العالم اليوم ـ عام 2004 ـ راجي عنايت
..من العمل التعيس
! إلى العمل الممتع
في أواخر خمسينيات، و أوائل ستينيات القرن العشرين، صاحب ظهور آلات التسيير الذاتي، أو الروبوت، في الدول المتطوّرة، تغيّرا كبيرا في مفهومي " العمـل " و "البطـالة "، كما عرفا على مدى ما يزيد عن قرنيـن، هما عمـر عصر الصناعة . كما ترتّب على ذلك الأخذ بنظم إدارية و تنظيمية جديدة تماما، لم تكن معروفة من قبل . و الأكثر من هذا، أن التحوّل الكبير في طبيعة العمل قاد إلى ضرورة تغيير الأسس و النظم التي قام عليها التعليم، في مختلف مراحله
معظمنا يعرف الحياة التي عاشها العمال، في ظل سيادة مبادئ و أسس المجتمع الصناعي، و التي ما زالت سائدة في الكثير من الدول النامية .. العمل اليدوي المتكرر أمام خطوط التجميع . يقوم فيه العامل بجزئية بسيطة من العمل، تتكرر كل ساعة و كل يوم و كل سنة، لا تحتاج منه إلى أن يعمل عقله أو يفكّر، دون أن يعرف شيئا عن العلاقة بين ما يفعله، و ما يقوم به غيره من العمال من حوله .. كل ما عليه هو أن يبدأ العمل مع صفارة المصنع، و يتوقّف عندما تنطلق، ليأخذ راحة، أو يتناول طعام غذائه، أو ينصرف بعد انتهاء العمل، خلال ذلك يكون عليه أن يطيع رئيسه المباشر في مكان العمل ( رئيس العمال أو الفورمان )، و ألاّ يحاول تخطيه لمن هم أعلى من الرئاسات ..حياة تعيسة فعلا، و لكن لم يكن أمام العامة من أبناء الشعب سواها
تكنولوجيا المعلومات
لم يبدأ حدوث التغيّر في تلك الظروف، إلاّ بعد قيام ثورة المعلومات، و التوصّل إلى تكنولوجيات المعلومات غير المسبوقة، مثل الكمبيوتر، و الإدارة الرقمية، و الروبوت . فما الذي فعلته هذه التكنولوجيات المعلوماتية في البشر، و في مجال العمل بشكل خاص ؟
أولا : جميع الأعمال الروتينية، في المصنع أو المكتب، تمت برمجتها، بحيث يستطيع الإنسان الآلي أو الروبوت أن يتولاّها نيابة عن الإنسان . و ظهر أن الروبوت يقوم بهذه الأعمال على أفضل صورة، و بمنتهى الدقة، لا يكل و لا يمل و لا يشكو أو يتراخى . أي أن الروبوت أصبح يقوم بهذه لأعمال الروتينية بطريقة أفضل من الإنسان
ثانيا : ومع دخول الإدارة الرقمية و الكمبيوتر، و الروبوت الذي يتحكّم فيه الكمبيوتر، إلى مجال العمل، و توليه جميع الأعمال العضلية و الروتينية، التي كان العامل يقوم بها طوال عصر الصناعة، بقي للبشر شكل جديد من العمل، هو العمل العقلي أو المعـرفي، الذي يحتاج إلى إعمال العقل و الابتكار، و التصـدّي للمشاكل كلما ظهرت، و التفكير في بدائل الحلول الممكنة لكل مشكلة، و اختيار الحل الأنسب، و تطبيقه، ثم التثبّت من سلامة الاختيار
علاقة جديدة مع مجال العمل
ثالثا : و هذا هو ما نعنيه بالعمل الممتع، باعتبار أن نوع العمل العقلي الجديد، يتضمّن احتراما لآدمية الإنسان، و لقدراته العقلية . أضف إلى ذلك أن العمل العقلي يعفي العامل الجديد من التحكّم الذي كان صاحب العمل يمارسه على العامل العضلي، في عصر الصناعة . لم يعد العامل المعرفي، كسابقه، قابل للاستبدال، بالسهولة التي كان يتم بها هذا من قبل . كان من الممكن الاستغناء عن أي عامل يرى صاحب العمل تجاوزه لحدّه، بطلب رفع أجور العمال، أو تحسين ظروف العمل . و كان يستطيع الاستعاضة عن المستغنى عنهم في ظرف ساعات قليلة، يتدرّب فيها العمّال الجدد، على العمل الروتيني المطلوب منهم ... لكن، العامل المعرفي، الذي يجلس أمام الكمبيوتر، ليضع برنامجا لإدارة جانب من العمل، أي ليبتكر إضافة هامة للعمل، لا يمكن الاستغناء عنه بسهوله، أو استبداله بعامل آخر، يواصل نفس المهمّة . و هذا يؤثّر بالضرورة على العديد من الثوابت التي قامت في عصر الصناعة، بالنسبة لمجال العمل، من ذلك وضع نقابات و اتّحادات العمال، و مدى حاجة العامل العقلي الفرد إلى مثل تلك التنظيمات
رابعا : و العامل المعرفي لا يخضع في عمله للتقييم الكمّي الذي خضع له العامل العضلي في عصر الصناعة. كان بإمكان صاحب العمل أن يحدد للعامل حدّا أدنى من العمل المتكرر الذي يقوم به يوميا، إذا نقص عمله عن ذلك يمكن أن يعاقب ماليا، و إذا زاد عنه لقي التكريم، و ربما بعض المزايا المادية . لكن العامل المعرفي أو العقلي الجديد لا يخضع لهذا القيد، لأنه يبتكر، و لا يمكن لصاحب العمل أن يقول له ابتكر أكثر أو أسرع . و هذا هو ما نشهده في المجالات التي يشيع فيها العمل العقلي . و يصف هذا الجو الكاتب المستقبلي آلفن توفلر، بعد زياراته لمصنع كمبيوتر في (سيليكون فالي )، فيقول : المكان نظيف وهادئ، مناضد العمل مزينة بالورود و النباتات و الصور العائلية و التحف الخاصّة . و العامل يستمع إلى الموسيقي التي يحبّها أثناء عمله، من خلال سماعات (الووكمان ) الخاص به
نظام تعليمي جديد
هذا العامل الذي يمارس العمل العقلي، يحتاج بالضرورة إلى نوع من التعليم، يختلف اختلافا كبيرا عن التعليم الذي كان يستهدف إعداد العامل العضلي ( و هو التعليم الذي ما زالت الكثير من المجتمعات ـ و من بينها مصر ـ تأخذ به، بصرف النظر عن انقضاء أهدافه ) . التعليم العام الذي أخذ به عصر الصناعة كان مصمما لتخريج أجيال من العاملين في المصانع و المكاتب، قادرة على أداء العمل الروتيني المتكرر، دون فهم لعلاقته بما قبله أو بعده، استجابة لأوامر الرئيس المباشر التي لا تناقش، و لمواعيد العمل الدقيقة التي يقتضيها العمل المشترك على خط التجميع . لكن إعداد العامل العقلي أو المعرفي يقتضي نظاما مناقضا تماما للنظام الذي ساد في عصر الصناعة.. نظاما يعد الدارس لكي يصبح مبتكرا مبدعا مبادرا، متحملا للمسئولية، قادرا على اتخاذ القرار، بالنسبة للمشاكل التي تعرض له
نظام إداري جديد
هذا التحوّل في العمالة، من العضلية إلى العقلية، و ما صاحبه من انقضاء لجدوى النمطية، و ميل إلى المزيد من التنوّع و التباين و الاختلاف بين الأفراد، و انتهاء لمصداقية البيروقراطية و نظم التسلسل الهرمي، التي شاعت في كلّ جوانب الحياة الصناعية، يقود إلى ضرورة الأخذ بنظم إدارية غير مسبوقة، و لا تشبه تلك التي أخذنا و نأخذ بها حاليا
و الذي نمضي إليه لن يكون نظاما واحدا نمطيا، حتّى مع اختلافه عن النظام الذي شاع في عصر الصناعة، بل سيكون ـ نتيجة للتنوّع و التشظّي في المجتمع الذي تحدثنا عنه ـ على شكل العديد من الأشكال التنظيمية الجديدة .. و تبعا للتنوّع في أشكال النشاط الاقتصادي، سنجد إلى جانب الاقتصاد العام أو الخاص، أو المشترك، سنشهد ذلك التنوّع الذي قد يتضمّن أيضا " التعاونيات الإلكترونية "، أو جماعات الإنتاج الصغيرة على أساس عائلي أو ديني
كذلك سنشهد صحوة قوية للإنتاج من أجل الاستهلاك الشخصي، الذي كان سائدا على امتداد عصر الزراعة، و اختفى مع سيادة عصر الصناعة . و هذا النوع من الإنتاج، تقول الأرقام أنه آخذ في الازدهار، مع انتشار الآليات المساعدة على تحقيق شعار : اصنعها بنفسك
* * *
كل هذه التحولاّت جاءت نتيجة لظهور الأشكال المتقدمّة من التكنولوجيات المعلوماتية .. و نحن في طرحنا للنتائج ربما نكون قد اقتصرنا على الجانب الإيجابي من التحوّلات، و التي نتحوّل بها من العمل التعيس إلى العمل الممتع . لكن، هناك أيضا من النتائج ما يوجب القلق و الانتباه، بل تجاوز مجرّد الإحساس بالقلق إلى الفزع من النتائج المتزايدة الأثر، و خاصة في الدول المتقدمة صناعيا .. أعني بذلك البطالة البنيوية الناتجة عن الاعتماد على الروبوت و الإدارة الرقمية في السواد الأعظـم من طاقة العمل، في المكتب و المصنع
No comments:
Post a Comment