Thursday, February 18, 2010

زراعة و صناعة في مجتمع المعلومات

عالم اليوم ـ إبريل 1997 ـ راجي عنايت

بالمعلومات وحدها
هل يمكن أن يحيا الإنسان ؟

قال بنبرة مهذّبة، يخفّف بها إستنكاره البادي " أتابع باهتمام ما تكتبه عن المستقبل في عالم اليوم، و لكن لم أستطع أبداً أن أهضم مسألة التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات، التي تشير إليها دائما في كتاباتك "، ثم إستطرد بلهجة أكثر حدّة قائلاً : كيف تريدني أن أتصوّر مجتمعا بلا صناعة و مصنوعات ؟! .. هل سنأكل و نرتدي و نستخدم في إتّصالنا و إنتقالنا (المعلومات) ؟
قلت له أنّه محقّ في تساؤله هذا . و أن اللوم فيه يقع على شخصي، نتيجة لكثرة ما كتبت عن المستقبل طوال ما يزيد عن 15 سنة . أكتب أحياناً، متصوّرا أن يكون القارئ قد إطّلع على بعض ماكنت قد كتبته، من شهور أو سنين ! . و قد يخفّف من لومي، أنّني اكتب احيانا متصوّرا القارئ و قد سبق له أن قرأ بعض كتبي عن المستقبل .. بعد هذه المقدّمة الإعتذارية، دعونا ندخل إلى لبّ الإجابة عن سؤال القارئ الصديق

صناعة و معلومات مجتمع الزراعة

عندما نتكلّم عن مجتمع الزراعة أو الصناعة أو المعلومات، فنحن نعني المجتمع الذي تحتلّ فيه مركز الثقل، في الإنتاج و الإقتصاد و العمل: الزراعة أو الصناعة أو المعلومات
في المجتمع الزراعي، كانت الزراعة هي محور الإنتاج و الإقتصاد . و كانت التكنولوجيّات الزراعية المتواضعة ملبّية لإحتياجات ذلك المجتمع . و كانت أسواق المقايضة البسيطة كافية لنشاطه الإقتصادي . وهذا لا يعني أنّ المجتمع الزراعي كان خالياً من الصناعات و المعلومات
كانت الصناعات في عصر الزراعة، تقوم على النشاط الحرفي، و في أغلب الأحيان كانت تتمّ وفقا للطلب المحدّد للمستهلك . الحدّاد يصنع سلاح المحراث للفلاّح الذي يطلبه . و في أحوال قليلة كان الحرفي ينتج عدداً محدودا من السلع التي يصنعها، فيمضي بها إلى سوق القرية ليقايض عليها بما يحتاجه من مأكل أو ملبس . كانت هذه بالتقريب صورة صناعة المجتمع الزراعي
و نتيجة لأن الحياة كانت بسيطة، و كذلك الإنتاج، فإن أبناء المجتمع الزراعي لم يكونوا محتاجين إلاّ لقدر محدود للغاية من المعلومات . خاصة و أن أنماط الحياة كانت مستقرّة و ثابتة، لأجيال و أجيال، وكان تطوير الحياة و العمل غاية في البطء، و التدرّج طويل المدى، بالنسبة لعامة الزارعين

ثورة الآلة البخاريّة

و فجأة، و بعد عشرة آلاف سنة من الإستقرار النسبي، ظهرت الآلة البخارية، أساس الإنتاج الميكانيكي، و ما تلاه من إنتاج كهروميكانيكي . و على أساس هذه الخطوة التكنولوجية، تغيّر كل شيئ في حياة البشر
و دون الدخول في التفاصيل الدقيقة، حدثت التغيّرات التالية في حياة الإنسان . أصبح النشاط الصناعي محتلاّ لمركز الثقل في إنتاج و إقتصاد البشر . و تحوّلوا من الإنتاج الحرفي، قطعة بقطعة، وفقاً للطلب، إلى إنتاج السلع المتطابقة على أوسع نطاق، الأمر الذي وفّرته آلات المصانع . و تحول ملايين البشر من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي . و قد ترتّب على هذا التوزيع و الإستهلاك على نطاق واسع، وأصبح العامل غير مدرك للمستهلك الذي يستفيد من إنتاجه، و في أي بلد أو قارة يقيم
و قد قاد هذا إلى عدّة أشياء جوهرية، لا مجال هنا لتفصيلها، و نحن نجيب على سؤال القارئ الصديق : نشأت الأسواق، بمعناها الجديد الذي نعرفه، أسواق السلع و المال و العمالة و الإستثمار . و تغيّر شكل الدولة، و تغيّرت ممارساتها، و طرقها في إتّخاذ القرار . ساد التغيير في التعليم و الأسرة و الإدارة و القيم
هل كانت هناك زراعة في المجتمع الصناعي؟، طبعاً نعم، لكنّها كانت مميكنة، و تدار أمورها وفقاً لنظم التعامل مع الإنتاج الصناعي . شكل جديد للإنتاج الزراعي، لا يحتلّ مركز الثقل في الحياة الإقتصادية، ويدار وفقا لتنظيمات المجتمع الصناعي، لكنّها - في جميع الحوال - كانت زراعة أكثر تطوّراً من السابق
و هل كانت هناك معلومات في المجتمع الصناعي ؟ طبعاً و بشدّة، فقد كان تطوير أوضاع الصناعة، وباقي إحتياجات المجتمع الصناعي، بما في ذلك الحروب الإستعمارية بين الدول الصناعية، تقتضي السعي الدائب لتوليد المعلومات و المعارف . إلاّ أن المعلومات و المعارف و مؤسّساتها في عصر الصناعة، كانت تخضع لنفس تنظيمات إنتاج السلع الصناعية، و تخدم أهداف المجتمع الصناعي

و ماذا عن مجتمع المعلومات ؟

نصل أخيراً إلى مجتمع المعلومات
نفس الذي حدث في بداية عصر الصناعة، حدث في بداية عصر المعلومات . تكنولوجيات إبتكارية جديدة، هي الكمبيوتر و أقمار الاتصالات (في مقابل الآلة البخارية)، تغيّر كلّ شيئ في حياة البشر، و تقود إلى ثورة المعلومات، التي جعلتها تحتلّ مركز الثقل في الحياة
و هنا أيضاً، قاد هذا إلى تغيّرات عديدة جوهرية في حياة البشر، نجملها هنا، من بينها : التحوّل من الإنتاج للسلع النمطية على نطاق واسع، إلى الإنتاج وفقا للطلب، بفضل الكمبيوتر الذي يسمح بتنوّع الإنتاج في حدود نفس التكلفة، لتغطية التنوع الهائل في الإحتياجات الحالية للمستهلكين . و التغيّـرفي الأساس الإقتصادي و الإداري . و كذلك التغير في معنى العمالة، و تحوّلها من العمالة العضلية إلى العمالة العقـليّة . ومنطق العملية التعليمية، و شكل الأسرة، و معنى الحكومة و طبيعة عملية إتّخاذ القرار، و في معنى السيادة و العلاقات الدوليّة، و في القيم السائدة بشكل عام

الصناعة في عصر المعلومات

و نصل الآن إلى لبّ السؤال المطروح : هل هناك زراعة و صناعة في مجتمع المعلومات ؟
و الإجابة أيضاً : نعم . رغم المعلومات يكون لها الثقل الإقتصادي الأكبر في مجتمع المعلومات، بحيث تحتلّ الصناعة و الزراعة مركزاً إقتصاديّاً أقل ثقلاً، إلاّ أن هذا لا يمنع وجود صناعة و زراعة في عصر المعلومات . تماما كما كانت هناك زراعة، في عصر الصناعة
إلاّ أن صناعة عصر المعلومات تتميّز بالخصائص التالية
أولا : صناعة قائمة على التكنولوجيات الإلكترونية، و الإدارة الرقمية إعتماداً على الكمبيوتر، و الروبوت أو الإنسان الآلي، الذي يتكفّل بمعظم الأعمال الروتينية التي كان يقوم بها عامل عصر الصناعة
ثانيا : تستخدم الأقل من المواد الخام و الطاقة، و تعتمد على مصادر الطاقة الجديدة و المتجدّدة كالطاقة الشمسية . و من ثمّ، فهي غير ملوّثة للبيئة
ثالثا : تستطيع أن تنتج تنوّعا من السلعة الواحدة، دون زيادة في التكلفة، تلبية للتنوّع المتزايد في البشر
رابعا : صناعات المعلومات لا يعتمد رواجها على الضخامة، بل تستفيد أكثر بالحجم الصغير
خامسا : لا تأخـذ بالإدارة البيروقراطية الهرمية، التي سيطرت على كلّ شيء في عصر الصناعة، و تعتمد على تنوّع من النظم الإدارية، مثل التنظيم الشبكي الذي ينسجم مع طبيعة العمل في مجتمع المعلومات
سادسا : عمالة صناعة المعلومات عمالة عقليّة، تتعامل مع الكمبيوتر و الأجهزة الإلكترونية، و تكون قادرة على التفكير الإبتكارى، و على حلّ المشاكل الطارئة
سابعا : تعترف بتنامي قطاع الإنتاج من أجل الإستهلاك الشخصي،(إصنعها بنفسك)، و تطوّر كل ما يحتاجه هذا الإنتاج من أجهزة و أدوات

زراعة عصر المعلومات

و كما كانت للزراعة أسس جديدة و منطق جديد في عصر الصناعة، فإن زراعة عصر المعلومات تجئ مختلفة عن هذا و ذاك
زراعة عصر المعلومات لا تقف عن حدّ الميكنة، بل تعتمد في تنمية الثروة الزراعية و الحيوانية على تكنولوجيات جديدة، و علوم جديدة، مثل العلم البازغ "الهندسة الوراثية" . و لهذا، تكون قادرة على تلبيــة الإحتياجات المتزايدة من الطعام، للتكاثر المطّرد في تعداد البشر
و زراعة المعلومات، تعتمد على تكنولوجيات المعلومات المتطوّرة، في الوصول إلى أفضل النتائج بمتابعة أحوال الطقس مسبقاً، و في تعظيم الإنتاج، و في التسويق، و في إدارة المزرعة ككلّ
و هذا يعني أن مجتمع المعلومات به زراعة، لكنّها زراعة أكثر تطوّراً و عائداً من أشكال الإنتاج الزراعي التي عرفها عصر الزراعة أو عصر الصناعة

* * *
أرجو أن يكون ما قلته هنا، كافيا لإقناع القارئ الصديق، أنّه لن يكون مضطّراً لأكل و شرب المعلومات، أو إرتداء و ركوب المعارف

No comments:

Post a Comment