نهضة مصر – الثلاثاء 15 /11/ 2005
.. مهازل الانتخابات الحالية
!! و عجـائب اللا معقـول
من فرط ما استجبنا للتلقين، و استندنا إلى سنن الأقدمين، فقدنا القدرة على التساؤل .. بل قد نكون قد فقدنا الرغبة في أن نعرف حقيقة و أسباب الأشياء، صغيرها و كبيرها .. نتعلّم في مدارس، و نعلّم فيها، و يذهب إليها أبناؤنا، و مع ذلك لم يحدث أن توقّف أحدنا ليتساءل : لماذا هي كذلك ؟ .. نشارك في الانتخابات النيابية، و ندخل في معاركها، و نترقّب بحماس نتائجها، و تمضي الدورة البرلمانية تلو الأخرى، و لم يحدث أن سألنا أنفسنا عن الجدوى الحالية لهذا الشكل من أشكال الممارسة الديموقراطية
إلى متى نظلّ نسعى وفق خطط مجهولة الصاحب و الغرض ؟ .. إلى متى نتهرّب من محاولة التفكير الناقد، الذي يتيح لنا أن نتعرّف على صلاحية الأشياء التي نقوم بها أو نخضع لها ؟
ومتى نستجيب لنداء العصر، عصر المعلومات، فنمارس حقنا و واجبنا في التفكير الابتكاري، الذي يسمح لنا بالنظر إلى الأشياء من منظور غير تقليدي، فنعرّيها من ثياب تنكّرها التي تراكمت عليها عبر الزمن لتخفي حقيقتها ؟، ثم يتيح لنا أن نكتشف البدائل الأكثر تعبيرا عن صالحنا، و أكثر انسجاما مع عصرنا ؟
لماذا ينقصنا دائما التفكير الواضح، في أحوالنا و أحوال العالم من حولنا ؟ .. لماذا يتجاوز هذا عامة الناس، و من فرضنا عليهم الأميّة مصيرا، و نراه شائعا بين معظم مثقفينا و كتّابنا و أساتذة جامعاتنا، و قيادات أحزابنا، قيادات ما نطلق عليه تعبير " الحزب الوطني الديموقراطي "، القديمة و الجديدة، و ما يستجد منها عند بلوغ الأحفاد السن
القانونية ؟
ما المناسبة ؟
و قد يسأل سائل: و ما مناسبة هذه المقدمة الطويلة، و الأسئلة التي لن تجد من يجيب عنها، و نحن في قلب معركة تكسير العظام الانتخابية ؟
أجيب، بأن فرط الإسفاف السياسي المصاحب لهذه الحملة الانتخابية، و كمية الزيف و الكذب و التلفيق التي تتردد على ألسنة الجميع، و في مقدّمتهم أباطـرة الحزب الحاكم، و فحش الرشاوى العلنية النقدية و العينية .. و أيضا من فرط خوفي من أن يتصوّر بسطاء الناس أن هذا الذي يجري في أنحاء مصر له علاقة بالديموقراطية عامة، أو حتّى بديموقراطية التمثيل النيابي .. و أيضا خشيتي من تصور المثقف المصري أن هذا النوع من الديموقراطية، الديموقراطية النيابية، هدفا مثاليا لجميع العصور، و سنّة من السنن التي تستوجب تكفير كل من يدينها، و كلّ من يعلن ـ بعلمه ووعيه و تجربته ـ أنها فقدت صلاحياتها في جميع أنحاء العالم، نتيجة لتحول البشر من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات
ديموقراطية التمثيل النيابي، التي تنكر على المواطن قدرته على اتخاذ قراراته فيما يمس حياته، و تفرض عليه أن ينيب عنه من يتولّى هذا من نخبة اتخاذ القرارات .. و التعليم القائم على التلقين، و على إعداد السواد الأعظم من
الدارسين للقيام بالأعمال العضـلية أو اليدوية الروتينية المتكـررة التي لا تحتاج إلى إعمال العقل .. والإعلام الجماهيري، الذي يسعى إلى قولبة الجماهير، و تعويدها على قبول ما تفرضه النخبة الحاكمة .. و نظم الإدارة البيروقراطية، القائمة على النظام الهرمي لتسلسل الرئاسات، التي تحتكر فيها الصفوة عند قمة الهرم عمليات التفكير و الابتكار و اتخاذ القرارات، و لا يكون على القواعد سوى التنفيذ دون تساؤل .. و الاقتصاد القائم على الفصل بين الإنتاج و الاستهلاك، و تعظيم الأرباح على حساب البيئة و الإنسان .. هذه النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية بدأ ظهورها في حياة البشر بعد انطلاق الثورة الصناعية، و التي صاغها الآباء الأوائل للثورة الصناعية، بهدف تعظيم الأرباح الصناعية، و ترسيخ مكانة الصفوة
الانتخابات كأداة في يد الصفوة
الديموقراطية النيابية، أو ديموقراطية التمثيل النيابي .. أو الديموقراطية التي يقوم فيها سكّان رقعه من الأرض باختيار من ينوب عنهم في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياتهم، باعتباره أقدر منهم على معرفة ما هو في صالحهم .. هذه الديموقراطية كانت نصرا للشعوب في بدايات عصر الصناعة، و ساهمت في إدخال عناصر من الشعب و طبقته المتوسطة إلى عملية اتخاذ القرار التي كانت قاصرة على الصفوة قبل ذلك، و اقتضت وجود الأحزاب التي تلعب دور الوسيط بتجميع الأصوات، التي هي وقود العملية الانتخابية
و في هذا يقول المفكر المستقبلي ألفن توفلر : لابد من الاعتراف بأن الحكومة القائمة على التمثيل النيابي و الانتخاب، و التي ولدت من الأحلام التحررية لثوار المجتمع الصناعي، كانت تقدما مدهشا بالنسبة لنظم السلطة السابقة عليها .. و بفضل تمسّك هذه الحكومة القائمة على التمثيل الانتخابي بمبدأ حكم الأغلبية، و بحق كل إنسان في إعطاء صوته، ساعدت بعض الفقراء و الضعفاء في استدرار بعض المنافع، و ظهرت الحكومة في مطلع الثورة الصناعية بمظهر الثورة الإنسانية .. و مع ذلك، و منذ البدايات الأولى، عجزت تلك الحكومات دائما عن الوفاء بالتزاماتها، و فشلت في تغيير البناء التحتي للسلطة .. و هكذا تحوّلت الانتخابات، بصرف النظر عمن يربح فيها، إلى أداة حضارية قوية في يد الصفوة
ملحوظة : هذا هو ما يقوله توفلر، لكنها عندنا تحولت إلى أداة قمعية في يد السلطة المزمنة
ما الذي تغيّر.. و متى ؟
ظلّت ديموقراطية التمثيل النيابي، بتنويعاتها المختلفة، هي الشكل المعتمد للممارسة الديموقراطية في العالم، إلى أن انسحبت الأسس و المبادئ التي قامت عليها من حياة البشر . حدث هذا بعد قيام ثورة المعلومات، و تبلور شكل مجتمع المعلومات في نهايات القرن الماضي
فقدت النظم القديمة في الاقتصاد والممارسة السياسية و التعليم و الإدارة و الإعلام .. فقدت مصداقيتها، لتناقضها مع الواقع الجديد الذي أحدثه التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات . و في جميع المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، بدأ البحـث عن النظم الجديدة التي ستحل محلّ النظـم القديمة .. و كانت النظم الجديدة للممارسة السياسية من بين الأمور التي شغلت فكر المفكرين
و بديهي أن نواقص الممارسة السياسية التي نشهدها هذه الأيام في انتخاباتنا النيابية، لا تشبه في شيء المشاكل التي واجهت الممارسة الديموقراطية في الدول الديموقراطية العريقة . لكن الثابت أن التركيبة بأكملها لم تعد قابلة للتطبيق .. الأحزاب، و صناديق الانتخابات، و اختيار نوّاب عن الشعب يتولّون عنه مهمة اتخاذ القرارات، و تحوّل نواب الشعب إلى جانب من كيان الصفوة التقليدية، بمجرّد انتخابهم
الأسباب الحقيقية
المسألة ليست ـ كما هي عندنا ـ تزوير في كشوف الانتخاب، و ضغوط أمنية و أدبية و مالية على الناخبين و المرشّحين، و رغبة من النظام الحاكم ـ و قياداته العليا ـ في عمل كل ما يبقي له سيطرته و سلطانه .. المسألة ترتبط بالمستجدات التي خلقتها ثورة المعلومات، و أوجبها مجتمع المعلومات، و هي
أولا : التكنولوجيات الحديثة في مجالات المعلومات و الاتصالات و الانتقالات أتاحت للبشر تدفّقا متواصلا من المعلومات و المعارف، و جعل بإمكان الفرد أن يعتمد على نفسه، أيا كان عمره، في متابعة كل ما هو جديد في الحياة و نظمها، و قاد إلى تحوّل السواد الأعظم من العمالة العضلية إلى العمالة العقلية . لقد ارتفع التعليم الذاتي، المعتمد على التكنولوجيات الجديدة، بمستوى معارف و تفكير و القدرات الابتكارية الفرد، ممّا جعله أكثر خبرة من معظم النواب فيما يجب اتخاذه من قرارات فيما يتصل بالأمور التي تمس حياته بشكل مباشر
ثانيا : تزايد المعلومات و المعارف المتاحة للأفراد، و تباين استجاباتهم لها، خلق تنوّعا واسعا بين الأفراد، فلم يعودوا الآحاد المتطابقة التي قامت على أساسها جميع النظم الجماهيرية في المجتمع الصناعي، التعليم الجماهيري، و الإعلام الجماهيري، و أيضا الديموقراطية الجماهيرية
ثالثا : و انعكس هذا على النظم الإدارية التي نعتمد عليها في حياتنا، و بدأ التحوّل من المركزية إلى اللامركزية، و تغيّرت العلاقة بين القيادة و القاعدة، و اختفت طبقة الإدارة الوسيطة، فحدث انقلاب في تصميم المؤسسات، نتيجة للتحوّل من التنظيمات البيروقراطية الهرمية، إلى التنظيمات الشبكية . هذا التحوّل يتيح إقامة ديموقراطية لامركزية، تجعل الحكم المحلّي حقيقة مؤثّرة في حياتنا
* * *
لعل ما أوردناه من نقاط، يتيح لنا إدراك أن ما نحن بصدده بالنسبة للممارسة الديموقراطية، ليس مجرّد تجويد، أو تحسين، أو تخلّص من نواقص التطبيق .. إننا بصدد شكل جديد للديموقراطية، يشارك فيه كل فرد في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياته، فلا ينيب أو يوكّل من يقوم نيابة عنه بذلك .. ديموقراطية لامركزية ترتبط ارتباطا وثيقا بإعطاء أهمية مضاعفة للحكم المحلّي، و تستفيد من التكنولوجيات المعلوماتية في التصويت و تبادل الآراء و الأفكار .. يطلق عليها مؤقّتا اسم : ديموقراطية المشاركة
كيف ؟ .. هذا حديث آخر، لا تحتمله عقول المصريين هذه الأيام وسط مهازل الانتخابات الحالية، و عجائب اللامعقول التي تشيع فيها
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
هل تصدّق أن هذا كتبته و نشر إبان انتخابات 2005 ؟
و هل سيظل صالحا لانتخابات 2015 ؟
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟