Thursday, July 2, 2009

جريدة نهضة مصر

لماذا يفشـل الأذكيــاء ؟
المفاتيح القديمة، لا تفتح الأبواب الجديدة

عند البحث عن حلول عملية لحل المشاكل الراهنة في مصر، و عن الأسس التي يجب أن تقوم عليها عمليات إعادة البناء في مختلف المجالات، من الطبيعي أن يفشل الأغبياء، و أن يحجم المستفيدون من الأوضاع الحالية و من تناقضاتها، و أن يعجز ذوي الخبرة المحدودة و المعرفة القليلة .. لكن الذي لا يراه الناس معقولا، هو أن يفشل الأذكياء المخلصون
ما هو الجديد في حياة البشر، الذي يقود إلى فشل الأذكياء ؟

الجديد هو أن الجنس البشري يمضي إلى حياة تختلف اختلافا تاما عن الحياة التي عرفها على مدى 20 ألف سنة، هي عمر عصر الزراعة، و حوالي 250 سنة، هي عمر عصر الصناعة . هذا هو الجديد، غير المسبوق . نحن نمضي إلى نسق جديد في حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية .. و إلى قيم و مبادئ و أسس و عقائد جديدة غير التي عرفناها في عصري الزراعة و الصناعة .. و الأذكياء الذين أحجموا عن اكتشاف هذه الحياة الجديدة، أو عجزوا عن التوصّل إلى فهمها، هم الذين يفشلون
و يأتي الفشل من اعتماد أولئك الأذكياء على خبراتهم النابعة من حياة البشر في الحضارات الزراعية و الصناعية السابقة، في محاولة التعامل مع حقائق الحياة الجديدة للبشر .. و هذا أشبه ما يكون بمحاولة الشخص فتح باب بيته الجديد، الذي انتقل إليه حديثا، بمفتاح البيت القديم الذي كان يسكنه ! .. و هو يحاول أن يرجع فشله في فتح الباب إلى أسباب يتعلّل بها، غير السبب الحقيقي الوحيد ! . لا أدري لماذا أشعر أن مئات الخبراء الأذكياء، الذين تضمّهم المؤتمرات السياسية، و نتابع حواراتهم في الإذاعة وعلى شاشـة التلفزيون، يمسكون بأيديهم مجموعة من المفـاتيح القديمة يحاولون بها ـ دون نجاح ـ فتح الأبواب الجديدة للحياة في مجتمع المعلومات

الهروب من خريطة المخ

و لكن، كيف تمكّنت قلّة من المفكّرين المستقبليين، من اليابان إلى أمريكا، في فهم أبعاد التحوّلات الحالية، و أسس المجتمع الذي تتمخّض عنه، بينما فشلت الأغلبية الذكية ؟
قد يبدو شرح هذا حديثا علميا على شيء من المشقة، حول طبيعة المخ البشري ، و لكنه ضروري لفهم طريقة تعامل المخ مع الجديد
يعتبر العقل البشري من الأنظمة المعلوماتية ذاتية الترتيب، أي التي تنبع نظمها من داخلها ، و ليس نتيجة لعملية برمجة من خارجها، فشبكة الأعصاب التي في المخ تسمح للمعلومات المستجدّة الواردة أن تنظّم نفسها، في تتابع من الأوضاع المسـتقرّة وقتيا، ثم تتعاقـب في اثر بعضها، وفقا للنظام الخاص بها في المخ
و أبسط مثال لذلك النظام، هو ما تفعله الأمطار الساقطة من السماء، و التي تحفر لنفسها جداول و أنهار و وديان، وفقا لتبادل التأثير الأمطار الساقطة، مع تضاريس الأرض التي تسقط عليها . و هذا، يؤثّر مستقبلا في الطريقة التي تسلكها الأمطار كلّما هطلت بعد ذلك . أي أن الأمطار قد رتّبت الطريق التي تسلكها في المستقبل ترتيبا ذاتيا . ما يهمّنا هنا، هو أننا بصدد نظام، ترتّب فيه المعلومات الواردة إلى المخ نفسها، على شكل تتابع من الخطوات . و مع الزمن، يتحوّل هذا التتابع من الخطوات، إلى خريطة خاصّة للمخ، ومسـارات أو أنمـاط أو أنسـاق مفضّلة لديه . عندما تتأسّس هذه الأنماط، تصبح غاية في الفائدة بالنسبة للإنسان . فهي التي تسمح له بأن " يتعرّف " على الأشياء، و بمجرّد تنشيط النمط يرى نفسه سابحا في اتّجاهه، ليرى الأشياء وفق خبرة سابقة
و على هذا، كلّما نظرنا إلى العالم، نكون على استعداد تام لأن نراه، وفقا للمصطلحات القائمة لأنماطه و نماذجه لدينا، أو وفقا للخرائط المرسومة على أمخاخنا . و هذا هو ما يجعل عملية الإدراك على درجة عالية من القوّة و الفائدة . لذلك، نحن نادرا ما نشعر بالضياع، لقدرتنا على أن نتعرّف على معظم المواقف

العقل يرى ما هو مهيّأ لرؤيته

إلاّ أن هذا هو ـ بالتحديد ـ السرّ في أن عملية تحليل المعلومات، التي تعتبر من أهمّ عمليات التفكير العلمي، لا تصل بنا إلى أفكار جديدة . فالعقل لا يمكنه أن يرى إلاّ ما هو مهيّأ لرؤيته، من خلال الأنماط و النماذج القائمة
فهل يمكن للشخص الذكي أن يهرب ـ وسط الواقع الشامل المستجد ـ من الخريطة التي تحكم تفكيره، حتّى يتجنّب الفشل ؟ .. و ما هي الآليات أو التقنيات التي تساعده على الخروج من قبضة خريطة المخّ المسيطرة ؟ . و ما هو نوع التفكير الذي يكسب الإنسان عينا جديدة تتيح له رؤية واضحة للواقع الجديد على حقيقته ؟
الإجابة على كلّ هذه التساؤلات تكمن في أمر واحد هو " التفكـير الابتكاري "، الذي يعتبر أداة ضرورية للتعامل مع الواقع الجديد، غير المسبوق، الذي يسود حياة البشر حاليا

راجي عنايــت