Sunday, April 4, 2010

الديموقراطية أم الدستور ؟

نهضة مصر ـ يونيو 2004 ـ راجي عنايت

الديموقراطية.. تؤخذ و لا تمنح

... الدسـاتير لا تصنع الديموقـراطية
و لكن الديموقراطية هي التي تخلق الدساتير

! أسطورة السوق هي أكثر أساطيرنا خبثا

لن أعود إلى ذكر ما سبق أن قلته، من أن الممارسة الديموقراطية في أي مجتمع ترتبط بنوع الحضارة السائدة فيه، بدوية أم زراعية أم صناعية أم معلوماتية . و رغم أن ديموقراطية التمثيل النيابي، كانت اختراعا توصّل إليه مخططو عصر الصناعة، لمواجهة العبء المتزايد لصناعة القرار، بعد انفصال الإنتاج عن الاستهلاك، و تعقّد الحياة بقيام مؤسّسات خاصة تتولّى الخدمات التي كانت تتكفّل بها الأسرة من قبل .. رغم هذا، فالثابت أن التطبيقات الديموقراطية في الدول الصناعية الكبرى، تتباين و تختلف من دولة إلى أخرى، و لا تتطابق مع الممارسة الديموقراطية الأمريكية
سأترك الحديث للأستاذ بنجامين باربر، الذي جمع بين البحث العلمي الأكاديمي في النظريات السياسية، و بين المساهمة العملية في الممارسات السياسية المدنية و الفنون . و الذي ساهم بجهده في العديد من الجامعات الكبرى الأمريكية و الإنجليزية و الفرنسية . و من أهم كتبه " الديموقراطية القويّة " الذي جرت ترجمته إلى ست لغات . فماذا يقول بنجامين باربر ؟

خرافة تصدير الديموقراطية

يبدأ الأستاذ باربر بطرح أربعة أسئلة كالتالي
هل الديموقراطية قابلة للتصدير ؟... هل الديموقراطية هي مجرّد وظيفة مؤسسة سياسية و دستور مدوّن ؟ ...هل الديموقراطية مرادف للأسواق ؟ ... هل تعتمد الديموقراطية على قيادة قويّة ؟
يجيب الأستاذ بنجامين باربر على السؤال الأوّل قائلا : نحن الأمريكان و الأوروبيين الذين نحتاج أكثر من أبناء أوروبا و روسيا و أفريقيا و آسيا، أن نتذكّر أن الديموقراطية لا يمكن أن تكون هدية من شعب لآخر، لكنّها الثمرة صعبة المنال لصراع محلي باهظ الثمن .. إنّها شيء يؤخذ، و ليست شيء يمنح
و عن اختلاف التطبيقات الديموقراطية، يقول باربر أن أن أشكال الديموقراطيات تختلف، وفقا لاختلاف أنواع النضال الذي يتم لكسبها . و هو يقارن بين الديموقراطية السويدية التي تركّز على الحقوق المجتمعية، أكثر من الحقوق الفردية .. و بريطانيا التي لا تأخذ بالفصل بين السلطات، بينما يعتقد الأمريكان أنّه أمر لا غنى عنه .. و الدستور الإثيوبي الجديد يحاول التوجّه إلى القبائل .. كما أن أيرلندا لا تأخذ بالفصل بين الكنيسة و الدولة .. ألمانيا فدرالية، بينما فرنسا مركزية . هذا الاختلاف بين الديموقراطيات، يوحي بضرورة قبول الأشكال الجديدة من الديموقراطيات التي
تتشكّل في أنحاء العالم

الدساتير لا تخلق ديموقراطيات

ثم يجيب الأستاذ باربر عن السؤال الثاني، داحضا الفكرة الشائعة، التي تقول أن الديموقراطية لا تزيد عن بعض المؤسسات السياسية الشكلية، التي يمكن لأي دولة أن تسلّمها لدولة أخرى . و يقول أن الديموقراطية ليست رسما تخطيطيا ذاتي التحقّق . فلا يمكن فرضها من أعلى إلى أسفل، لكنّها تنمو من القاعدة إلى ما فوق . و الدساتير لا تصنع الديموقراطية، و لكن الديموقراطية هي التي تخلق الدساتير
بدون مواطنين لا يمكن أن توجد الحرّية، و بدون ثقافة مدنية و تعليم، لن يكون هناك مواطنون، هذا هو ما يقوله باربر و يحتاج منّا إلى تأمّل طويل . و هو يستدلّ بعد ذلك برأي للفيلسوف الأمريكي جون ديوي يقول فيه أن الديموقراطية، ليست شكلا للحكومة، لكنّها طريقة حياة، ومجموعة من المواقف و التوجّهات المتأصّلة، إنّها ثقافة التفكير المستقل و التعاون في نفس الوقت، و الصراع و التراضي في آن واحد
و يلفت باربر نظرنا إلى عنصر الوقت، عند التصدّي لبناء الديموقراطية . فيقول أن الفضيلة العظمى للديموقراطية هي الصبر، و الذي يكون رصيده عادة عرضة للنفاذ .. إنّنا نتوقّع من الذين يخوضون تجربة الديموقراطية، ضمن التحوّلات التي يمر بها مجتمعهم، نتوقّع منهم أن ينجزوا في ستة شهور أو ستة سنوات، ما قمنا به في ستين سنة أو ستّة قرون . و يقول أن هذه المهمّة ليست سهلة، فالذين يتصدّون لها يواجهون خصوما من الديموقراطيات الحديثة و القديمة

الديموقراطية و السوق الحرّة

و هذا يصل بنا إلى أكثر الأوهام صعوبة و أهمية .. و هو عدم وجود ديموقراطية لا تعتبر مرادفا للسوق الحرّة . في هذا يقول باربر : حرّية شراء كوكاكولا، أو شريط فيديو للأسد الملك، ليست هي بعد حرية تحديد كيف سنعيش معا، و في ظلّ أي نظام . و يجب ألاّ ننسى أن كوكاكولا و ماكدونالد و إم تي في، يمكن أن نجدها أيضا في سنغافورة و الصين و الشرق الأوسط، و في أماكن أخرى لا توجد فيها ديموقراطيات .. تاريخيا، لم تكن الرأسمالية هي التي أنتجت الديموقراطية . قد تحتاج الرأسمالية إلى الديموقراطية، لكنها لا تعرف ـ بالضرورة ـ كيف تخلق الديموقراطية و تدعمها
و يضيف " من ثمّ، أعتقد أن أسطورة السوق هي أكثر أساطيرنا خبثا، لأن الكثيرين يؤمنون بها " . كما أن الأسواق ليست مصمّمة لكي تقوم بالأشياء التي تتكفّل بها السياسات الديموقراطية ( مثل التعليم و الثقافة و الضمان الاجتماعي و الحفاظ على البيئة ) .. المستهلك في السوق يتكلّم لغة ( أنا )، بينما تكون(نحن) هي اللغة المشتركة للمواطنين .. و يختم بنجامين باربر إجابته عن هذا السؤال بقوله : و هذا هو التناقض الذي تتّصف به السوق . إنّها لا تستطيع أن تعيش في العالم الذي تخلقه، دون أن تكون محاطة و منظمة عن طريق القوى المدنية و الديموقراطية، التي تسعى في نفس الوقت لتحجيمها

قوّة المواطنة لا قوّة القيادة

و في الرد على السؤال الرابع، حول مدى حاجة الديموقراطية إلى قيادة قوية، يقول الأستاذ باربر أن نوع الديموقراطية لا يعتمد على قوّة القيادة، بل على نوعية المواطنة . الدول الفاشية كانت لها قيادات قوية، لكنّها لم تحصل على ما هو أكثر من تلك القيادات . الديموقراطية تحتاج مواطنين ذوي فعّالية، نساء و رجال عاديين، يقومون بأشياء متميّزة غير عادية، بشكل منتظم و متواصل
الديموقراطية، هي شكل للدولة التي لا تحتاج أبطالا . و يشير باربر إلى واقعة جرت مع إيوجين ديبس القائد الشعبي الأمريكي، عندما قال له أحد أتباعه " عليك أن تخرجنا من هذه الظلمة .."، فأجابه " لن أفعل، و لا أستطيع، و حتّى إذا استطعت فلا أعتقد أنني سأفعل .. لأنّه إذا كان بإمكاني أن أقودكم خارج هذه الظلمة، فهذا يعني أنني أستطيع أن أعيدكم إليها .." . و يعلّق باربر قائلا : نحن في حاجة إلى مجتمعات لديها حصانة في مواجهة هذا النوع من البطولة
و يختم الأستاذ بنجامين باربر الحديث بقوله: بدون مجتمع مدني قوي و عفي، لن يكون هناك مواطنون، سنجد فقط مستهلكين للسلع و ضحايا لقهر الدولة .. و بدون مواطنين لا توجد ديموقراطية

حثالة الفكر الرجعي

أعرف أن دعوة الدول العربية و الإسلامية إلى الديموقراطية، من جانب الرئيس بوش، غير صادقة، و أن المسألة مجرّد ورقة يضغط بها على الأنظمة الحاكمة، حتّى تتغاضى عن ممارسات إدارته الممقوتة . كما أومن في نفس الوقت بأن دولنا في أشد الحاجة إلى الممارسة الديموقراطية الصادقة، بالمعنى المعاصر للديموقراطية، النابع من احتياجات و طبيعة مجتمع المعلومات، ديموقراطية المشاركة، و ليس الصورة العتيقة المشوّهة لديموقراطية التمثيل النيابي، التي نبعت من احتياجات المجتمع الصناعي
ديموقراطية نابعة من المجتمع المدني القوي، الذي تحدّث عنه باربر، و ليس الديموقراطية الشكلية التي تتلاعب بها احتكارات السلاح و البترول و المقاولات و الدواء، و التي لا تأتي بأكثر من عملاء لهذه الاحتكارات، يكون كلّ همّهم فعل كلّ ما من شأنه إضافة البلايين الجديدة إلى خزائن تلك الشركات، و لو كان السبيل إلى ذلك هو شن الحروب المفتعلة، و خلق المخاوف الدائمة في نفوس الشعب الأمريكي
سؤال أخير : لماذا لا يتعامل بوش إلاّ مع حثالة الفكر الرجعي، بينما تعجّ الولايات المتّحدة بكبار المفكّرين العقلاء الذين يعرفون أين يكمن صالح أمريكا ؟

No comments:

Post a Comment