نهضة مصر ( عدد الخميس 15 يوليو1979 ) راجي عنايــت
الإصلاح لن يفيدنا
و ليس أمامنا سوى إعادة البناء الشامل
المولد منصوب، و صاحبه ليس غائبا .. لأنّه الشــعب المصري، صاحب المصلحة الأولـى فيما يجري على أرض مصر . " المكلمة " مفتوحـة على مصراعيها لكل من هب و كل من لم يدب .. و الكل يزعم ـ صادقا في بعض الأحيان ـ أن لديه العلاج الشافي لمشـاكل مصر .. دكاترة المستوصف الاسـتراتيجي، و أركان الحزب الوطني، و أقطاب الحلّ الإسلامي، ارتدوا جميعا زيّهم الرسمي، و اندفعوا بكل حماس إلى الصحف و الميكروفونات و الكاميرات، يترنّمون بحكمتهم التي ساهمت طويلا في الإبقاء على تخلّفنا، مع ازدهار أحوالهم .. بعد أكثر من عقدين، من السعي الجاد لشرح سـرّ تخلّفنا، و الحديث عن الرؤية المستقبلية التي تضمن خروجنا من ذلك التخلّف، أراني مضطرا إلى تكرار ما سـبق أن قلته عن أهمية الفهم الشامل الأعمق قبل الحركة
منذ أكثر من عشرين سنة، قلت ـ و ما زلت أقول ـ أن الذي نحن بصدده، ليس زيادة في ذلك و نقصا في هذا . إننا بصدد قانون جديد لحياة البشر، يختلف تماما ـ إن لم يتناقض ـ مع القانون الذي حكم حياة البشر على مدى القرون الثلاثة السابقة . لهذا، لا يجوز لنا أن نتحدّث اليوم عن الإصلاح، و التجويد و التطوير، فهذه أمور كانت ممكنة عندما كانت حياة البشر تخضع لنفس القانون، مع بعض التغيّرات غير القوية أو الجذرية . مثلما كان يحدث في ظل سيادة المجتمع الصناعي، في النصف الأوّل من القـرن الماضي ، على سبيل المثال . في ذلك الوقت، كان من المفيد أن نتعرّف على المستجدّات، لنعدّل و نطوّر و نصلح حياتنا وفقا لتلك المستجدات .... الإصلاح أيا كانت طبيعته، لن يفيدنا الآن، إننا ـ حاليا ـ بصدد عمليات إعادة بناء شاملة
نظام جديد لحياة البشر
أوّل ما يجب أن نفهمه، هو أنّنا بصدد نظام جديد لحياة البشر، في كلّ أنحاء كوكب الأرض، بشكل لم يحدث له مثيل طوال التاريخ البشري . لقد شهد العالم منذ أكثر من قرنين تغيّرا أساسيا في الانتقال من الحياة الزراعية إلى الحياة الصناعية، و سادت أسس المجتمع الصناعي الكثير من دول العالم، من نمطية و مركزية و تركيز و سعي إلى النهايات العظمى، إلى آخر ذلك، لكن كان من الممكن أن تعيش شعوبا بأكملها متمسّكة بنظم حياتها القبلية البدوية أو الزراعية أمّا اليوم، و في ظل التطورات التكنولوجية الأساسية في مجال المعلومات و الانتقالات و الاتصالات، فلم يعد يمكن لأي شعب، مهما صغر عدده، أو بعد موقعه، أن يعتذر عن اللحاق بركب النظام الجديد القائم على احتياجات مجتمع المعلومات، أو أن يتخلّف عن تحديات عمليات إعادة البناء الشاملة المطلوبة من الجميع . لا معنى اليوم للقول بأن طبيعتنا الخاصّة، أو هويتنا التاريخية، تجعلنا نمتنع عن السير في هذا الركب البشـري العالمي .. و السر في هذا أن النظام الجديد لمجتمع المعلومات يتّسع لجميع الاختلافات التي لم تكن لتتقبّلها أو تسمح بها نمطية و قولبة المجتمع الصناعي
و إذا كانت الإدارة الأمريكية في الكثير من ممارساتها الانتهازية، تطلق كلمات حق يراد بها عين الباطل، فلا يجب أن يمنعنا هذا من التفكير فيما يجب أن تقوم عليه حياتنا، حتّى لو كان شبيها بما تنطق به
التفكير بنظام القطعة
لن ينفعنا، في الوضع الذي أشرت إليه، أن نفكّر بالقطّاعي، أو بنظام القطعة، كما أرى في معظم ما يطرح من أفكار، في مواجهة " الزعقة " الأمريكية القاسية، التي اهتزّت لوقعها النظم العربية الحاكمة، و تاه مسار القلم في أيدي الكتّاب و المفكّرين بين الإنكار و الرضوخ، و بين الدفاع عن الأنظمة القائمة و المشاركة في الوليمة الأمريكية
قلت، و سأظلّ أقول، أن أوّل ما نحتاج إليه هو رؤية شاملة لمستقبل مصر
تنطلق من معرفة أمينة بالواقع الحالي لمصر، بعيدا عن الدعايات الإعلامية المضللة، و عن شعارات " حضارة خمسة آلاف سنة "، و " خير أمّة أخرجت للناس ، و " ريادة الأمّة العربية "، إلى آخر ذلك من مثل هذه الشعارات التي لم يعد يفيدنا ترديدها
كما تنطلق من التعرّف على طبيعة التغيّرات الأساسية ـ متزايدة التأثير ـ التي تمرّ بها البشرية حاليا، نتيجة للدخول إلى عصر المعلومات
و فهم طبيعة العلاقات متبادلة التأثير بين هذه المتغيّرات الأساسية، للتعرّف على أسس و مبادئ مجتمع المعلومات، الذي يحلّ محلّ مجتمع الصناعة الذي عرفناه، و يتناقض معه في معظم الأحيان
ضرورة الرؤية المستقبلية
تتشكّلّ الرؤية المستقبلية من أمرين : الفهم الأمين لنقطة الانطلاق، أي الواقع الحالي لمصر، أيّا كان . و من الفهم الشامل العميق للهدف الذي نسعى إليه، أي مصر المستقبل و تكمن أهمّية و ضرورة الرؤية المستقبلية لمصر في أنّها الأداة الفعّالة لتنظيم عمليات إعادة البناء الكبرى، التي ستطال جميع جوانب و مؤسسات حياتنا . الرؤية المستقبلية، هي المنهج الذي يضمن لنا ألاّ تتناقض جهودنا في مجال من مجالات حياتنا، مع مجال حيوي آخر . و هي التي تيسّر لنا أن نضبط أولويات عملنا عند الشروع في إعادة البناء، و تضمن لنا التناسق في جهودنا، كما أنّها تكون ( المسطرة ) التي نعتمد عليها في قياس مدى مطابقة تفاصيل جهودنا للأهداف التي ارتضيناها
اكتمال الرؤية المستقبلية لمصر، هو الخطوة الأولي لفتح الباب أمام مساهمات الجميع في أفكار إعادة البناء، وفقا لخبراتهم الخاصة و تجاربهم الشخصية . لن تنفعنا الآن اجتهادات المختصّين المخلصين، الذين قامت خبراتهم على أسس و مبادئ عصر الصناعة التي سادت لأكثر من قرنين .. لن تنفعنا ـ قبل وضوح الرؤية المستقبلية لمصر ـ أفكار خبراء الاقتصاد، الذين استمدّوا خبراتهم من واقع اقتصاد عصر الصناعة، و لا أفكار شيوخ و جهابذة التعليم الذين قامت خبرتهم على تعليم فقد أركانه في وجه عصر المعلومات . و نفس الشيء يقال عن خبراء الإدارة و الإعلام، و الممارسة السياسية
لهذا، أقول بعدم جدوى ( المكلمة ) المنصوبة حاليا، في الإذاعة و التلفزيون و الصحافة و لجان الحزب الوطني، مع اعترافي ببلاغة و مهارة معظم المشاركين فيها، و إخلاص بعضهم .. لماذا ؟ لأن المشاركين في تلك المكلمة يبدون كفاقدي البصر الذين صادفوا فيلا لأوّل مرّة في حياتهم، و راح كلّ واحد منهم يصفه، وفقا للعضو أو الجانب الذي وقعت يده عليه
الرؤية المستقبلية لمصر، هي البصر و البصيرة، للمخلصين من بين هؤلاء
لهذا، أقول بعدم جدوى ( المكلمة ) المنصوبة حاليا، في الإذاعة و التلفزيون و الصحافة و لجان الحزب الوطني، مع اعترافي ببلاغة و مهارة معظم المشاركين فيها، و إخلاص بعضهم .. لماذا ؟ لأن المشاركين في تلك المكلمة يبدون كفاقدي البصر الذين صادفوا فيلا لأوّل مرّة في حياتهم، و راح كلّ واحد منهم يصفه، وفقا للعضو أو الجانب الذي وقعت يده عليه
الرؤية المستقبلية لمصر، هي البصر و البصيرة، للمخلصين من بين هؤلاء
كيف .. و من .. و هل ؟
السؤال الذي يطرح نفسه : كيف نصل إلى الرؤية المستقبلية السليمة لمصر ؟ ..
و من الذي يوكل إليه أمر وضع تلك الرؤية ؟ .. و هل من الممكن أن يتم مثل هذا الجهد العلمي العقلي بطريقة ديموقراطية ؟
هنا يأتي دور شباب مصر المستنير، الذي لم تلوّثه انتهازية الحياة السياسية الراكدة . و الشباب الذي أعنيه لا يقتصر على شباب العمر، فأنا مدرك لمدى التخريب الذي خضعت له أجيال من شباب مصر . عندما أقول شباب مصر أرجو أن نستبعد تماما صورة منظمة الشـباب التي قامت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، و تحوّلت بفضل من قاموا عليها ـ و ما زالوا يحكموننا ـ إلى معمل للتفريخ الانتهازي
الشباب الذين أعنيهم، و أصادفهم كثيرا في مختلف التخصّصات، كسروا قوقعة النمطية التي فرضت عليهم منزليا و مدرسيا و سياسيا، فاكتسبوا قدرات ابتكارية تمكّنهم من النظر إلى الأشياء بعين جديدة، متخلّصة من شوائب الجمود الفكري
فالتفكير في الرؤية المستقبلية، يحتاج إلى الاعتماد على أمرين : التفكير الناقد، و التفكير الابتكاري .
التفكير الناقد يتيح للعقل البشري أن يتخلّص من أسر القديم المنصرم، ليقوم البناء الفكري على أساس سليم، منسجم مع مرحلة لتطوّر الحضاري التي يمرّ بها الجنس البشري .. يتيح له أن يمتحن الافتراضات التي قام عليها فكره، ليرى ما سقط منها، و ما بقي صالحا للاعتماد عليه .. كما يتيح التعرّف على السياق الذي تخرج منه الافتراضات و الأفكار و امتحان مدى صلاحية ذلك السياق حاليا .
و التفكير الابتكاري، يتيح لنا أن ننظر إلى مشاكلنا من نقطة جديدة، خارج مسار فكرنا التقليدي، ممّا يتيح لنا الوصول إلى حلول غير مسبوقة لمشاكلنا، لم نكن نعلم عنها شيئا
و التفكير الابتكاري، يتيح لنا أن ننظر إلى مشاكلنا من نقطة جديدة، خارج مسار فكرنا التقليدي، ممّا يتيح لنا الوصول إلى حلول غير مسبوقة لمشاكلنا، لم نكن نعلم عنها شيئا
* * *
الشعور العام بأن وقت التغـيير قد حان أخيرا، لا يجب أن نبدّده، بتغيير الأفراد، أو تغيير التنظيمات في الأجهزة التنفيذية و التشريعية و السياسية، دون أن يقوم ذلك على رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع من فهم أمين للأرض التي نقف عليها، و إدراك شامل لطبيعة مجتمع المعلومات الذي نمضي إليه
No comments:
Post a Comment