نهضة مصر – الثلاثاء 8 / 11 / 2005
! ما أشبه الليلة بالبارحة
.. في مثل هذه الأيام منذ خمس سنوات كتبت هذه الكلمات
و ما زلنا نمضي ـ بخطوات أوسع بكثير ـ في نفس مسيرة التدهور و الضياع
.. فما أشبه الليلة بالبارحة
..مولد الانتخابات
و الشعب الذي تاه يا أولاد الحلال
مولد الانتخابات اقترب من ليلته الأخيرة، و توزّعت الخيام على الساحة، و وقف صاحب كل خيمة على بابها يتغنّى ببضاعته، و يدعو الجميع إلى عجيبته التي ينفرد بها عن الآخرين .. البعض حليق الرأس، و البعض الآخر يعتمر العمامة، أو القبعة العالية، أو الحطّة و العقال .. حشود من المهرّجين و البهلوانات و نافثي النيران . و عندما تقترب الليلة من نهايتها، تخفت الأصوات، إلاّ من غناء كالأنين ينادي على الشعب التائه، الذي ضاعت مصالحه في صخب ذلك المولد
ليس هذا مجرّد تشبيه، بل هو وصف دقيق لما يحدث في الانتخابات البرلمانية الحالية، المرشّحون يعلنون عن برامج ليس لها صله بصالح مستقبل هذا الشعب، و لكنّهم يسعون إلى صوته ـ الصلة الوحيدة التي تربطهم به ـ بكل الوسائل الممكنة، بالأحلام الوردية الساذجة، و الوعود الكاذبة .. و أحيانا بالضغط و القهر و التهديد، و أحيانا أخرى بالتزوير و التدليس
! تدليع الانتهازية
و ليس في هذا من جديد، فهو تكرار دقيق للسيناريو المعمول به في جميع الانتخابات البرلمانية المصرية، قبل الثورة و بعدها
الجديد في الأمر أن شباب أمانة السياسات بقيادة جمال مبارك يقومون بنفس المناورات الانتخابية الانتهازية، غير المبدئية، التي تعودّنا عليها من شيوخ الحرس القديم، بقيادة أستاذ اللعبة كمال الشاذلي .. الفارق الوحيد هو أن شباب جامعة هوبكنز، و تلامذة فوكوياما، و صبيان الحملات الانتخابية للمرشّحين الأمريكيين، يطلقون على هذه الانتهازية لفظ " البراجماسية " أو " البراجماتية "، و هو كما يبدو أقل جرحا للكرامة .. بل أدعى للاعتزاز باعتبار أن البرجماسية، أو الذرائعية، هي فلسفة الشعب الأمريكي الرائد (!)، و كان قد صاغها ديوي لتنسجم مع طبيعة تشكيل ذلك الشعب فاقد الأصول و الركائز، لتكون دستورا مناسبا لذلك التجمّع البشري الوافد من كل مكان .. و فلسفة الذرائعية ـ لمن لا يعرف ـ تعتبر كل ما هو نافع و مفيد خيرا، و كل ما ينتقص الفوائد و المنافع شرّا .. و هي لتي تقول أن الله يكون موجودا لو كان نافعا .. و هي أصل التعبير الشائع عند الساسة السذّج " محور الشر "، ليطلق على كل من يقف في وجه المصالح الأمريكية
هل تعرفون السر في هذا الارتماء السريع من جانب جمال مبارك و شبابه في أحضان الممارسات السياسية للحرس القديم ؟ .. إنّه غياب الفكر و المنهج و الرؤية المستقبلية لمصر عند القديم و الجديد معا .. ذلك الغياب الذي لا تنفيه عشرات المؤتمرات التي تعقدها أمانة السياسات، و لا مئات الصفحات التي تطرح برامجها.. والتي ثبت أنها نفس برامج الحزب الوطني التقليدية، مع المزيد من تقنين النهب الاقتصادي لمصر
الأحلام و الأماني، لا تكفي
برامج الحزب الوطني، و أمانة السياسات أيضا، عبارة عن تجميع أحلام و أماني، و طرح نتائج جرد لكل التوصيات التاريخية، التي يعرفها جيدا من يوكل إليهم تدبيج تلك البرامج في المناسبات المختلفة، من فلول مدرسة "منظمة الشباب"، التي استولت على مقاليد و وزارات مصر على مدى العديد من العقود، رغم وقائع الفشل المتكررة التي ارتبطت بجهدهم، و رغم الأفكار الفاشية لمعظمهم
أعود و أكرر، للمرّة الألف، أن أي برنامج يوضع لمستقبل مصر، يجب أن يقوم على أمرين
أولا : فهم لطبيعة التحوّل من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات . و إدراك للنظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي يقوم عليها مجتمع المعلومات
ثانيا : فهم للخريطة الحضارية الراهنة لمصر.. إلى أي مدى تسود أهلها قيم عصر الزراعة، و إلى أي مدى تسود قيم عصر الصناعة، و إلى أي مدي قد اقتربوا من واقع مجتمع المعلومات
ثم علينا أن نفهم جيدا أثر التكنولوجيات الابتكارية الكبرى، كالآلة البخارية في عصر الصناعة، و الكمبيوتر في عصر المعلومات .. أثرها على النظم و القيم الجديدة التي تأتي بها لتحل محل النظم و القيم النابعة من المجتمع السابق
للمزيد من الوضوح أطرح مثالا واضحا ـ لا خلاف عليه ـ من تاريخ البشر
العبودية و الرقّ
لقد كانت العبودية، بمعنى ملكية إنسان للحم و دم و عظام إنسان آخر، أمرا مقبولا و مأخوذا به، و متوافقا مع احتياجات العمل و الاقتصاد الزراعي، على مدى عشرة آلاف سنة .. كانت طبيعة العمل و العلاقات في المجتمع الزراعي قابلة للرقّ، و لا يستنكره سوى قلّة من المفكرين و الأدباء والشعراء، و رافعي لواء حرّية الإنسان
لقد تمرّد العبيد على حياتهم البائسة أكثر من مرّة على مدى التاريخ، و ساندهم في هذا العديد من الحالمين بالحرية .. و ظهر المتمرّد الأكبر سبارتاكوس ليقود ثورة للعبيد، التي ما لبثت أن خمدت، وبقي نظام العبودية أو الرق أو السخرة الكاملة كممارسة طبيعية في المجتمع الزراعي
و الملاحظ، أن الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية و المسيحية و الإسلام، لم تحرّم امتلاك العبيد ! ,, ربّما تكون قد طلبت الرحمة بهم، و حاولت تذكير مالك العبد أنّه يتعامل مع إنسان، غير أنّها أقرّت العبودية باعتبارها احتياجا اقتصاديا لعصر الزراعة، الذي ظهرت خلاله الأديان الثلاثة
الحرب الأهلية الأمريكية
و أمريكا .. حلم البشر التي هاجر إليها المغامرون و المضطهدون و الحالمون و المجرمون و الخارجون على القانون، القادمون من مختلف أنحاء العالم، و اعتبروها أرض الميعاد بالنسبة إليهم .. سرعان ما قامت فيها أكبر أسواق النخاسة في العالم، يتدفّق إليها زنوج أفريقيا، مكبّلون بالسلاسل بعد اختطافهم، ليعانوا من السخرة في حقول القطن .. شاعت العبودية في أمريكا، و بخاصّة في الشقّ الجنوبي منها
ظلّ هذا هو قدر العبيد، إلى أن تم اختراع الآلة البخارية، المقدمة الأولى لعصر الصناعة، و السبيل لانتشار المصانع المعتمدة على هذه التكنولوجيا، و ما تطوّر عنها من تكنولوجيات كهروميكانيكية، أكثر تطوّرا
في البدايات الأولى لأمريكا، تركّزت الصناعة في الشمال، و بقي الجنوب زراعيا في معظمه.. يعتمد في اقتصاده على القوّة العضلية للزنوج الذين كانوا يجلبون قسرا من أفريقيا، ليعملوا كعبيد في المزارع . و هذا يعني تناقضا أساسيا في بنية الدولة الأمريكية، و تمزّقا بين النظم الزراعية و النظم الصناعية، مع كل التناقض بينهما
و من هنا قامت الحرب الأهلية الأمريكية، في حقيقة أمرها، بين الشمال الصناعي و الجنوب الزراعي .. قامت لتجيب على سؤال حول مستقبل أمريكا : هل ستبقى أمريكا زراعية أم ستصبح صناعية ؟
و عندما انتصر الشمال الصناعي، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية دولة صناعية، تمضي في صناعتها و زراعتها وفق أسس و مبادئ و تقاليد المجتمع الصناعي .. هنا فقط، بدأ اسـتغناء أمريكا عن نظام العبـودية .. متى ؟، عندما لم يعد العمل و الاقتصاد الصناعي في حاجة لامتلاك العبيد .. أو بمعنى أكثر دقّة، لم يعد يحتاج إلى هذا النوع من امتلاك الجسد، فقد كانت لعصر الصناعة أساليبه الخاصّة في استعباد العامل على خطوط التجميع
الآلة البخارية .. كرمز
و كما كانت الآلة البخارية هي رمز عصر الصناعة، ظهر الكمبيوتر ليصبح رمزا لعصر المعلومات
و أعود إلى ما سبق أن قلته من قبل .. التكنولوجيات الابتكارية الكبرى، مثل الآلة البخارية و الكمبيوتر، تبدأ بأن تحل محل الجهد البشري للإنسان فيما يقوم به، ثم تتطوّر لتتجاوز ما يقوم به الإنسان، أم ما يمكن أن يقوم به مستقبلا، و أخيرا يحدث الأهم ـ و الذي يهمنا أن نتذكّره ـ و هو أن تطوّر هذه التكنولوجيا الابتكارية يقود إلى تغيير النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية القائمة، و تحويلها إلى نظم جديدة تماما
و عندما أقول أن الآلة البخارية ـ و ليس سبارتاكوس ـ هي التي حررت العبيد و أنهت الرق في حياة البشر، فأنا لا أقصد الآلة البخارية ذاتها، و لكن أعني النظم التي فرضتها من خلال النظام الصناعي الذي استند إليها، و جاءت مختلفة تماما عن نظم مجتمع الزراعة، التي كانت ترى أن حاجتها الاقتصادية تبرر نظام الرقّ
.. باختصار
أولا : جميع البرامج المطروحة في هذا المولد الانتخابي، لا تنبع من رؤية مستقبلية حقيقية لمصر .. بل أن جانب كبير منها متناقض مع مصالح مصر على المدى القريب و البعيد
ثانيا : الفساد السياسي و الإداري و الأخلاقي الذي يسود هذه الانتخابات، و ينخرط فيه معظم المرشّحين، يهدم أساس و جوهر الممارسة الديموقراطية
ثالثا : كما جاء النظام الصناعي لينسخ نظام العبودية و الرق، جاء مجتمع المعلومات لينسخ هذا الشكل الأثري للممارسة الديموقراطية، الذي اخترعه رواد الصناعة تحت اسم ( ديموقراطية التمثيل النيابي )، و ليطرح شكلا جديدا للممارسة الديموقراطية، بتناسب مع معلومات و ثقافة إنسان عصر المعلومات .. أعني بذلك الديموقراطية الأمل .. ديموقراطية المشاركة
No comments:
Post a Comment