Saturday, November 20, 2010

لماذا كلّ هذا الفشل ؟


البحث عن المنهج المناسب

دعوة للتفكير المنظّم
تتجاوز مستنقع الانتخابات الذي نقاد إليه


(1 ) متى يفكّر الإنسان ؟

ــ عندما تتغير الأوضاع الخاصة، أو العامة . ففي أحوال الثبات التام (و هذا فرض نظري) لا يحتاج الإنسان إلى التفكير . أمّا عندما تتغيّر بعض الأوضاع، يجد نفسه محتاجا للتفكير في أثر هذه التغيرات على نظم حياته المستقرّة، لكي يعدّل من مواقفه و تصرفاته، بما يناسبه . و التغيّر هنا قد يكون شعورا بالإجهاد، أو موقفا غير معتاد ممن هم حوله، أو ارتفاعا في سعر سلعة او خدمة، إلى تغيّر مفاجئ في الطقس عند التفكير في هذه الأحوال، أحوال التغيير البسيط أو النسبي، يكفي الإنسان الاعتماد على خبراته السابقة، أو خبرات من هم حوله

(2) ما هي أمثلة التغيرات النسبية في حياة البشرية ؟

ــ امتدّ عصر الزراعة إلى ما يقرب من عشرة آلاف سنة .. و هو العصر الذي قامت فيه حياة البشر أساساعلى الزراعة في جميع قارات العالم . كلما انتقلت مجموعة من البشر من الاعتماد على القنص أو الرعي، إلى الاعتماد على الزراعة، مستقرّة فوق رقعة محددة من الأرض، سادت قوانين أساسية واحدة للحياة، رغم اختلاف الأعراق و الأجناس و الطبيعة و المناخ
طوال ذلك الزمن الطويل، خضع أبناء المجتمعات الزراعية لنفس الأسس الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و سادت بينهم نفس منظومة القيم و الأخلاق
ملاحظة هامة : الثابت أن هذه الأسس جميعا نبعت من طبيعة الحياة الزراعية السائدة، و التي حددت أطر حياة البشر في المجتمعات الزراعية . و لقد بقيت تلك الأسس على حالها، طوال ذلك الزمن، رغم التغيرات النسبية العديدة التي طرأت على أفكار و عقائد و علوم أبناء المجتمع الزراعي ... و هذا يقود إلى أن طبيعة العمل السائد تحدد أسس حياة البشر

(3) بماذا تختلف التغيرات النسبية عن التغيرات الكبرى ؟

ــ في حالة التغيرات النسبية، يمكننا الاعتماد على السوابق، و على رصيد خبراتنا، أو خبرات من هم حولنا ممن سبقونا إلى المرور بتلك التغيرات .. و هكذا تتوفر المرجعيات للقياس و الاستفادة . و يمكننا أن نرى أمثلة لذلك، في تبادل الخبرات و المعارف بين الحضارات المصرية والإغريقية و الفارسية و الهندية و الإسلامية ..التي كانت جميعا حضارات زراعية يعيش أهلها على الزراعة أساسا

ــ في حالة التغيرات الجذرية الشاملة، تفقد الخبرات الحالية و السوابق قيمتها، و لا يجد البشر مرجعيات متاحة، في أي مكان على الأرض.. فالجميع يواجه نفس الأزمة . مثال ذلك انتقال البشر من الزراعة إلى الصناعة، في أعقاب اختراع الآلة البخارية . لم تعد الأسس الاجتماعية والاقتصادية و السياسية و منظومة القيم النابعة من واقع الحياة الزراعية صالحة للتعامل مع الحياة الصناعية، بعد أن فقدت مرجعيتها
و هذا هو أساس المشاكل المزمنة في مصر، لكل من يتصدّي للتفكير في الإصلاح عندنا، متصورا أن بالإمكان إصلاح أو إعادة بناء أي شيء على حدة دون أن ينبع ذلك من رؤية شاملة للتغيرات التي يمر بها العالم، سواء كان الإصلاح يتصل بالتعليم، أم الموارد الاقتصادية، أم النقل، أم الأسرة، أم بالممارسة الديموقراطية ، أم بالفساد
هذا هو سر إخفاق المخلصين الأذكياء، بين المفكرين و النشطين السياسيين، و المسئولين الأمناء في دوائر الحكم عندنا، الذين يتصورون إمكان تحقيق شيء، قبل فهم طبيعة التغيرات الحادثة و أبعادها، و دون التوصّل إلى رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع منها الاستراتيجيات و الخطط، في جميع مجالات الحياة

(4) ماذا نفعل في مواجهة التغيرات الجذرية الشاملة ؟

ــ نفعل ما فعله مفكّروا عصر الصناعة الأوائل . درسوا مؤشرات التغير الأساسية التي فرضتها طبيعة العمل الصناعي، التي يتواصل و يتزايد أثرها، و التأثير المتبادل بين تلك المتغيرات مثل
أ ـ ما أتاحته الطاقة الميكانيكية من إنتاج على نطاق واسع و استهلاك على نطاق واسع
ب ـ و ما ترتّب على ذلك من انفصال للإنتاج عن الاستهلاك ـ
ج ـ ممّا اقتضي قيام السوق بمعناها المستجد، و ما ترتب علىّ هذا من مؤسسات اقتصادية مستجدة . و اكتشفوا سقوط النظم النابعة من عصر الزراعة،في مجال الأسرة، و التعليم،و الإدارة و العمالة و العمل و في النظم الاقتصادية و تشكّّل منظومة جديدة للقيم و الأخلاق
د ـ و اكتشفوا المبادئ الجديدة التي يقوم عليها عصر الصناعة، و التي تختلف ـ بل و تتناقض كثيرا ـ مع المبادئ التي قامت عليها الحياة طوال العمر الممتد لعصر الزراعة
هـ ـ تلك المبادئ التي اقتضاها قيام الحياة على الصناعة مثل : النمطية و التوحيد القياسي لكل شيء ـ ضبط الزمن و تحقيق التزامن ـ التخصص الضيّق ـ التركيز في كل شيء ـ المركزية الشديدة ـ عشق الضخامة
و نشط المفكرون في رسم إطار الرؤية المستقبلية لبلادهم، و فقا لمدى تحوّلهم من الزراعة إلى لصناعة . و مع كل الاختلافات بين المجتمعات الصناعية في العالم ـ على مدى ثلاثة قرون تقريبا، هي عمر عصر الصناعة ـ ظهر أن أسس الحياة الصناعية كانت واحدة، و قد خضعت لتلك الرؤية جميع المجتمعات الصناعية في جميع القارات، و سواء كانت تمضي وفق النظم الرأسمالية أم الاشتراكية
و السرّ في هذا، هو أن التكنولوجيا السائدة، تفرض نوع العمالة السائدة، و تنتهي في آخر الأمر برسم أسس الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية
و هذا يتم على ثلاثة مراحل
أولا) تقوم التكنولوجيا الجديدة بالعمل الذي كان الإنسان يقوم به
ثانيا) توفّر هذه التكنولوجيا إمكانات في العمل، لم يكن ـ و لن يكون ـ بإمكان الإنسان أن يقوم بها
ثالثا) بناء على ما سبق، تتحوّل البنى الاجتماعية و الاقتصادية القائمة، إلى نظم اجتماعية و اقتصادية جديدة

و يمكننا فهم هذا بشكل أوضح لو تأملنا التحول في مبادئ الحياة بين عصري الزراعة و الصناعة و دراسة هذا التحوّل تساعدنا كثيرا في تناول التحولات الكبرى التي نمر بها الآن، و التي تتجاوز ـ في قوّتها و تسارعها ـ انتقال البشر من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة

(5) هل يفيدنا هذا في فهم التغيرات الكبرى
التي يمر بها لبشر حاليا ؟

ــ يفيدنا كثيرا أن ندرس تحوّل البشر من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة، في فهم التحوّل الحالي من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات ( لماذا هذه التسمية، و من أين أتت، سنطرحه فيما يلي من تساؤلات ) . نحن نمرّ بنفس التغيرات الكبرى التي سبقت عصر الصناعة، و لكن بشكل أكثر قوّة و تأثيرا و شمولا . تغيرات اليوم متلاحقة متسارعة بطريقة غير مسبوقة، و هي تلاحقك شئت أم أبيت .. طوال عصر الصناعة، كان بإمكان دولة ما أن تقرر المضي في حياة الزراعة بنفس أسس عصر الزراعة . هذا إذا لم يجد الاستعمار النابع من طبيعة النظام الصناعي حاجة لاستعمارها .. أمّا اليوم فليس بإمكان أي دولة صغيرة أو كبيرة، قريبة أو بعيدة، أن تتجاهل التحوّل الشامل إلى عصر المعلومات


(6) كيف نرسم معالم الرؤية المستقبلية
لمجتمع المعلومات ؟

ــ نفعل مافعله المفكرون الأوائل لعصر الصناعة، من موقع أفضل، بفضل قدرتنا على دراسة مرحلة التحوّل الأخيرة من الزراعة إلى الصناعة، و الاستفادة منها في فهم التحوّل الجديد
أولا : ندرس مؤشرات التغير العظمى التي طرأت على حياتنا منذ منتصف القرن العشرين تقريبا
ثانيا : نختار منها المؤشرات متزايدة التأثير،و مطّردة النمو
ثالثا : ندرس التأثيرات المتبادلة بين تلك المؤشرات الأساسية المختارة
رابعا : نحدد المبادئ الأساسية للمجتمع الجديد، و نتتعرّف على آثار الاعتماد على التكنولوجيا المعلوماتية ( الرقمية ) في صياغة الأسس الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية للحياة في المجتمع لجديد
خامسا : و من هذا يمكن أن نرسي أسس الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات


(7) لماذا نطلق اسم مجتمع المعلومات
على المجتمع الجديد ؟

ــ رغم انه من الصعب أن نقصر أسباب الانتقال من عصر لآخر على سبب واحد أو سببين، إلا أنه من الواضح أن التغيرات الأساسية اتي مرّت بها حياة البشر، منذ منتصف القرن العشرين، ترجع إلى حدّ كبير إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم : ثورة المعلومات
و لكي نفهم مدلول هذا الاسم، نطرح ما يمكن أن نطلق عليه " الدائرة النشطة " . على محيطها تنتظم عناصرها التي تقود إلى بعضها البعض بشكل متواصل . هذه العناصر هي
أولا : تزايد لمعلومات المتاحة و تدفقها . بفضل تطوّر و سائل الاتصال و الانتقال
ثانيا : قاد هذا إلى ضرورة تطوير تكنولوجيات المعلومات، لمواجة ذلك التدفّق
ثالثا : قاد هذا بدوره إلى المزيد من اندفاع و توالد المعلومات و المعارف، ممّا أتاح للبشر أن يتحرروا من نمطية المجتمع الصناعي، و أن يتعرّفوا على أساليب حياة تختلف عن أسلوب حياتهم .. فبدأ الناس يتمايزون في مشاربهم و توجّهاتهم و في رغباتهم و ساليب حياتهم .. و هذا التمايز في حدّ ذاته خلق المزيد من لمعلومات .. و هكذا مضت الدائرة النشطة
رابعا : هذا التفاعل المتسلسل، و الذي يقوم على التعامل مع المعلومات، هو الذي قاد إلى تسمية : مجتمع المعلومات

(8) بماذا تفيد الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات ؟

ــ الرؤية المستقبلية لمجتمع المعلومات، هي التي نستنبط منها مستقبل أي شيء في مجتمع المعلومات ، في النواحي الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية ( كمسقبل الأسرة، أو التعليم، أو العمالة، أو الإدارة، أو الاقتصاد، أو الممارسة الديموقراطية، أو الإعلام) ، و تدلنا على المبادئ الأساسية لمجتمع المعلومات، من حيث اختلافها عن المبادئ التي سادت عصر الصناعة، و التي تفيد التحوّل
من العمل الجسدي، إلى العمل العقلي
من انتاج البضائع، إلى انتاج المعلومات...بالنسبة لمركز ثقل الإنتاج
من المركزية إلى اللامركزية، و من التنظيم الهرمي إلى التنظيمات الشبكية
من تلويث البيئة إلى حمايتها
من وقود الحفريات إلى أشكال جديدة ومتجددة من الطاقة
من الاقتصار على المواد الخام المستخرجة من جوف الأرض، إلى الاعتماد على الخامات المخلّقة
من فصل الإنتاج عن الاستهلاك، إلى اقتصاد تعاوني، و إنتاج من أجل الاستهلاك الشخصي
من التمثيل النيابي، إلى المشاركة في اتخاذ القرار
من الاعتماد على المؤسسات، إلى الاعتماد على الذات
من الاقتصاد القومي، إلى الاقتصاد العالمي :جلوبال

(9) و ماذا عن الرؤية المستقبلية لمصر ؟

التوصّل إلى الرؤية المستقبلية لمصر، يقتضي الوضوح حول أمرين، الهدف، و المنطلق
أولا : الهدف المنشود هو اللحاق بركب التطور العالمي، من خلال الرؤية المستقبلية الشاملة لحقائق مجتمع المعلومات، و هو ما طرحنا جانبا من عناصره الأساسية في الأسئلة السابقة

ثانيا : نقطة الإنطلاق، أو الأرض التي نقف عليها، و نحن نمضي في رحلة إعادة البناء نحو المستقبل . أي الوضع الراهن لمصر ..و بخاصّة ما يمكن أن نطلق عليه : الخريطة الحضارية الراهنة لمصر

(10) ما هي الخريطة الحضارية الراهنة لمصر ؟

ــ هذا يعني أن نرصد بأمانة موقعنا على سلّم تلاحق الحضارات البشرية . أو بمعنى آخر : لقد تعاقبت على البشر ثلاث حضارات كبرى، أو أنماط حياة كبري، هي نمط الحياة الزراعية، ثم نمط الحياة الصناعية، و أخيرا نمط الحياة النابع من احتياجات مجتمع المعلومات . و لقد أخذت المجتمعات و الدول المختلفة، بنسب مختلفة من تلك الأنماط، وفقا لحظوظها من استخدامات التكنولوجيات الخاصة بكل نمط، و نسب شيوع مبادئ كل عصر من عصور التطوّر المشار إليها
الدراسة المطلوبة تستهدف معرفة نسب انتماء شعب مصر إلى كلّ من أنماط الحياة هذه .
إلى أي مدي يعيش الشعب المصري بمنطق عصر الزراعة .
و إلى أي مدى قد تبنّى منطق عصر الصناعة .
و ما حجم القلّة التي اقتحمت جهد تبنّي منطق عصر المعلومات .
وضوح هذه النسب، يرسم الخريطة الواقعية التي نقف عليها .. و هذا يحدد نوع الجهد لمطلوب منا لكي ننتقل بالحياة المصريةإلى واقع مجتمع المعلومات، و يكون أساسا لعملنا و نحن نرسى استراتيجيات إعادة البناء، و نترجمها لى خطط متكاملة، و برامج زمنية واقعية، و يحدد نوعية خطط التنمية التي نأخذ بها

* * *


التساؤلات العشرة السابقة، و الإجابات عنها، تفيد أن معركتنا الرئيسية هي معركة فكرية .. نحن في حاجة إلى إشاعة وعي جديد بحقيقة موقعنا و طبيعة هدفنا، ليس فقط بين الشباب و الناشئة، و لكن أيضا بين المتنفذين في حياتنا على أعلى المستويات، و بين جميع السلطات التنفيذية و القضائية و التشريعية..و بين القيادات الفكرية في المجالات الأكاديمية و الثقافية و الإعلامية

تجاربنا الفاشلة المتكررة لحلّ مشاكلنا، و إعادة بناء مصر على أسس معاصرة، لا ترجع إلى قصور في ذكاء ساستنا و مفكرينا المنشغلين بأوضاعنا المتردّية، أو إلى نقص في جهودهم، كما لا يرجع شيوع الفساد في مختلف مستويات مجتمعنا، لكنّه يرجع أساسا إلى عدم إدراك أهمية التوصّل إلى : رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع منها استراتيجيات و خطط متزامنة، تربط بين حركتنا في مختلف المجالات الاجتماعية و الاقتصاية و السياسية، وفق الأولويات التي تناسب قدراتنا

راجي عنايت renayat@gmail.com

No comments:

Post a Comment