نهضة مصر (5 مايو2005 ) راجي عنايــت
الحكومة و المعارضة
وغياب الرؤية الضرورية للنجاح
لا أقصد بهذا إهانة أحد، أو النيل من كرامة حزب أو جماعة .. و أيضا، لا أعني به إدانتنا، كمصريين، بالفشل الحتمي الشامل .. كما أن هذه الأزمة ليست قاصرة على مصر وحدها ، فهي تنسحب بشكل أساسي على الدول النامية، بل و يكون أثرها واضحا أيضا على العديد من الدول الصناعية المتطورة . أحاول بهذا أن أدقّ جرس إنذار أخير ـ بحكم تقدّمي في العمر حاليا ـ لكنّي لم أتوقّف عن دقّه بإصرار على مدى ربع القرن المنصرم
لا أعتقد أن الحالة التي نمرّ بها هذه الأيام، و التي يطلق عليها البعض أوصاف الاحتقان و التأزّم، أو حالة ما قبل قرع الرؤوس، و نطاح الكباش، لا أعتقد أنها يمكن أن تقودنا إلى خير مصر، لا من جانب الحكومة، و لا من جانب المعارضة . لن يفيد مصر الدفاع عن الأوضاع التي وصلنا إليها، أو الهجوم عليها، و في نفس الوقت سيضرّ بنا أشد الضرر أن ننطلق في جهود إعادة بناء مصر بتوجيه من الإدارة الأمريكية، التي لا تستهدف سوى مصالحها الراهنة و القادمة
علينا أن نعترف بأننا نمضي في سبيلنا بلا بوصلة، لذا ترانا ندور و ندور و نعود إلى حيث كنا، و قد أصبحنا أكثر إجهادا و إملاقا
بين الحزب و الجمعية
لم أكف عن المطالبة بأن نتّفق على رؤية مستقبلية لمصر، قبل أن نقدم على فعل شيء، قد يزيدنا تخلّفا . شرحت ـ بالتفصيل الممل ـ لماذا نحتاج الآن إلى هذه الرؤية المستقبلية، أكثر من أي وقت مضى .. و تابعت جهود الإصلاح و التطوير و التخطيط، و عشرات المؤتمرات و الدوائر المستديرة، فلم أجد الفهم أو النية اللازمين لوضع إطار هذه الرؤية المستقبلية
حتّى في الجهد الأخير لما أطلق عليه تقرير لجنة السياسات بالحزب الوطني، التي يرأسها جمال مبـارك، لم نجده يصدر عن رؤية مستقبلية واضحة، رغم أن بداية لجنة السياسات هذه كانت تحت اسـم " حزب المستقبل " . و حتّى عندما حمل هذا في ثناياه تهديدا لتفرّد الحزب الوطني، تحوّر الكيان الجديد إلى جمعية أهلية، تحت اسم جمعية " جيل المستقبل ".. مع كلّ هذا الإصرار الواضح على الانتماء إلى المستقبل، لم يتمخّض جهد الجمعية أو اللجنة عن رؤية مستقبلية واضحة، تكشف عن فهم هذه المجموعة من خرّيجي الجامعات والبنوك الأجنبية لطبيعة الواقع الحالي لمصر، بشفافية و أمانة.. كما لم تظهر لنا فهمها للطبيعة المحدّدة لانتقال البشر من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات، و انعكاس ذلك على مجالات الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسـية، و ما يستوجبه هذا من اسـتراتيجية شاملة لإعادة بنـاء مصر، وفق أولويات يفرضها هدف التغيير، و إمكانات الحركة
ضرورة الرؤية المستقبلية
لماذا الآن ؟، لماذا تصبح الرؤية المستقبلية ضرورة ملحّة في الوقت الراهن ؟
أولا :لأننا نمرّ بمرحلة تحول حضاري كبرى، تؤثّر على الجنس البشري بأكمله، و تقود إلى تغيرات جذرية كبرى في جميع مجالات حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الثقافية، عند انتقالنا من حياة عصر الصناعة إلى حياة عصر المعلومات
ثانيا :و هذا يعني أن خبراتنا السابقة، و خبرات الآخرين، لم تعد تفيد في التعامل مع أوضاع اليوم، و مواجهة المشكلات المستجدة المترتبة على التحولات الكبرى التي نعيشها ..لم تعد تفيدنا معلومات وخبرات كبار الأساتذة الذين وقف علمهم عند حد معارف المجتمع الصناعي، و لم يجدوا في أنفسهم القدرة على التنازل عن المعارف التي بنوا عليها أمجادهم، رغم فقدان تلك المعارف لقيمتها، و انقضاء صلاحيتها
ثالثا :نحتاج التوصّل إلى منهج تفكير، يفيدنا في استنباط طبيعة الحياة القادمة في أعقاب ثورة المعلومات، و كيف أنها تختلف جذريا عن طبيعة الحياة التي عرفها العالم في عصر الصناعة، بل و تتناقض معها في أغلب الأحوال
رابعا : و بالاعتماد على مؤشّرات التغيير الكبرى و المتزايدة التأثير، و مع الاستفادة من طبيعة التحول الكبير السابق الذي مرّت به البشرية في انتقالها من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة . و مع فهمنا الأمين الصادق للواقع المصري، دون مواربة أو تدليس، نستطيع أن نرسي إطار الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر
خامسا : و من هذه الرؤية المستقبلية، القائمة على المعرفة الواضحة لطبيعة حياة البشر في مجتمع المعلومات، نستطيع أن نستنبط طبيعة التعليم الذي نستهدفه، و الذي يساعد على إعداد إنسان عصر المعلومات، المتوافق مع الحياة في مجتمع المعلومات . و سنكتشف أنه يختلف جذريا عن تعليم عصر الصناعة، حتّى و هو في أحسن صوره .. و سنكتشف أن المطلوب ليس هو التجويد أو التطوير أو الإصلاح، بل نحن في أشد الحاجة إلى إعادة بناء شاملة للمنظومة التعليمية
سادسا : و ما نقوله عن التعليم، ينسحب أيضا على الأسرة، و الاقتصاد، و الإدارة، و الممارسة الديموقراطية، و الإعلام، و الثقافة، و الأخلاق و القيم السائدة . و سنجد أن التغيرات الكبيرة في جميع هذه المجالات تنبع من نفس المبادئ و الأسس التي تقوم عليها الرؤية المستقبلية
سابعا : الرؤية المستقبلية الشاملة التي أتحدث عنها، تكون مفيدة في تحقيق التوافق بين الاستراتيجيات و الخطط و التطبيقات .. و تضمن للمكاسب أن تظل محتفظة بفائدتها، و لا تتناقض مع أوضاع مستجـدة، لم نعمل لها حسابا . هذا المنـهج في العمل هو الحـدّ الأدنى للجهـد المطلوب في إطار التغيرات الجذرية المتسارعة، و هو السبيل إلى أن تصبح جهود البناء متكاملة
غياب التفكير المستقبلي، و العجز عن العمل وفق رؤية مستقبلية، هو السر في حالة الضياع التي نعيشها، رغم تغيّر القيادات، و توالي الأجيال، و تعاقب الخطط، و تناسخ السـياسات
النقل، و الجهل، و المصالح
لماذا لم تثمر دعاوى المستقبل، التي تكفّل بها عدد من خيرة مثقفينا ؟ .. هناك عدة أسباب أهمها
التعليم السائد : على مدى القرن السابق، كان يرسّخ التلقين، و يضعف قدرات التفكير و الابتكار عند الدارسين .. فتغلّب النقل على العقل، و اقتصرت معظم معارفنا على حكمة الأسلاف . و لقد ساهمت الحكومات المتعاقبة في ترسيخ هذا التوجّه، بالوقوف في وجه كلّ فكر جديد
الجهل الذي أعنيه هنا: هو الجهل بأهمية التكنولوجيات الابتكارية ( مثل الآلة البخاريةسابقا و الكمبيوتر حاليا)، في إرساء النظم و الأسس المجتمعية الجديدة، و أيضا القيم و الأخلاق و العقائد الجديدة . الجهل بأن النظم التي عشنا في ظلّها على مدى القرنين الماضيين، لم تكن خاطئة، و كانت متماشية مع طبيعة المجتمع الصناعي .. لكنها لم تعد صالحة في ظل الأسس المجتمعية الجديدة لمجتمع المعلومات
و بالمصالح، أعني تناقض المصالح : تسارع المعلومات و المعارف، يسقط نظريات، بل و يقضى على علـوم بأكملها، ليفتح الباب لعلوم جديدة .. من هو أستاذ الاقتصاد بالجامعة ـ على سبيل المثال ـ الذي يمكن أن يوافقك على أن النظم الاقتصادية التي تعلمها، و يعلمها، قد انقضت صلاحيتها، و أن عليه أن يدرس من جديد ؟ . و من هو المستفيد من سلطة الحكم الذي يمكن أن يوافقك على الانتقال من المركزية إلى اللامركزية، على سبيل المثال أيضا ؟
هذا الكلام ينسحب على الحكومة و حزبها، و باقي الأحزاب الشرعية، و باقي قوى المعارضة الحالية، السلفية و الجديدة .. و يمكن أن يكون لهذا الحديث بقية، إذا سلمت النيّات، و انفتحت العقول
No comments:
Post a Comment