نهضة مصر ( الخميس 19 مايو2005 ) راجي عنايــت
أزمة الحكم في مصر
! بين الرؤية المستقبلية .. و فيل العميان الستّة
هل تذكرون قصة العميان الستّة، الذين التقوا بالفيل لأوّل مرّة في حياتهم، و حاول كلّ واحد منهم أن يصف ذلك الشيء الغريب . الذي أمسك بساقه، قال أنه أشبه بالعمود الضخم .. و الذي أمسك بإذنه، قال أنه رقيق مفلطح .. و الذي أمسك بزلومه، قال أنه يشبه الثعبان .. أمّا الذي أمسك بذيله، فقد أصرّ على أنه يشبه الحبل .. حكومتنا و أحزابنا جميعا بلا ، و الغالبية العظمى ممّن يتصدّون لإبداء الرأي و الإفتاء عندنا، يفعلون ما فعله هؤلاء العميان الستة في وصف الأوضاع المستجدّة المتغيرة، و التعامل معها، في غياب الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر .. تكمن أهمية الرؤية المستقبلية، في أنها بمثابة البصر الثاقب بالنسبة للعميان الستّة
ليست هذه نكتة طريفة نبتسم أو نضحك لها .. إنّها حقيقة مريرة، علينا أن نتجرّعها بشجاعة، إذا كنّا ننوي فعلا أن نرى أمرا في أوضاعنا المتردية الحالية، التي ساعدت ضغوط التغيير المتزايدة على كشف عوراتها . ضغوط التغيير المتصاعدة غير المسبوقة، و التي لا مهرب لنا منهاــ لأنّها تنسحب على الجنس البشري بأكمله ــ لا يمكن أن نتعامل معها بأدواتنا التقليدية التي انقضت صلاحيتها منذ زمن طويل . و لن نتوصّل إلى أدوات التعامل الجديدة، إلاّ عبر رؤية مستقبلية شاملة، تدخل في اعتبارها المسار المستقبلي للجنس البشري، و الواقع الحقيقي لمصر، دون تزييف أو أكاذيب
سكت دهرا، و نطق كفرا
كثر التساؤل في الشهرين الأخيرين : أين الحزب الوطني ؟ .. الأحداث تتسارع، و الأصوات التي طال صمتها تصرخ بأعلى ما عندها، و الخطوط الحمـراء التقليدية أصبح تجاوزها رياضـة يومية أشبه بنط الحبل .. و الإعلام العالمي يضع هذا في صدر نشراته، مبالغا في أغلب الأحيان، و شامتا في بعضها .. كل هذا و الحزب الوطني يستقرّ ساكنا في مقاعد المتفرجين، مذهولا في أغلب الظن
ثم تحرّك الحزب الوطني .. و يا ليته ما تحرّك
فعل ما اعتاد فعله من قبل لخدمة النظام، و تغطية الأخطاء، ناسيا أن الزمن غير الزمن، و أن الحال غير الحال .. إذا اعتاد المعارضون الوقوف على درج نقابة الصحفيين، أرسل من يسبقهم إلى ذلك .. جمع من الفتوات من قد يصلحوا لخناقة في بولاق .. و عندما رفعت بعض المظاهرات شعار " كفاية "، تفتّق ذهن أحد خبراء ال( ديرتي ويرك ) عن شعار " مش كفـاية "، و هو شعار يعكس حالة مرضية من التلذذ بتعذيب الذات .. واضح أن أقطاب الحزب الوطني، القدامى و الجدد، لم يفهموا بعد طبيعة الذي يحدث في مصر، و في العالم من حولهم
! من مصر ..إلى الوطني
و الحق، أنه من الظلم أن نطالب الحزب الوطني بفهم طبيعة ما يحدث في مصر و في العالم، أو أن يتصدّى لمهمة وضع رؤية مستقبلية شاملة لمصر . يتّضح هذا إذا ما رجعنا بالذاكرة إلى الوراء، لنري الطريقة التي تشكّل بها الحزب الوطني، و نوع الذين تدافعوا لعضويته . نتذكّر التصوّر الساذج للرئيس السادات، بإمكان ( فبركة ) أجنحة سياسية مصطنعة .. يسار و يمين، يستقرّ هو بينهما على رأس حزب وسطي، أطلق عليه اسم حزب مصر، الذي تدافع الباحثون عن مصالحهم من خلال الالتصاق بالسلطة، و انضمّوا لحزب مصر.. ثم، بحركة بهلوانية قفز السادات ـ لا أذكر لماذا ـ مبتعدا عن حزب مصر، و مؤسسا الحزب الوطني .. فما كان من جماهير حزب مصر أن تدافعت خلفه سعيا وراء مصالحها
بالطبع، سارعت الفئة الجاهزة دائما من محترفي السياسة و العلوم السياسية ( من عينة صفر الألمبياد )، فدبّجت الصفحات عن فكر و آراء الحزب الجديد .. لكن بقيت الحقيقة الأساسية، و التي تقول أن أسباب إنشاء الحزب، و الطريقة التي تكوّن بها، و الأهداف الرئيسية لأعضائه، لا يمكن أن تتيح له الفكر أو الآراء التي تسمح بأن يتوصّل إلى الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر، التي أدعو إليها
! المناورة المأساوية
و غياب الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر، لا يقتصر على الحزب الوطني، بل ينسحب على جميع الأحزاب التي تشكّلت مع الحزب الوطني و بعده .. و ينسحب أساسا على التيار الإسلامي الذي سخن بدنه نتيجة للتحرّش الذي قامت به الدكتورة كونداليزا
لقد أراد السادات أن يطمئن الولايات المتحدة إلى عزمه التحوّل عن سياسات عبد الناصر 180 درجة، و أن يقضي على بقايا نفوذ من أسماهم بمراكز القوى، فقام بمناورته الخائبة، التي كانت لها نهايتها المأساوية، عليه و علينا ! . لقد تفتّق ذهنه عن فكرة ضرب اليسار داخل الجامعة، بالتنسيق مع التيارات الإسلامية داخلها .. و بدأت المأساة التي لم نتخلّص منها حتّى الآن
و اليوم، تطل علينا جماعة الإخوان المسلمين كقوّة سياسية تتحدّى النظام الحاكم . و هي بالقطع قوّة تنظيمية، و رصيد جماهيري، لا يطمح إليهما الحزب الوطني
المشكلة مع التيار الإسلامي، أنه ليست له أي صلة بالرؤية المستقبلية، أو بأي فكر مستقبلي، لأنّه بطبيعته يتناقض مع التفكير الابتكاري الضروري للوصول إلى الرؤية المستقبلية . التيار الإسلامي، بجميع فصائله، السلمية و الدموية، لا يعرف شيئا عن الاقتصاد الجديد الذي يأتي به مجتمع المعلومات، أو الإدارة الجديدة، أو نوع الممارسة السياسية، أو النظام التعليمي .. لم أسمع لأي واحد منهم رأيا أو موقفا، في أي من هذه الأمور، التي يقوم عليها أي جهد لتصوّر الرؤية المستقبلية لمصر
الخلاصة، أن التيار الإسلامي، ليست لديه أية صلة بمستقبل مصر، فكيف يتصوّر أن يحكمها ؟
..اليسار التاريخي
نأتي بعد ذلك إلى حزب التجمّع، الذي يفترض فيه أن يمثّل اليسار التاريخي . و لكي نفهم ضرورة إضافة وصف " التاريخي "، نقول أن لفظ اليسار الآن لم يعد ينسحب على أنصار الماركسية، كما كان الأمر فيما قبل دخولنا إلى عصر المعلومات . لغة العصر الجديد تقول أن اليساري هو كل من يعتقد بضرورة تغليب المبادئ الأساسية لمجتمع المعلومات، و يسعى جاهدا لتطبيقها .. أمّا الرجعي أو اليميني، فهو كل من لا يزال ـ نتيجة لتخلّف فكري أو حفاظا على المصالح ـ يتشبّث بأوضاع المجتمع الصناعي، أو الزراعي، و يرفض أن يتقبّل التغيرات الضرورية التي تتّصل بعصر المعلومات
و بعيدا عن الشعارات العامة، التي نتبنّاها جميعا، مثل تخليص الفقراء من فقرهم، من خلال التدريب و التأهيل و توفير فرص العمل، و احترام إنسانية العامل، إلى آخر ذلك، لم يعد لدى المتمسكين بالنظرية الماركسية ما يتيح لهم وضع رؤية مستقبلية شاملة، في عصرنا هذا
و السبب بسيط جدا، فالاشتراكية و الرأسمالية ـ معا ـ طريقتان مختلفتان للتعامل مع واقع عصر الصناعة، و مع اقتصاد مجتمع الصناعة .. و هما ـ معا ـ لا يصلحان للتعامل مع واقع عصر المعلومات، أو مع اقتصاد مجتمع المعلومات، الذي يختلف جذريا عن اقتصاد مجتمع الصناعة . و بالمناسبة، هذا يعني أننا لا نعيش انحسار النظريات الاشتراكية التقليدية، بل نعيش أيضا انحسار النظريات الرأسمالية التقليدية
!الوفد .. و خلافه
و ماذا بقي من أحزاب مصر ؟! . الوفد ؟ .. ماذا يمثّل ؟، و ما هو فكره ؟، هل ما زال يمثّل البرجوازية المصرية ؟ و أين هي الآن ؟ .. هذا حزب منتزع من سياق التاريخ المصري، كان في زمنه يمثّل فكرا معينا، و طبقة معينة، و أهدافا معينة، كلها غير موجودة في الواقع الحالي .. إنه أقرب ما يكون إلى ما يطلق عليه " نستولجيا "، لكنه غير قادر، بحكم تاريخه و ظروفه الراهنة، على أن يرسي أساس رؤية مستقبلية شاملة لمصر
و ماذا أيضا ؟، حزب العمل، الذي لم أعرف له هوية حتّى الآن، هل له صلة بالعمل و العمال، أم أنّه فصيل آخر من التيار الإسلامي ؟ .. لم نسمع أنه طرح يوما برنامجا له، يقوم على تصوّره الخاص لمستقبل مصر .. كلّ ما سمعناه صراعات بين قيادته ـ كما يقال ـ على مقاعد فوق سطح التيتانيك الغارقة
* * *
أشعر أن الفوران الحالي في مصر، يصلح أن يحدث هزّة في الوعي المصري، تتيح ظهور أنواع جديدة من النشاط ــ ليس أحزابا ــ تكون لديها القدرة على التفكير في مستقبل مصر .. أمّا الأحزاب الحالية، بما في ذلك الحزب الوطني الديموقراطي، فالأفضل أن تخدمنا و تنقرض
No comments:
Post a Comment