عالم اليوم ـ 24مايو1997 ـ راجي عنايت
من الإعتماد على المؤسّسات
إلى الإعتماد على الذات
المنتهلك = المنتج المستهلك لإنتاجه
الإعتماد على المؤسّسات، أو الدولة، في جوهرها ظاهرة من ظواهر عصر الصناعة . قبل هذا، وخلال عصر الزراعة الطويل، كان إعتماد الفرد على الدولة ضعيفاً للغاية . كان الإنسان يفعل كلّ شيئ لنفسه و بنفسه . كانت الأسرة الزراعيّة دولة صغيرة، و وحدة إنتاجيّة إستهلاكيّة صغيرة قائمة بذاتها . كانت تنتج الطعام و تجهّزه و تأكله .. و تغزل صوف الماشية لتصنع منه ما تحتاجه من نسيج .. و تجهّز الخامات التي تبني منها البيت الذي تسكنه . يتعلّم فيها صغارها على أيدي الكبار، و تتكفل عجائز النساء بتطبيب الذي يمرض، و يوفر لها رجالها الأمن بعصيّهم أو أسلحتهم . و كانت الأسرة الزراعية تعتمد على المقايضة في الأسواق الريفية للحصول على ما لا تستطيع صنعه
مع بدايات المجتمع الصناعي تغيّرت الأوضاع .. تفكّكت الأسرة الكبيرة، و تحوّلت إلى مجموعة من الأسر الصغيرة، التي تتكوّن من الوالدين و إبنين أو ثلاثة، لكي تخدم إحتياجات العمل الصناعي، حيثما وجدت . سحب المجتمع الصناعي من الأسرة معظم ما كانت تقوم به من أعمال : فأوكل التعليم إلى المدرسة، و العلاج إلى المستشفى، و الأمن للجيش و الشرطة، و فضّ الخلافات إلى المحاكم . أصبح الإنسان ينتج ما لا يعرف من يستهلكه، و يستهلك ما لا يعرف من أنتجه . باختصار، إعتمد الأفراد على الدولة و على مؤسّساتها الكبرى في جميع ما يحتاجونه . و في المقابل، قامت الدولة بتنظيم البيروقراطيات التي تتكفّل بهذا
عجز الحكومة البيروقراطيّة
و منذ ما بعد منتصف القرن الماضي، تزايد إحساس الأفراد بأن الحكومة و مؤسّساتها، لم تعد تفي بمسئولياتها بالطريقة الكافية . و كان إحساس الأفراد صادقاً، فالحكومات الكبرى، و خاصّة في الدول التي كان غزو ثورة المعلومات لها سابفاً على غيرها، بدت كالآلة الخربة، تدقّ و تطرقع دون أن يظهر لها نتاج، و تبدو مترنّحة متخبّطة وسط شباك بيروقراطيّتها . في بداية الأمر، لم تدرك الحكومات سبب ما يحدث، وكافحت لسد الثغرات كلّما ظهرت في هيكلها، فلا تصل إلاّ إلى المزيد من المشاكل . و مع الوقت، بدأت الدول المتطوّرة تدرك أبعاد التغيّر الحادث، و عجز أجهزتها البيروقراطية عن مواصلة ما كانت تقوم به من قبل بنجاح
هذا عن الحكومة، فماذا عن الناس و الأفراد ؟
سأل الأفراد أنفسهم :من الذي نضع فيه ثقتنا إذاً ؟، و جاءت الإجابة على الفور : نضعها في أنفسنا .. علينا كأفراد أن نساعد بعضنا البعض في حل المشاكل التي تصادفنا، دون إنتظار أو تدخّل من الحكومة و مؤسّساتها الكبرى
سأل الأفراد أنفسهم :من الذي نضع فيه ثقتنا إذاً ؟، و جاءت الإجابة على الفور : نضعها في أنفسنا .. علينا كأفراد أن نساعد بعضنا البعض في حل المشاكل التي تصادفنا، دون إنتظار أو تدخّل من الحكومة و مؤسّساتها الكبرى
جماعات الخدمة الذاتيّة
مظاهر خدمة الذات عديدة، و في مختلف المجالات، و من بينها جماعات الخدمة الذاتيّة
في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ينتمي 15 مليون مواطن إلى 500 ألف جماعة للخدمة الذاتيّة، و رغم أن أرقامي هذه ترجع إلى ما يقرب من 50سنة، إلاّ أن بإمكاننا أن نتصور ما بلغته هذه الأرقام حاليّاً مع تنامي الظاهرة
الذين تواجههم مشكلة بعينها، أو يعانون من وضع معيّن، تجمّعوا تلقائيّا، و قرّروا أن يتعاونوا على حلّ هذه المشكلة، بالنسبة لكلّ منهم، مستفيدين من تبادل الخبرات في مجالها . هناك جمعيّات خدمة ذاتيّة لكل غرض يمكن أن تتصوّره، لحل مشاكل : الإحالة إلى المعاش، الترمّل، المعاناة من السمنة، إدمان الخمر أو المخدّرات، الإعاقة الجسديّة و العقليّة، الطلاق، إساءة معاملة الصغار..إلى آخر ذلك
بل أن خدمة الذات إمتدّت إلى الأمن، الذي يفترض أن الحكومة تتكفّل به كاملا . فبعد تضاعف عدد الجرائم في الولايات المتّحدة، في بداية الثمانينيّات، بدأ الناس يعتمدون على أنفسهم في الحماية من الجرائم، فتمّ تشكيل "جماعات حراسة الجيرة" في أنحاء البلاد . و تم في كلّ حيّ تنظيم دوريّات تمسح الحيّ بحثاً عن أيّ تحرك إجرامي . و في نفس الوقت، تصاعد عدد العاملين في قوّات الأمن الخاصّة، بشكل ملفت . لقد أصبحت وظيفة الشرطي الخاصّ تمثّل أكثر الوظائف تزايداً قي البلاد . بل أن بعض الذين يدرسون هذه الظاهرة، يقولون أن حجم الشرطة الخاصّة في أمريكا يبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف حجم الشرطة الحكومية
إصنعها بنفسك
و من مظاهر التحوّل إلى خدمة الذات، التنامي الدائم المنظّم لحركة " إصنعها بنفسك "، في جميع أنحاء العالم . و لعل أشهر مثال لها، محال السوبر ماركت التي يختفي فيها البائع، فيستعرض المشتري ما هو موجود، ليختار منه ما يحتاجه . الفكرة الأساسيّة في هذا، هي توفير أجور الباعة، في مقابل خفض ولو بسيط في سعر السلعة . و لو أنّني لا أرى هذا عندنا، فأسعار السوبرماركت تكون في أحيان كثيرة أعلى من سعر البقّال، أي ان المسألة عندنا تحوّلت إلى تقليعة
من ناحية أخرى، نرى شيوعاً لحركة "إصنعها بنفسك"، في مجالات النجارة و السباكة و الطلاء، وإصلاح السيّارة، بل و بناء البيت نفسه
المنتهلك : المنتج المستهلك
و من بين الإصطلاحات العديدة التي نحتها المفكّر المستفبلي آلفين توفلر، إصطلاح " المنتهلك "، أي الشخص الذي ينتج من أجل إستهلاكه الشخصي، كما كان الحال في المجتمع الزراعي، و كما هو الآن في جماعات خدمة الذات و حركة إصنعها بنفسك . و هو يقول أن إقتصاد الصناعة قد أهمل قطاع الإنتاج من أجل الإستهلاك الشخصي، رغم وجوده حتّى في أوج عصر الصناعة
على سبيل المثال، يقول أن الأعمال التي تقوم بها ربّة البيت، هي من قبيل الإنتاج من أجل الإستهلاك الشخصي . و هذه الأعمال تترجم إلى نقود، إذا ما كانت الزوجة عاملة، و مضطّرة إلى إستئجار من يقوم بالأعمال المنزلية . لكن حسابات الإقتصاد الصناعي لا يرد فيها شيئاً عن ذلك . و توصف ربة البيت بأنّها إمراة غير عاملة
و هو يقول أن حركة"إصنعها بنفسك" المتنامية، تفرض على خبراء الإقتصاد الإعتراف بقطاع الإنتاج من أجل الإستهلاك الشخصي . و يورد مثالا بسيطاً لتوضيح حجم هذه الحركة، في مجال مبيعات الأدوات الكهربائيّة، فيقول أن محترفي الأعمال الكهربائيّة كانوا منذ عشر سنوات يشترون70في المائة من هذه الأدوات، بينما يشتري الأفراد العاديّون 30 في المائة منها . أمّا الآن، فقد إنقلبت الآية، فأصبح هواة النشاط الذاتي يشترون 70 في المائة منها . و هو يشير إلى أن إرتفاع أجور الحرفيّين المتواصل وراء هذه النوعيّة من نشاط الإعتماد على الذات
المؤشّرات الكبرى
و في كتابه "المؤشّرات الكبرى"، يورد الكاتب المستقبلي جون ناسبيت عشرة إتّجاهات جديدة تحدث تحوّلا في حياتنا . و من بين هذه الإتّجاهات، يورد إتّجاه : من مساعدة المؤسّسة، إلى مساعدة الذات
و هو يطرح تطبيقات هذا التحوّل في عدّة مجالات، في الطب و التعليم و الإقتصاد و النشاط الإجتماعي و الطعام و الأمن والإستهلاك عامّة
في مجال الطب و العلاج، يشير إلى تنامي نشاط رعاية الذات، و ما يرتبط به هذا من سعي الإنسان إلى تغيير عاداته الشخصيّة لتوفير الصحّة، ممّا يعتبره أساسيّا في حركة التحوّل إلى الإعتماد على الذات . من بين هذا، ما يحدث في الولايات المتّحدة و الكثير من دول أوروبا، مثل الإقبال على التمرينات الرياضيّة المنتظّمة، و الإقلال من الدهون، و الإنخفاض الواضح في عدد المدخّنين، و التحوّل من شرب الكحوليّات القويّة إلى الخفيفة، و الإنتشار الواسع لمحال الطعام الصحّي
و هو يشير إلى التصاعد الشديد في إستخدام أجهزة القياس الطبّي المنزلية، و من ثم الإهتمام بإنتاجها . مثال ذلك أجهزة قياس الضغط، و السكّر، و الكشف عمّا إذا كانت المرأة حامل أم لا . بل و يقول أن جمعيّة السرطان الأمريكيّة، ترسل بالبريد مقابل مبلغ زهيد، جهازا للكشف عن السرطان، لمن يطلبه
و في مجال التعليم، يقول ناسبيت أن إنخفاض مستوى الخدمات التعليميّة في أمريكا، قاد إلى تحويل التعليم بنسبة ملموسة من المدرسة إلى البيت، إعتمادا على الكمبيوتر و غيره من الوسائل التعليميّة المتطوّرة، إمّا كنشاط إضافي للمنهج الدراسي، أو كتمرد على لقوانين التعليم الإجبارية . و في السبعينيّات، كتب خبير التعليم جون هولت: كنت أقول أصلحوا التعليم .. ثم أصبحت أقول للناس أقيموا مدارسكم الخاصّة .. والآن أقول خذوا أولادكم بعيدا عن المدرسة
* * *
الأمثلة كثيرة، و كلّها تؤكّد أن التغيّرات التي تحدث في حياة البشر، نتيجة للدخول في عصر المعلومات، تقود إلى تنامي الإنتقال من الإعتماد على الدولة و مؤسّساتها، إلى الإعتماد على الذات .. هل يؤثّر هذا على الدولة ؟ ، نعم و بشدّة، و هو مع غيره يطرح فهماً جديداً للدولة و الحكومة وعمليات إتّخاذ القرار
No comments:
Post a Comment