Monday, October 12, 2009

من الذين يمكن أن نعتمد عليهم ؟

نهضة مصر (الخميس 7 إبريل ) راجي عنايــت

هيكل .. و المستقبل .. و حكاية الحب العذري

من الذي عجز عن الخيال و الحلم
و تراجع عن معركة المستقبل ؟

منذ حوالي أسبوع، ظهر محمد حسنين هيكل على شاشة قناة الجزيرة ليقول أننا ـ كعرب ـ تخاذلنا، و آثرنا أن نتجمّد، و أننا عجزنا عن الخيال و عن الفعل، و ارتضينا ثقافة الهزيمة .. و يقول أن الآخرين دخلوا معارك المستقبل، بينما بقينا نحن بلا حـراك، و قد خلق الجمود الطويل فجوة في الأفكار و التصوّرات .. و أنا أتّفق معه في كل هذا، لكنّي أرى أن هيكل هو أحد الذين ساهموا في مسيرة العجز عن الخيال و الحلم، و أحد الذين حاربوا لكي تتعطّل مسيرتنا إلى المستقبل
.. و لنبدأ القصّة من أوّلها
قبل أن نناقش ما ورد في حديث " الجزيرة " من أفكار، و ما تضمنّه من استطرادات، و حكايات عن علاقته الوثيقة بالعظماء، أدخلتنا في العديد من المتاهات، أقول أن هذا كان دائما دأب هيكل منذ وفاة عبد الناصر، و بعد أن فقد أهم دعم لأقواله، بخروجه من مطبخ الرئاسة . أمّا عن علاقته بالمستقبل و بالرؤية المسـتقبلية، فأزعم أنني كنت شاهدا على ذلك طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، و قد كتبت ـ أكثر من مرّة ـ أحاول تشجيعه على الانضمام إلى كتائب التفكير المستقبلي، عندما لاحظت أنه ينهي مقالاته بما معناه " دعونا نترك الماضي و حكاياته، و الحاضر بآلامه، و نتّجه إلى لمستقبل

سذاجتي هي السبب
لا أدري، هل هي سذاجتي، أم رغبتي في كسب أنصار للتفكير المستقبلي، هي التي جعلتني أصدّق جملته الختامية، و أتصوّر جدّيته في نيّة التوجّه للمستقبل ؟ ..المهم، عندما تكرر هذا الموقف، كتبت تعليقا صغيرا في باب : ( مستقبليات ) بمجلة " المصوّر "، تصوّرت فيه هيكل رياضيا ممشوقا يرتدي لباس البحر، و ينطلق على الشاطئ، نحو البحر .. لكن عندما يقترب منه يمد إصبع قدمه في الماء، و ما أن يشعر ببرودته، حتّى يرتدّ مبتعدا .. و من هنا جاء تعبير حبّه العذري للمستقبل .. يحبّه و لا يقربه
غير أن تجربتي الأكبر جاءت في وقت كنت أوقن فيه أن هيكل لا يحب و لا ينوي و لا يقدر على خوض مجال التفكير المستقبلي . فقد دعوت في مقالي الأسبوعي إلى تكوين جمعية للمستقبل العربي، أسوة بجمعية مستقبل العالم، و مقرّها واشنطن، و التي أنتسب إلى عضويتها منذ سنوات طويلة . و كان الأمير طلال بن عبد العزيز من بين من استجابوا لدعوتي متحمسا . و هكذا، بدأت معه جهدا جادا لتكوين جمعية مستقبل العالم العربي، فاقترحت عدة أسماء من المفكرين العرب الذين أعرف اهتمامهم بالمستقبل، في البحرين و الكويت و تونس و المغرب و لبنان . و أضاف الأمير بعض الأسماء العربية المعروفة في مجال النشاط السياسي، فلم أر ضيرا في ذلك مع إدراكي للتناقض بين منهج السياسي و منهج المفكّر .. و تمنيت أن ينجح الطرح المستقبلي في الجمعية من كسب أنصار جدد للتفكير المستقبلي
الفريك، و كرسي في الكلوب

و كان اسم محمد حسنين هيكل من بين الأسماء التي اقترحها الأمير . أبديت له شكّي في قبول هيكل العمل وسط مجموعة، و كيف أنه مثل " الفريك " لا يحب أن يكون له شريك، فوعدني الأمير أن يتولّى هو الاتصال بهيكل و إقناعه بالمشاركة
و بعد مرور سنتان من الإعداد و الاتصالات بالمفكرين في العالم العربي، شعرت أن العمل متوقّف، فسألت الأمير و وجدته متحيّرا . ثم صارحني أخيرا أن هيكل رفض الفكرة من أساسها و قال للأمير " عندنا جمعيات مستقبل كتيرة .. هوه إحنا ناقصين " . و نصح الأمير بصرف النظر عن هذه الفكرة
تساءل الأمير عن سرّ هذا الموقف الذي اتخذه هيكل .. لم أحب أن أردد على مسامعه التعبير التقليدي " مش أنا كنت قلت لك ؟! "، و قلت له هيكل يستمد أمجاده من الحديث و الكتابة عن الماضي أساسا، و هو يقف عند الحاضر على أكثر تقدير .. و قد تأسس لديه منهج خاص في التفكير، لا يتيح له ـ مع السن و الاعتياد ـ أن يتقبّل منهجا جديدا في التفكير . بالإضافة إلى تضخّم ذاته، الذي لا يسمح له بالدخول في أي عمل جماعي
و كانت هذه نهاية فكرة مستقبل العالم العربي ..
ثم يجيء هيكل و يقول في حديثه على قناة الجزيرة " الآخرون يدخلون معارك المسـتقبل .. و نحن باقون .."، و يقول " لقد آثرنا أن نتجمّد .. عجزنا عن الخيال، و عجزنا عن الفعل .." . و أنا أتساءل : من الذي أحجم عن دخول معارك المستقبل ؟، و من الذي تجمّد ؟ .. أليس هو هيكل و النظم التي اعتاد أن يساندها و ينظّر لها، و يبرر مثالبها ؟

من الحريري إلى بوتو إلى كسينجر

ماذا فعل هيكل في حديثه إلى قناة الجزيرة ؟، فعل ما كان يفعله دائما في أحاديثه السابقة، و هو خارج أحضان السلطة، فيما عدا استثناء هام، هو أنه سمح لقناة الجزيرة أن تشرك معه واحدة من مذيعاتها في الصورة !، الأمر الذي كان يرفضه دائما . و مع ذلك فقد نجح هيكل في إبطال مفعولها، بمنعها من إنهاء أي كلام تقوله، كانت تستهدف به إعادته إلى مسار الحديث الذي كان قد اختاره . و الاستطراد الدائم ظاهرة في أحاديث هيكل دائما، و يدفعه إليه الرغبة في التذكير بوضعه المتميز بين الكبار، مثل الحريري في يخته، و بوتو في حديقته، و هنري كسينجر الذي يدمن الإشارة إلى أحاديثه معه
حديث هيكل الأخير نموذج واضح لخطورة غياب الفهم المستقبلي، و عدم الاعتماد على رؤية مستقبلية شاملة، تدخل في الاعتبار جوهر التغيرات المتسارعة التي نعيشها منذ منتصف القرن الماضي، و الترتيب السليم لأولويات تلك التغيرات . غياب ذلك الفهم، هو الذي يوقعه في تصنيفات بعض الأدبيات الغربية، حول معركة القرن، و قرن البترول و الشرق الأوسط، ثم أخيرا القرن النووي
لكي نفهم حقيقة ما يجري، علينا أن نتوقّف عن اعتبار التاريخ، دول و ملوك و رؤساء و حروب، و شخصيات لامعة من عينة كسينجر و صدر الدين خان و بوتو و الحريري .. و أن ننظر إلى التاريخ باعتباره تطوّر مجتمعات، و تطور للتكنولوجيات الابتكارية الأساسية التي تقوم عليها حياة البشر في زمن ما ( مثل الآلة البخارية في عصر الصناعة، و الكمبيوتر في عصر المعلومات )، و الأسس المجتمعية التي يفرضها الاعتماد الواسع على تلك التكنولوجيات
أمّا قصة القرن الجديد، أو القرن الأمريكي الجديد، التي يقول هيكل أنه لم يفهمها أول الأمر، فهي قد نشأت من أدبيات جماعة المحافظين الجدد، التي تضم غلاة الأصوليين اليهود و المسيحيين، و تستطيع أن تتابع أفكارها و حواراتها في مطبوعات البنتاجون ( راند )، بيانات ديك تشيني، و حوارات مجلة " ناشيونال انتريست "، المعبرة عن أفكار تلك الجماعة .. و هي الأفكار التي تخضع لها الإدارة الأمريكية، و تمضي كالمنوّمة وفقا لأهدافها
لا يوجد هناك شيء اسمه قرن الشرق الأوسط و البترول، كما لا يوجد قرن آسيا و السلاح النووي، و مشروع القرن الأمريكي الجديد يقوم على ستّة مبادئ أساسية : مواجهة الإرهاب ـ مواجهة انتشار أسلحة الدمار الشامل ـ ضمان التحكّم في إمدادات و أسعار البترول ـ ضمان استقرار نظم الحكم الصديقة ـ تأكيد أمن إسرائيل ـ تشجيع الديموقراطية و حقوق الإنسان
خاتمة عصر و افتتاحية عصر

الغريب أن هيكل كان قد قال في أحد مؤتمرات المعهد القومي للإدارة العليا " لنتّفق في البداية على أننا أمام متغيرات هائلة لا ترتبط بالانتقال من قرن إلى قرن .. و إنّما هو خاتمة و افتتاحية عصر في مسيرة التاريخ .."، فما الذي جعله يرتد إلى حديث القرون ؟
في حديثه للجزيرة قال هيكل " واجب تغيير الدستور و ليس تعديله"، و " كل الحياة السياسية في مصر تجمّدت"، و النظام كلّه لازم يتغيّر .." . و أنا أوافقه في هذا كلّه، و أمضيت حوالي ربع قرن أردده في كتاباتي، لكن السؤال الذي يلحّ عليّ هو : هل يعرف هيكل ما هو البديـل المعاصر للنظـام الذي ينادي بتغييره ؟ .. و من هم الذين يمكن أن نعتمد عليهم في مصر لطرح أسس التبديل ؟ .. " . من واقع حديثه للجزيرة أرى أنه آخر من يصلح لهذه المهمة، أو يصلح لاختيار من يقوم بها

No comments:

Post a Comment