات و المعارف يمكن أن تستحدث، و يمكن أن تفنى و ينقضي أجلها . هذا بالإضافة إلى أن حجمها الكلّي أكبر من مجموع أجزائها . المعلومات - بعكس السلع - يمكن أن تبيعها و تتقاضى ثمنا لها، بينما تظل مالكا لها كل هذا، يقتضي أن يفهم صانع القرار أن النظريات الإقتصادية الحالية و المعمول بها لن تصلح للتعامل مع واقع مجتمع المعلومات . هذا الفهم ينهي الحيرة التي يقع فيها حاليا صنّاع القرار في أنحاء العالم، عندما تفشل خططهم القائمة على النظريات الإقتصاديّة التقليديّة، و تتولّد عنها المشاكل غير المسبوقة ، يوماً بعد يوم . فائض القيمة التقليدي يتحوّل من العمل إلى المعلومات و المعارف، ونظريات و قوانين الملكيّة التي إبتدعها الإقتصاد الصناعي، لم تعد صالحة للتعامل مع الواقع الجديد
(11)
الواقع الجديد الذي نتحدّث عنه، لا يقف أثره عند حدّ الإقتصاد، بل يمتدّ إلى جميع مجالات حياتنا. ولكي نضمن إستمرار نجاح خططنا الإقتصادية، لا بد أن نعيد بناء الأسس الديموقراطية التي شاعت في عصر الصناعة . النجاح الإقتصادي و الإنتعاش و حل مشاكل البطالة، يتطلّب إعادة توزيع سلطة إتّخاذ القرار بشكل جذري، وفقا للنظام الإداري الذي ينسجم مع عصر المعلومات . إنّنا بصدد نوع جديد من الديموقراطية، القائمة على المشاركة و ليس النيابة و التوكيل . إنّنا بصدد دور جديد للحكومة، يتضمّن أساساً التسهيل و التيسير، و ليس القيادة و التحكّم و الأمر
(12)
مجتمع المعلومات، هو مجتمع التغيّرات السريعة المتلاحقة . التغيّرات تحدث فيه بسرعة متزايدة، أكبر من أن تتيح لنا التعامل معها بعد حدوثها . لم يعد ممكناً أن يمضي صانع القرار في مصر، فيما إعتاده من إنتظار وقوع الحدث، ثم البحث عمّا يتوفر لديه من أدوات للتعامل معه

* * *

الحديث عن المستقبل في مصر، يجب أن يتجاوز تجميل الخطاب السياسي . علينا جميعاً أن نسعى بصفة دائمة إلى تأمّل مؤشّرات التحوّل الراهنة، و نحاول أن نتعرّف على القوانين الجديدة التي تحكمها، بحيث تتأسّس لدينا رؤية مستقبلية، تفيدنا في توقّع الأحداث، و تساعدنا في الإستعداد لها قبل أن تقتحمنا
راجي عنايــت

No comments:

Post a Comment