نهضة مصر- الثلاثاء 27/12/2005
كيف يشارك الشعب
في حكم مصر ؟ ..
سر التخلف المنهجي و الفكري للحزب الوطني
حديثي عن ديموقراطية المشاركة، باعتبارها بديل عصر المعلومات لديموقراطية التمثيل النيابي، ذكّرتني بواقعة طريفة، حدثت على شاشة القناة الأولى للتلفزيون المصري، منذ سنوات عديدة .. و هي توضّح في الحقيقة مدى عزلة قياداتنا السياسية عن التغيرات التي تدور حولنا
بدأت الواقعة باستدعاء من وزير الإعلام السيد صفوت الشريف، و في حجرته وجدتني وسط مجموعة من مثقفي مصر، د. سعد الدين إبراهيم، و د. لبيب رزق يونان، و د. علي الدين هلال . طلب الوزير أن يختار كل واحد منّا يوما من أيام الأسبوع، ليقدّم حديثا على القناة الأولي، بعد نشرة أخبار التاسعة . و كان خامسنا الأستاذ الجامعي د. على راضي، الذي لم يحضر معنا ذلك الاجتماع . و قد أطلقت أوساط التلفزيون على هذه المجموعة تعبير " مجموعة التنوير " . و قد اخترت أن تجري أحـاديثي تحت عنوان " مستقبليات "، الذي كان اسم الباب الأسبوعي الذي أكتبه في مجلة المصوّر، قبل أن ينهي مكرم محمد أحمد ـ رئيس التحريرـ عملي بها، استجابة للنداءات الباكية من وزير التعليم الأسبق
!ديموقراطية .. و ديموقراطية
كنت أتحدّث عن طبيعة النظم الجديدة في مجتمع المعلومات، بالنسبة لكافة المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و كان حديثي في أحد الأسابيع عن " ديموقراطية المشاركة "، و قد حرصت على شرح الفرق بينها و بين ديموقراطية التمثيل النيابي التي ابتدعها المنظرون الأوائل لعصر الصناعة، نتيجة للتضخّم الهائل في عملية اتخاذ القرار، بعد أن تكفّلت الدولة بجميع المهام التي كانت تقوم بها الأسرة الزراعية، من تعليم و علاج و رعاية للكبار .. و أيضا بعد أن قام عصر الصناعة على الإنتاج على نطاق شديد الاتّساع، مستقلا عن الاستهلاك شديد الاتّساع، و قيام السوق بمعناها المعاصر للربط بين الجانبين . و كيف أن هذه الديموقراطية قد أحدثت شرخا في جدار السلطة، دخلت منه أعدادا كبيرة من الطبقة المتوسّطة إلى عملية اتخاذ القرار لأوّل مرّة .. إلى آخر ذلك
في نفس الأسبوع، خطر لي أن أري ما يتكلّم فيه الآخرون، و كان الحديث التالي للدكتور علي الدين هلال .. فوجدته يشرح بالتفصيل الممل، الديموقراطية النيابية، و الفصل بين السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية .. إلى آخر ما هو في مقرر في دروس التربية القومية بالإعدادية .. و في الأسبوع التالي، وجدته ما زال يتكلّم في نفس الموضوع ... فعرفت مدى ثقل المهمة التي تنتظرني
بالمناسبة، عندما سمعت أن د. علي الدين تم اختياره لرئاسة أمانة التثقيف بالحزب الوطني، تذكرت تلك الواقعة، و فهمت سر التخلف المنهجي و الفكري للحزب الوطني
المعلومات .. و تنوّع البشر
ما علينا .. دعونا نعود إلى الحديث عن الديموقراطية اللامركزية، أو ديموقراطية المشاركة و كما أحب أن أوضّح دائما : أنا لا أتكلّم عن أحلام أو أماني، نابعة من مدينة فاضلة .. أنا أقوم بعمل علمي حسابي، أقرأ مؤشرات التغيير
التي يمر بها العالم، و أتفهّم العلاقات المتبادلة بينها، ثم أجتهد في رسم صورة لمختلف مجالات النشاط البشري، وفقا للحياة الجديدة التي تقودنا إليها هذه المؤشرات
مثال ذلك، أسأل نفسي : و لماذا نتنازل عن نظم عصر الصناعة القائمة على المركزية ؟، و لماذا تحلّ اللامركزية محل المركزية ؟ .. فأكتشف أنّه : نتيجة لثورة المعلومات، و تطور تكنولوجيات المعلومات، تنوّع البشر، نتيجة لتنوّع ما أقبلوا عليه من ذلك التدفّق المعلوماتي . تنوّع البشر . لم يعودوا متماثلين متطابقين تقريبا، يكفي أن تتفهّم واحدا منهم حتّى تفهم باقيهم
نفهم ذلك جيدا، إذا تأملنا مجموعة من البشر في قرية من القرى، خلال عصر الزراعة، أو في بدايات عصر الصناعة .. سنجد تقاربا شديدا في أفكار و توجهات و عادات الأفراد، نتيجة لقلة المعلومات المستجدة، و ندرة التغيرات و تباعدها زمنيا . و كان يكفي أن تقابل واحدا منهم حتّى تعرف الكثير عن باقيهم ..لكن، عندما يتنوّع البشر، يتغيّر الوضع .. و تنهار معظم النظم التي اعتمدها عصر الصناعة
المشاركة .. ثقافة عصر
التنوّع الذي طرأ على البشر أسقط أحد أهم مبدأ من مبادئ عصر الصناعة، و هو مبدأ النمطية، الذي يجعلنا ننظر إلى البشر كآحاد متطابقة .. و هو المبدأ الذي جعل من المركزية ممارسة عظيمة، و فن كبير، و مكسب ضخم، طوال عصر الصناعة .. و هو الذي أشاع كلّ ما هو جماهيري، أي كلّ ما يستهدف تنظيم خدمة الآحاد المتطابقة من البشر .. الإنتاج الجماهيري النمطي على نطاق واسع، و الاستهلاك الجماهيري للسلع و الخدمات النمطية، التي تقبل عليها الجماهير النمطية .. و الإعلام الجماهيري الذي يتوجّه لجماهير نمطية، ساعيا إلى مزيد من قولبتها .. و أيضا الديموقراطية النيابية الجماهيرية، و التي تلخّص إرادة و توجّهات و مصالح أبناء الدائرة في نسق نمطي، يعبّر عنه بالتوكيل شخص واحد، هو النائب البرلماني
عندما تنوّع البشر، و اختلفت مشاربهم، سقط مبدأ النمطية و التوحيد القياسي للبشر، فاهتزّت النظم المركزية، و انهارت جميع المؤسسات الجماهيرية .. و كان من بين هذا التعثّر الحالي لديموقراطية التمثيل النيابي عالميا .. و بدأت تظهر بدائل للممارسة السياسية، كان من بينها ديموقراطية المشاركة
و الحقيقة، أن المشاركة لا تقتصر تطبيقاتها على الممارسة الديموقراطية، فهي ثقافة أساسية في جميع مجالات النشاط البشري في مجتمع المعلومات .. فالمشاركة هي ثقافة عصر .. عصر المعلومات
إدارة القطاع الخاص
لقد ظهرت التغيرات الأولى، عند التحوّل من نظم الصناعة إلى نظم المعلومات، في مجال التنظيم الإداري، و بشكل محدد في مجالات النشاط الاقتصادي الخاص . فالقطاع الخاص، أكثر حساسية، في جميع بلاد العالم، من القطاع العام أو الحكومي
لقد شعر مدير الشركة أن النظم التقليدية في إدارة العمل، و التي نجحت كثيرا في عصر الصناعة، لم تعد تعطي نفس النتائج، بل أصبحت تشكّل عائقا أمام نجاح العمل . و اكتشف المدير السر وراء ذلك .. أنّه التغيّر الذي طرأ على الإنسان الذي يعمل في الشركة، لقد أصبح أكثر علما، و أوسع معرفة، و أكثر اختلافا عن غيره من العاملين .. و الأهم من كل هذا أنه أصبح عاملا عقليا معرفيا، لا تحصل منه على أفضل نتيجة إلاّ إذا احترمت إنسانيته، و جعلته شريكا في قرارات العمل .. فظهرت نظم الإدارة الجديدة للغاية، و التي تقوم على المشاركة، و احترام عقل ومزاج الإنسان
هل هي ممكنة عندنا ؟
قد نسمع من يسأل : و هل نحن في وضع يسمح لنا بتطـبيق ديموقراطية المشـاركة عندنا ؟ .. هل وصل وعي
المواطن المصري عند القواعد إلى حد قدرته على اتخاذ القرار السليم ؟ هذا هو ما سنناقشـه فيما يلي من حديث تفصيلي عن ديموقراطية المشاركة .. لكن الأكيد هو أننا سنواجه في القريب بضرورة تصحيح مسار الممارسة الديموقراطية عندنا، بما ينسجم مع التحولات الكبرى التي يمر بها الجنس البشري ..و في هذا المجال، كما في المجال الاجتماعي و الاقتصادي، يفضل أن نبادر نحن بإصلاح مسارنا، بدلا من أن تتدخّل قوى أخرى، و تفرضه علينا، لحسابهم أكثر مما هو لحسابنا
تطبيق ديموقراطية المشاركة عندنا، يعتمد على التالي
أولا : الاستقرار الديناميكي
صدق نية النظام الحالي، النابعة من فهمه أن المشاركة هي سبيل " الاستقرار الديناميكي "، و هو غير استقرار الجمود الذي يتمسّك به
ثانيا : حكم محلي حقيقي
قبول النظام الحاكم لفكرة حكم محلّي حقيقي، و الهبوط بنسبة عالية من مسئولية اتخاذ القرار رأسيا، من القمّة، إلى ما يليها من مستويات، حتّى القاعدة، و أفقيا من دوائر الحكم إلى فئات و تشـكيلات المواطنين النوعية . لتصحيح وضع الديموقراطية النيابية التي أقيمت على الأساس الجغرافي، نتيجة لتأثير المجتمع الزراعي، السابق لمجتمع الصناعة، مخترع تلك الديموقراطية
ثالثا : تجاوز التخلف التعليمي
تجاوز التخلّف الشديد في أدوات التعليم و نظم اكتساب المعارف في مصر .. لا تصدّقوا من يقول لكم أن لدينا الحد الأدنى من النظم التعليمية الضرورية حتّى لو صدر هذا عن وزير، أو رئيس وزراء، أو حتّى رئيس جمهورية ! .. فالتعليم عندنا متخلّف عن الحد الأدنى للتعليم التقليدي الذي ساد عصر الصناعة، و عرفته في طفولتي و صباي.. و هو مناقض لأهم أساسيات التعليم القائم على التفكير و الابتكار و إعمال العقل، و الاعتزاز بالاختلاف عن الآخرين، ممّا يتيح لنا أن نلحق بمسيرة عصر المعلومات
رابعا : مجتمع مدني حرّ
السماح بنشاط حرّ لجمعيات المجتمع المدني، في القواعد، و في التجمعات المهنية و الحرفية
خامسا : تعميم ثقافة المشاركة
تعميم ثقافة المشاركة في الإدارة، في المدارس و الجامعات, و المؤسسات الاجتماعية
* * *
لمن يريد أن يعرف المزيد عن ديموقراطية المشاركة، أو الديموقراطية المتفقة مع احتياجات و طبيعة مجتمع المعلومات، يمكن الاتصال بي شخصيا لأرسل المادة المطلوبة على عنوان الميل الخاص بالمتصل
راجي عنايت
renayat@gmail.com