Thursday, October 22, 2009

الضغوط .. و انفجار النظم

نهضة مصر - السبت 24/9/2005 - راجي عنايــت


غياب الرؤية المستقبلية لمصر

في برامج جميع الأحزاب على الإطلاق

انقضت الضجّة الغوغائية لانتخابات الرئاسة، و أصبح من الممكن أن نجد مكانا لحديث العقل، و أن نواجه الحقيقة التي آلمتني كثيرا، حقيقة أن البرامج الانتخابية لجميع الأحزاب ـ بما في ذلك الحزب الوطني بأمانة سياساته ـ قد خلت من أي اعتبار لطرح رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تستند إلى فهم التغيرات الكبرى التي تمر بها البشرية، و واقع الأمر الحالي لتطوّر الحياة المصرية
و أرجو ألاّ يفهم أحدا أنّني لا أعترف بأهمية و حيوية الأهداف التي تضمنتها برامج الأحزاب المختلفة، فمعظم تلك الأهداف تعتبر خط الدفاع الأول في مواجهة التخلّف الشديد ـ طويل الأمد ـ الذي نعيشه في مصر، و الذي وضعنا دون نقطة الصفر على سلّم التقدّم .. لذا كان من الطبيعي أن نتكلّم بأعلى صوت عن قانون الطوارئ، و تخلّف الدستور الحالي عن واقع العصر و عن درجة النضوج الشعبي، و ارتفاع معدّلات البطالة، و الغرق في مستنقعات الأكاذيب و الأوهام نتيجة لغياب الصدق و الشفافية، و الانزعاج من عمليات استنزاف اقتصاد مصر نتيجة للسياسات الخاطئة و المغرضة، و عمليات النهب المنظّم التي قادت إلى تحويل مليارات الدولارات إلى الحسابات السرّية في بنوك سويسرا، ثم بفضل الترتيبات الأخيرة، تحويلها على المستوى العربي إلى كيانات اقتصادية مبتكرة، تفيد في غسيل تلك الأموال أعترف بأهمية جميع هذه المطالب، لكنّي مؤمن بأنها غير كافية الآن لمواجهة حالة التخلّف التي نعانيها

الغرض الذي هو مرض

الذي آلمني أنني حاولت طويلا، و على مدى ما يزيد عن عشرين عاما، أن أشرح طبيعة التحوّلات الكبرى التي تمرّ بها البشرية .. تحوّل البشر من حياة عصر الصناعـة إلى حياة عصر المعلومات .. و عن أهمية فهم طبيعة مجتمع المعلومات، و اختلافه الشديد عن مجتمع الصناعة اجتماعيا و اقتصاديا و سياسيا ..
كتبت و حاضرت و قدمت البرامج الإذاعية و التلفزيونية، أوضّح طبيعة هذه المرحلة التي تمر بها البشرية .. و كيف أن التصدّي للتغيرات الطارئة المتلاحقة، لا يجدي فيه التناول الأحادي للمشاكل، نتيجة لسقوط أهمية السوابق، و ضعف قيمة الخبرات السابقة .. و ضرورة أن تتم عمليات إعادة البناء المطلوبة في جميع مجالات الحياة المصرية، وفق رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع منها الاستراتيجيات و الخطط و الأولويات، و تضمن لنا ألا تتناقض خطواتنا، و ألا يقود حل مشكلة ما إلى مشاكل أكبر فيما يأتي من الأيام
قلت هذا بكل الوضوح و التبسيط الممكن، لكن كلماتي دخلت من أذن لتخرج من الأذن الأخرى، ليس لقصور فهم النظام الحاكم، أو نتيجة لعدم اطّلاع القيادة على ما كنت أقوله، فقد تضمن أحد خطابات الرئيس مبارك، في مناسبة لا أذكرها، فقرات بالنصّ من مقالاتي عن المسـتقبل و الرؤية المستقبلية، ممّا يوحي أنّه مطّلع على ما أقول، أو أن الذي كتب له ذلك الخطاب كان متابعا لما أكتب
كان من المكن، أن أجد مبررا لعدم اهتمام النظام الحاكم بما أقول نتيجة وجود فكر آخر لديه، قرر أن يعتمد عليه في إعادة بناء مصر و في تجاوز أوضاعها المتردّية .. أمّا و قد مرّت 24 سنة دون أن يفعل شيئا يساعدنا على تجاوز تخلّفنا الحضاري، فلم أفهم سبب هذا الإعراض عن مشروع الرؤية المستقبلية لمصر، الذي لم أتوقّف عن طرحه و شرحه، و تفصيله و تبسيطه .. هل هو عدم الفهم، أم عدم القدرة على التغيير، نتيجة لتناقض الحياة التي نفصّلها مع المصالح المادية للعناصر المهيمنة على مقادير هذا النظام الحاكم ؟! .. فكما يقال : الغرض مرض
التغيير، و انفجار النظم

تظهر أهمية الرؤية المستقبلية الشاملة، في زمن التغيرات العظمى في حياة البشر، كما حدث عند التحوّل من الحياة الزراعية إلى الحياة الصناعية، نتيجة لسقوط القواعد التي التزم بها النظام المنقضي، و خطورة إجراء تغيرات متفرّقة خارج إطار رؤية مستقبلية قائمة على فهم مؤشرات المجتمع المقبل
لكن هذا يختلف نوعيا عن التغيرات المختلفة التي كانت تحدث خلال سنوات استقرار عصر الصناعة، و التي كان من الممكن التصدّي لها كلّ على حدة، في إطار المبادئ و الأسس الثابتة للمجتمع الصناعي
و هناك نظرية علمية تقول أن النظام ـ سواء كان نظاما كيميائيا، أو حيويا، أو اقتصاديا، أو اجتماعيا، أو سياسيا أو فلكياـ يخضع بصفة دائمة لضغوط متباينة التأثير، من داخله و من خارجه . و عندما تصل هذه الضغوط الداخلية و الخارجية معا إلى حدّها الأقصى، ينفجر ذلك النظام و يختفي من الوجود .. إلاّ إذا كانت هناك رؤية بديلة جاهزة، يعتمد عليها النظام في التحوّل، و الاستمرار في الوجود
لا أريد أن أسترسل في شرح هذه القاعدة العلمية، فقد كنت أطرحها، لأقول أن النظم الواعية الناضجة، تحرص على أن تكون لديها رؤية بديلة، تواجه بها الضغوط الخطيرة، تفاديا للانفجار .. ناديت بهذا طوال السنوات العشرين الماضية، فلم أحظ بأدنى استجابة من أهل السياسة، و من معظم أهل الفكر

الموقف يتغيّر 180 درجة

و أخيرا، حدث ما توقّعته .. تصاعدت الضغوط الأمريكية على مصر، لأسباب ليس لها علاقة بمصلحة مصر، واستجابة لأفكار حمقاء تعتنقها جماعة المحافظين الجدد، يثبت فشلها يوما بعد يوم ( و هذا له حديث آخر ) . وصلت الضغوط الأمريكية إلى غايتها، في المطالبة بقدر معقول من الديموقراطية، من النظام المصري القائم على الغياب الديموقراطي، لشعورها بأن الضغط الشعبي المكبوت يمكن أن يفسد خططها، و يزعزع استقرار مصالحها
و في نفس الوقت وصل الغليان الداخلي إلى حدّ لم تدركه أو تفهمه القيادات، برفضها الساذج لمسألة إدخال الشعب في حساباتها ! .. و هذا هو الخطأ المتكرر الذي تقع فيه النظم الشمولية
و الحقيقة أن الضغوط الداخلية على النظام لم تقتصر على الفوران الشعبي ، فقد كان هناك ضغطا داخليا متصاعدا، لا علاقة له بالضغط الشعبي، هو الضغط العائلي الذي يلح بضرورة خلق دور لجمال مبارك في المجال السياسي شبيه بدور علاء مبارك في المجال المالي، يضمن استمرار سطوة الأسرة، و عدم تهديد المكاسب، في غياب الرئاسة الحالية . و الغريب أن جماعة جمال مبارك، من الشباب العاشق لفلسفة الذرائع الأمريكية، و التي استولت على الحزب الحاكم، عن طريق نفق سرّي تآمري أطلق عليه اسم أمانة السياسات .. هذه الجماعة عندما تصدّت لطرح تصور نظري لبرامجها جاء غير مستند إلى أي رؤية مستقبلية حقيقية لمصر، شأنها شأن باقي الأحزاب و أشباه الأحزاب المصرية .
فماذا فعلت القيادة لمواجهة هذه الضغوط، في غياب أي رؤية مستقبلية شاملة لمصر ؟، استقرّ رأيها على المناورة على أمل تغير الأوضاع الخارجية و الداخلية مستقبلا، بما يتيح لها أن تعود إلى سابق سيرتها!.. القيادة التي كانت قبل هذا بشهر تقريبا، تعتبر الحديث عن أيّ مساس بالدستور كفرا و تجديفا، تغيّر موقفها 180 درجة، و مدّت أصابعها إلى المادة 76 .. و بدأ اندفاع كرة الثلج

الحريق المندلع

لا أريد أن أبدو مستعليا، فأنا أدرك أن الأوضاع الفاسدة و الخاطئة التي سيطرت على حياتنا في مصر لعشرات السنين، و استبعاد الشعب، و بالتحديد كل من هم ليسوا ضمن دائرة النظام الحاكم .. قاد إلى شعور الأحزاب ـ و أعني أحزاب المعارضة الجادة ـ بالحريق المندلع، الذي يستوجب تضافر الجهود لإطفائه، و لو على حساب التفكير الجاد في مستقبل مصر بشكل متكامل
و هكذا، أصبح التفكير في المستقبل، أو مجتمع المعلومات، أو الرؤية المستقبلية لمصر، نوعا من الرفاهية، و التزيد الذي لا مجال له . لم يكن غريبا أن تتضمن برامج المعارضة الأحلام المشروعة، لهذا جاءت صورة مستقبل مصر من واقع برامج هذه الأحزاب أشبه باليوتوبيا أو المدينة الفاضلة .. سيادة الديموقراطية، التوقّف عن تزوير نتائج الانتخابات، تشغيل جميع العاطلين، خفض الأسعار أو وقف تصاعدها و رفع المرتبات، الفصل بين السلطات و إنهاء طغيان السلطة التنفيذية و استيلائها على السلطة التشريعية و القضائية، رفع المرتبات .. إلى آخر هذه الأماني و الأحلام المشروعة .. التي تكررت في برامج الأحزاب المختلفة، بما في ذلك برنامج الرئيس مبارك
غير أن البرامج و السياسات و الاستراتيجيات و الرؤى المستقبلية، لا تقوم على هذه الأحلام وحدها.. هي بالقطع تدخلها في الاعتبار، لكنها تنطلق من الفهم العميق لأمرين أساسيين أكثر شمولا، هما بالتحديد
أولا : رصد الوضع الراهن لمصر بكلّ أمانة و صدق . مع فهم دقيق للخريطة الحضارية المصرية التي تحدد لنا إلى أي حد نعيش وفقا لأسس ومبادئ المجتمع الزراعي، و مدى أخذنا بأسس و مبادئ المجتمع الصناعي، و إلى أي حد وضعنا أقدامنا على مشارف عصر المعلومات . باعتبار هذا الأمر نقطة الانطلاق في حركتنا
ثانيا : الهـدف، الذي علينا أن نمضي إليه، و هو في هذا الصـدد مجتمع المعلومات . و هـذا يقتضي فهم العديد من الأمور الأساسية : الآليات التي تقود البشرية إلى مجتمع المعلومات، و علاقة هذا المجتمع بثورة المعلومات، و العلاقة بين التكنولوجيات الابتكارية ( مثل الآلة البخـارية، أو الكمبيوتر ) و بين نظم الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الأخلاقية، و التعرّف على مؤشرات التغيير الأساسية التي تمضي بالبشر إلى مجتمع المعلومات و الحياة في عصر المعلومات .. أن نفهم بكل الدقة الممكنة طبيعة أسس اقتصاد المعلومات، و ديموقراطية مجتمع المعلومات، و تعليم مجتمع المعلومات، و النظم الإدارية لمجتمع المعلومات، و إعلام مجتمع المعلومات، و القيم و الأخلاقيات المرتبطة بمجتمع المعلومات .. لا لنسلّم بذلك جميعه، لكن لنرى ما ينفعنا فيه فنرحّب به، و نستفيد منه، و ما يتناقض مع مصالحنا، فنتّقيه، أو نخفف من آثاره علينا
* * *
يبقى سؤال هام
كيف لم ينتبه شباب أمانة السياسات، لكل هذا الذي أقوله عن مجتمع المعلومات و الرؤية المستقبلية الشاملة، شأنهم شأن آلاف الشباب الذين كنت ألتقي بهم في المؤتمـر العام لجمعية مســتقبل العالـم، الذي ينعقد بواشـنطن كلّ أربع سنوات ؟ .. كنت أتوقّع أن أرى انعكاسا لهذا الفهم في خطط أمانة السياسات التي أتابعها على الإنترنيت، أو في برامج الحملة الانتخابية للرئيس مبارك، التي جاءت غير مختلفة نوعيا عن وعود و دعايات الأحزاب الحقيقية و الوهمية التي خاضت تمثيلية انتخـابات الرئاسة .. لكن هذا حديث آخر، قد نعرض له في الأسابيع القادمة

3 comments:

  1. عظيم شكري أستاذنا المفكر المصري المحترم على إادة هذا المقال في هذااتوقيت اذي تغير و لم يغير .. فأنا معك تماماً أن هناك غياب للرؤية المستقبلية و استراتجية البناء القومي لمصر ليس على صعيد الدولة كدولة فقط ولكن على صعيد الفكر الحزبي الذي أرست الأيادي الخفية بداخله بذرة النزاع على اللا موجود حتى وئدت كل بذور الإيجابية بداخلهم .. وتفرغوا للإستياء على اسم الحزب أو مقره و تركوا الفكر و الرسالة و الهدف ..
    حسين راشد
    مساعد رئيس حزب مصر الفتاة
    و أحد من عانوا من هذه التجربة الفاشلة

    ReplyDelete
  2. عظيم شكري أستاذنا المفكر المصري المحترم على إعادة هذا المقال في هذااتوقيت الذي تغير و لم يغير .. فأنا معك تماماً أن هناك غياب للرؤية المستقبلية و استراتجية البناء القومي لمصر ليس على صعيد الدولة كدولة فقط ولكن على صعيد الفكر الحزبي الذي أرست الأيادي الخفية بداخله بذرة النزاع على اللا موجود حتى وئدت كل بذور الإيجابية بداخلهم .. وتفرغوا للإستياء على اسم الحزب أو مقره و تركوا الفكر و الرسالة و الهدف ..
    حسين راشد
    مساعد رئيس حزب مصر الفتاة
    و أحد من عانوا من هذه التجربة الفاشلة

    October 22, 2009 4:33 AM

    ReplyDelete
  3. سبب عدم الانتباه إلى ما تقوله أستاذنا وما يقوله غيرك من المخلصين سبب واضح وبسيط جداً، وهو غياب "النية" في الاصلاح الحقيقي، وكما أشرتم فالمليارات يتم نهبها والسلطات يراد حفظها وحمايتها، وبين هذا وذاك لا مجال لتفكير حقيقي ومخلص في مصلحة البلد

    ReplyDelete