Wednesday, April 28, 2010

انتماء مجتمع المعلومات

العالم اليوم ـ 2004 ـ راجي عنايــت

الانتمـاء .. في عصر المعلومات
الأقلّيات، هل تصبح الهمّ الأكبر في الحياة ؟

على مدى عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة، كان الفرد يولد في أسرة، و ضمن جماعة عرقية، و يعيش حياته كلّها في القرية التي ولد فيها، و كان ما يلتزم به من دين أو عقيدة يفرض عليه من والديه، و مجتمعه المحلي . و كانت معظم الانتمـاءات و الولاءات الأسـاسية تتحـدد عند الميلاد . كما أن هوية الجماعة كانت تظل عادة ثابتة خلال عمر الفرد كلّه .. و عندما اندفعت الثورة الصناعية عبر الأرض، تغيرت طبيعة انتساب الفرد إلى الجماعة بشكل كبير
و بدلا من انتماء الفرد لقبيلته، أو قريته، أصبح مطلوبا منه أن ينتمي إلى دولته . كما أن تقسيم العمل الجديد، الذي أخذ به عصر الصناعة، جعل الوعي الطبقي يضيف شكلا جديدا من أشكال الانتماء
و عندما مزّقت الثورة الصناعية وظيفة الأسرة، و أوكلت الكثير من مسئولياتها التقليدية إلى مؤسسات جديدة متخصصة، كالمدارس و المستشفيات و الملاجئ، قويت الروابط القومية، بينما أصبحت الروابط المحلية ضعيفة

مفهوم الأقلية في عصر المعلومات

و مع قيام ثورة المعلومات، و بدء تشكّل مجتمع المعلومات، تغيّرت طبيعة الانتماء، نتيجة لأمرين أساسيين هما
أوّلا : الاتّجاه نحو مزيد من التنوّع
ثانيا : التسارع الملحوظ في معدّلات التغيير الثقافي و الاجتماعي
ساعد تطوّر و انتشار تكنولوجيات المعلومات و الاتصالات على تحقيق المزيد من التنوّع و التباين بين الأفراد، و المزيد من المجتمعات المتباينة . و هذا يقود بالضرورة إلى تنوّع الانتماءات . و في هذا يقول المفكّر المستقبلي، و الناقد الاجتماعي، آلفن توفلر : الأمر لا يقف عند حد تشرذم الجسم السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، و غيرها من الدول ذات التكنولوجيا المتقدّمة، إلى المزيد من الأجزاء .. و لا أن تصبح سوق الاستهلاك أكثر تعبيرا عن حاجات الأفراد و الجماعات الأكثر تنوّعا .. و لا أن تنفصل العديد من الثقافات الفرعية عن القيم السائدة للأغلبية .. بل إن الأمر سيتجاوز هذا كلّه، إلى أن تعمل نفس عملية الطرد المركزي هذه داخل الأقليات نفسها . التجمّعات الفرعية في كلّ مجتمع، سواء كانت عنصرية أو عرقية أو دينية، ستنقسم هي أيضا على نفسها، إلى مجتمعات أصغر و أكثر تنوّعا، تكون أكثر تعبيرا عن هويّة الأفراد بطريقة أكثر فعالية .. لم يعد عمليا أن نتحدّث عن السود في أمريكا كجماعة متجانسة، أو عن المهاجرين من أمريكا اللاتينية ككيان واحد
و حقيقة الأمر أن التغيير يصل إلى مفهوم ما تقوم عليه الأقلية المتماسكة سياسيا، و الفروق التي كانت تبدو هامشية بدأت تأخذ دلالات ثقافية و سياسية . كما بدأت في الظهور جماعات جديدة، تعبّر عن الهوية الخاصّة للإنسان، و هذه عملية اجتماعية نشطة، تتسارع مع تباين و تشرذم وسائل الإعلام الجماهيري، و مع ظهور المنشورات التي تعبر عن المصالح الخاصّة المتباينة . كما أن ارتباطات الفرد بحكم مولده، تصبح أقل فأقل، مع وجود اختيارات أوسع لتحقيق ذاته
و العامل الثاني في تغيّر طبيعة الانتماء، يعود إلى أن مقدم مجتمع المعلومات، يرتبط بالتسارع الملحوظ في معدّلات التغيّر الثقافي و الاجتماعي، ممّا يجعل الاختيارات التي ينتمي إليها الناس أكثر مرحلية . فنرى الفرد، على مدار حياته، يتبنّى أجزاء من هويته و يصرف النظر عن أخرى، بأسرع من أيّ وقت مضى
الاختفاء المفاجئ للاستقرار السياسي
يقول توفلر عن الفوضى السياسية التي تسود أمريكا : إذا سمحنا بإلقاء العبء الكامل للتغيّرات البنيوية في اقتصادنا على عاتق أولئك الذين هم أقل استعدادا للتعامل معها، فإننا بذلك ندفع المشاكل بعيدا عن الكونجرس و القضاء إلى الشارع ! .. و أنا لا أتوقّع تكرارا آليا لما حدث في الستينات ـ مثلا ـ عندما أعلنت الأقليات المضطهدة حربها . لكن إذا ما أصبحت الظروف باعثة على اليأس، فإن ردود الفعل قد تقود إلى ما هو أسوأ .. انفجارات عنف عفوية ..إرهابا منظّما للغاية .. إلى غير ذلك من الأهوال
و هو يستطرد قائلا أنّه إذا ما ساءت الحال إلى درجة كبيرة، يمكن أن يختفي الاستقرار السياسي فجأة .. و أنّه حتّى أكثر السياسيين و رجال الأعمال غرقا في ظلمة الجهالة يشعرون بذلك . و لكنّهم لا يدركون أن ما سيحدث لن يقف عند حدّ ما حدث في الثلاثينيات مثلا، بعد أن تغيّر كلّ شيء، ممّا يقود إلى أن تصبح أشكال الاحتجاج و الاعتراض أكثر تنوّعا، و أكثر لامركزية، يصعب التنبؤ بها
و يقول " نصيحتي هي : أعطوا اهتماما خاصّا للأقلّيات، بما في ذلك أقلّها عددا، فهذا هو مصدر الألم الأكبر حاليا .. و هو أيضا مصدر الصراعات العظمى في المستقبل

..! الخطـــأ القاتل

الخطأ القاتل بالنسبة لقادة جماعات الأقلّيات اليوم، هو تقليد و نقل نفس الخطأ الذي يقع فيه كبار رجال الأعمال و قادة الحكومة، و هو الفشل في النظر إلى الأمام
الاستراتيجيات القديمة، و الأوضاع السياسية القديمة، و التناولات القديمة، لم تعد صالحة للتطبيق حاليا . و ما لم تقم السياسات الجديدة على أساس المستقبل، فإنّها ستواجه طريقا مسدودا
في هذا يقول توفلر : لو كنت مكان هؤلاء القادة، لأعطيت اهتماما خاصا بقطاع الموجة الثالثة في الاقتصاد ( يقصد القطاع الاقتصادي في مجتمع المعلومات ) .. فقد يكون من الأسهل الحصول على مكاسب معينة ـ كبرامج التدريب مثلا ـ في القطاع الاقتصادي النامي للموجة الثالثة، أكثر ما يمكن الحصول عليه من قطاع الموجة الثانية ( الصناعة ) المنكمش
و هذا يعني دراسة متأنّية لعملية إعادة البناء الخفية، وراء الزلزال الاقتصادي، الذي يكتسب دفعا متزايدا في دول التكنولوجيا المتقدّمة . و دراسة التحوّل إلى الصناعات الجديدة، مثل الكمبيوتر و وسائل الاتصال المتطوّرة، أو التحوّل إلى أحدث الخدمات و أكثرها تقدّما في مجال الصحّة، و الصناعات المساندة مثل الإلكترونيات الطبية

دعم السلطات المحلّية
على حساب المركزية

و هذا يعني أيضا الإقرار بالتحوّل طويل المدى نحو الإنتاج المحلّي و الإقليمي، و نحو تنوّع الإنتاج، الأمر الذي بدأت تظهر تطبيقاته في كل ما هو حولنا، في ملبسنا و مأكلنا و مشربنا، و في ما هو بين أيدينا من أجهزة و منتجات . كذلك، يعني الانصراف عن المدن الكبرى و المتوسّطة، و التوجّه إلى الأماكن التي تتوفّر فيها وظائف مجتمع المعلومات . و أيضا، العمل على خلق وظائف نابعة من احتياجات عصر المعلومات، و خاصة في الأماكن التي تتأزّم فيها مشكلة البطالة
و الانتباه إلى التحول في طبيعة البنية الاقتصادية التي سادت في عصر الصناعة، إلى بنية جديدة نابعة من طبيعة و احتياجات مجتمع المعلومات، يعني أن وظائف عديدة في الإنتاج على نطاق واسع، الذي سادعصرالصناعة،ستختفي .
ليس فقط تلك التي تشغلها الأقليات من المهاجرين، و لكن الأمر سيمتد إلى العديد من مجالات الإنتاج
و أخيرا، يعني هذا تكثيف الضغط السياسي ـ قدر الإمكان ـ على السلطات المحلية بصفة خاصّة، و السلطات الإقليمية في الولايات و المحافظات، بدلا من تركيز الضغط على السلطات المركزية فقط، و ذلك للحصول على الميزانيات اللازمة للعبور إلى المجتمع الجديد
و يلفت توفلر نظرنا إلى مسألة هامة، عندما يقول: فوق هذا كلّه، يجب أن تكون الأولوية المطلقة في أيّ برنامج شامل، هي ... التدريب، ثم المزيد من التدريب، ثم أيضا المزيد من إعادة التدريب

Thursday, April 22, 2010

ديموقراطية عصر المعلومات

ـــــــــــــــــــــ
ما يجب أن يعرفه أقطاب الحزب الوطني
قبل محاولة التصدّي لموجـة البرادعي
ـــــــــــــــــــــــ


العالم اليوم ـ 2004 ـ راجي عنايــت


.. المجتمع المدني
و ديموقراطية المشاركة


المقصود بديموقراطية المشاركة، هو الشكل الجديد للممارسة الديموقراطية المتوافق مع احتياجات مجتمع المعلومات، و طبيعة البشر الذين يعيشون فيه . بالضبط، كما كانت ديموقراطية التمثيل النيابي متوافقة مع احتياجات مجتمع الصناعة، و طبيعة البشر في عصر الصناعة . و من المهم أن نفهم ما تعنيه كلمة المشاركة، حتّى نرى طبيعة العلاقة بينها و بين المجتمع المدني
في ديموقراطية المشاركة، يمارس الفرد اختياره، و يتّخذ قراره، في كلّ ما يؤثّر على حياته، بنفسه، دون أن ينوب عنه أو يمثّله من يقوم بذلك . و ليست هذه هي السمة الأساسية الوحيدة في ديموقراطية المشاركة، ذلك لأنّها تقوم على إعادة بناء هياكل صنع القرار، بحيث يحدث التغيير الإداري الضروري، لكي تهبط نسبة عالية من مسئولية اتخاذ القرار من المستوى الأعلى عند القمّة، القواعد في أماكن حياتها
و لكي يصبح الفرد قادرا على اتخاذ القرار السليم في أمور حياته، يحتاج ما نشير إليه دائما من تعليم يقوم على المعرفة الشاملة، و الابتكار و الإبداع، و يسقط ما اعتدنا عليه من عمليات التلقين، و تعجيز العقل . كما يحتاج إلى إعلام يتميّز بالشفافية، و بالقدرة على طرح ما يعتمل في القواعد من أفكار و توجّهات، و ردود أفعال، و أحلام و أماني، حتّى يمكن للقيادات السياسية أن تتعرّف على حركة التحوّل النشيطة في القواعد، لكي يتاح لها أن تتخذ القرارات العامة السليمة، في الأوقات المناسبة
و هنا يأتي دور المجتمع المدني، كتمهيد طبيعي للتحوّل من الديموقراطية النيابية، إلى المشاركة

السبيل إلى المواطنة

يقول أستاذ العلوم السياسية، بنجامين باربر " بدون مجتمع مدني قوي و عفي، لن يكون هناك مواطنون، سنجد فقط مستهلكين للسلع، أو ضحايا لقهر الدول .. و : بدون مواطنين لا توجد ديموقراطية
و يتساءل الكاتب الاسكتلندي، دافيد ماكليتشي " متى تنقل حكومتنا المسئولية و السلطة إلى الأفراد ؟"، ثم يستطرد :نحن أفراد مسئولون، قادرون على اتّخاذ قراراتنا الخاصّة، و صياغة مستقبلاتنا الخاص لسنا مجرّد تروس في ماكينة الدولة، و لكن عن طريق قبولنا الطوعي المتبادل للقوانين، و المؤسسات التي تتضمّن المجتمع المدني، مدركون أن هذه المساواة في ظل القانون توفّر لنا أفضل الفرص لتحقيق أهدافنا الشخصية و الجماعية .." . أفكار هذا الكاتب تعكس فهما عميقا لجوهر الممارسة الديموقراطية في مجتمع المعلومات، و هو يرى أن دور الحكومة ضروري، و لكنه محدود . و الحكومة لم تقم لكي توجّه حياة الناس، بحيث تتفق مع أهدافها السياسية ـ كما يعتقد مسئولوها ـ بما تتضمنه تلك الأهداف من خليط الاستراتيجيات و الأهداف و الخطط . فالحكومة موجودة أساسا لتوفير الظروف التي تسمح لأفراد الشعب أن يتحكّموا في حياتهم الخاصّة، و أن يختاروا أهدافهم الخاصة .. ثم يقول : و بكلمات أخرى، يجب أن تكون اسكتلندا عبارة عن مجتمع يتشكّل وفق حركة البشر و أفعالهم، و ليس التصميمات الحكومية
و يشير ماكليتشي إلى مسألة محورية، عندما يقول أن القوّة العظمى لمثل هذا المجتمع تنبع من تنوّعه و تباينه . التوجيه من أعلى إلى أسفل، يخلق النمطية و القولبة و السطحية، بينما نحن نبحث عن التقدّم، و الابتكار، و المستويات العالية التي تنبع من الجمع بين : التنافس، و التعاون، ممّا يميّز المجتمع الحرّ في أحسن أحواله

ما هو المجتمع المدني ؟

في الأمم المتحدة، توجد إدارة إعلام، تتعاون مع " المنظمات غير الحكومية "، و هو الاسم الذي اختارته للتعبير عن مؤسسات النشاط المدني ( و سنشرح فيما يلي من حديث قصور هذه التسمية ) . فماذا تقول الأمم المتحدة ؟ : المنظمات غير الحكومية، مجموعات طوعية، لا تستهدف الربح، ينظّمها مواطنون على أساس محلّي أو قطري أو دولي . و يتمحور عملها حول مهام معيّنة، و يقودها أشخاص ذوو اهتمامات مشتركة، و هي تؤدّي طائفة متنوّعة من الخدمات و الوظائف الإنسانية، و تطلع الحكومات على شواغل المواطنين، و ترصد السياسات، و تشجّع المشاركة السياسية على المستوى المجتمعي . و هي توفّر التحليلات و الخبرات و تعمل بمثابة آليات للإنذار المبكّر، فضلا عن مساعدتها في رصد و تنفيذ الاتفاقيات الدولية . و يتمحور عمل بعض هذه المنظمات حول مسائل محدّدة، من قبيل حقوق الإنسان، أو البيئة، أو الصحّة
و قبل أن ننتقل إلى تعريفات أخرى لنشاط المجتمع المدني، نورد رأي أستاذ العلوم السياسية الأمريكي بنجامين باربر، الذي يرى إعادة تسمية المنظمات غير الحكومية التي أخذت بها الأمم المتحدة، فيقول :أي تسمية فظيعة هذه؟!، لا يمكن أن ينتج شيء جيد من أشياء يجرى تعريفها سلبيا . و هي بالقطع أكبر من كونها ( غير حكومية )، فهي شعبية . و هي أيضا غير تجارية، و غير مؤسسية، و مع ذلك فهي ما تزال تطوّعية . و هي ليست خاصّة، بمعنى أنّها خصوصية دون أن تكون ممانعة أو خاضعة للدولة . و هي لا تخضع للدولة، دون أن تتنازل عن اهتمامها العام بالعـدالة و الصالح العام . أعتقد أنّها مصدر قوّتنا الكبرى . إنها ليست غير حكومية، إنّها مدنية التوجّه . دعونا نطلق عليها اسم التنظيمات المدنية )، أو اسم الاتحادات المدنية
و هذا يضعها في مكان بين الحكومات المنتفخة، و المؤسسات الاقتصادية الخاصّة المنتفخة أيضا، محددة مجالا حيويا يتيح للحرية أن تفرخ و تزدهر فبه

مركز المجتمع المدني

مركز المجتمع المدني، منظمة عالمية، مقرّها مدرسة الاقتصاد بلندن، تتخصّص في أبحاث المجتمع المدني، توصّلت خلال آخر مؤتمراتها إلى تعريف للمجتمع المدني، بهدف اتخاذه دليلا و هاديا في نشاط الأبحاث و التعليم . و يقول : المجتمع المدني اصطلاح يشير إلى الحلبة التي يجري على أرضها النشاط الجماعي، غير الإجباري، حول الاهتمامات و الأهداف و القيم المشتركة . من الناحية النظرية، تكون أشكالها المؤسسـية متميزة عن الأشكال المؤسسية للدولة، و الأسرة، و السوق .. و إن كانت الحدود ـ من الناحية العملية ـ بين الحكومة و المجتمع المدني، و الأسرة، و السوق، غالبا ما تكون مركّبة، و مهتزّة، و مجال للتفاوض ... المجتمع المدني، عادة ما يتضمّن تنوّعا من الكيانات، و القوى الفاعلة، و الأشكال المؤسسية، تختلف فيما بينها في درجة تنظيمها، و استقلالها، و قوّتها . و في إطار الجمعيات المدنية، تنشط منظمات عديدة، مثل الجمعيات الخيرية المسجّلة، و منظمات التنمية غير الحكومية، و جماعات المجتمع، و منظمات المرأة، و التنظيمات القائمة على العقائد الدينية، و الرابطات المهنية، و الاتحادات التجارية، و جماعات مساعدة الذات، و الحركات الاجتماعية، و اتحادات نشاط الأعمال، و جماعات التضامن و الدفاع

لماذا المجتمع المدني ؟

يتساءل مركز المجتمع المدني في تقريره الأخير : لماذا المجتمع المدني ؟ .. ما معنى هذا الاهتمام المفاجئ بالمجتمع المدني ؟ .. لعل البعض يذكر أن التسمية كانت " موضة " في القرنين 18 و 19، لكنها غرقت في الاستخدامات الخاطئة، و أصبح الأمر مجالا لاهتمام علماء التاريخ . قد تكون الإجابة واضحة لنا، لكنّها حافلة بالمعاني الضمنية و الاحتمالات . لزمن طويل، آمن علماء الاجتماع بأننا نعيش في عالم يضم قطاعين : السوق أو الاقتصاد من ناحية، و الدولة أو الحكومة من الناحية الأخرى . و تاهت فكرة احتمال وجود قطاع ثالث بين السوق و الدولة
بالطبع، كانت هناك العديد من المؤسسات الخاصّة التي تخدم أغراضا عامّة .. اتحادات تطوعية، جمعيات خيرية، نشاطات لا تستهدف الربح، مؤسسات و تنظيمات لا تنسجم مع فكرة " الدولة ـ السوق " . و مع ذلك، فحتّى وقت قريب كانت العلوم الاجتماعية تهمل، بل و تنسى، مؤسسات ذلك القطاع الثالث



Friday, April 16, 2010

الإرهاب الأمريكي

عالم اليوم ـ عام 2005 ـ راجي عنايت

.. إرهاب الدولة الأمريكية
! مؤامرات و اغتيـالات و قنابل

بعيدا عن التبريرات الساذجة، التي يرددها بعض الكتاب و المفكرين الأمريكيين، حول سرّ الكراهية التي تشعر بها معظم شعوب العالم للولايات المتحدة الأمريكية .. و هل هي الغيرة من الثراء الفاحش، و التقدّم التكنولوجي الكبير .. أم هو الحسد تجاه مستوى معيشة الفرد الأمريكي، وفقا لما تردده أبواق الدعاية الأمريكية على الأقل .. أم هي الدونية التي تشعر بها الشعوب الأخرى، في مواجهة النفوذ السياسي الأمريكي، و القوّة العسكرية الأمريكية القاهرة، و القدرة العالية لأجهزة الاستخبارات الأمريكية على العبث في مقدرات شعوب العالم الأخرى ؟ ,, بعيدا عن هذا كلّه نطرح الأسباب الحقيقية لكراهية أبناء الشرق الأوسط ـ بالتحديد ـ للنظام الحاكم الأمريكي
و سنبدأ من مساندة أمريكا لشاه إيران، الذي رفضه الشعب الإيراني

عام 1978 : مع بدايات ثورة الشعب الإيراني ضد الشاه المكروه، واصلت الولايات المتحدة الأمريكية مساندتها له " بلا تحفّظ "، و طالبته بأن يكون أكثر عنفا مع الشعب الإيراني . و في 8 سبتمبر، نصبت مذبحة لما يقرب من 8 آلاف متظاهر ضد الشاة في ميدان جاليه بطهران
عام 1979 : تحاول الولايات المتحدة، دون نجاح، أن تنقذ الشاه بمغامرة عسكرية . و في يناير، يضطر الشاه إلى الفرار، و استولت الثورة الإسلامية الشيعية، بقيادة الخوميني، على الحكم
صيف 1979 : الولايات المتحدة الأمريكية تساند ـ علنا ـ جهود حكومة الخوميني في سحق التمرّد الذي قامت به حركة التحرر الكردية، فسيطرت إيران على كردستان

! المستنقع الأفغاني

عام 1979 : الرئيس الأمريكي كارتر يعلن أن الخليج أصبح من المناطق الحيوية، , أن الولايات المتحدة يمكن أن تحارب لضمان تدفّق البترول من المنطقة . و في صيف ذلك العام، تبدأ الولايات المتحدة في أفغانستان تسليح و تنظيم التنظيم الأصولي الإسلامي " المجاهدون " . و كان من المعلوم أن هذا سيقود إلى التحرّك العسكري السوفييتي ... على مدى السنوات العشر التالية، أنفقت أكثر من 3 بليون دولار على السلاح و على المجاهدين، بالإضافة إلى ثلاثة بلايين أخرى من السعودية حليفة أمريكا
نوفمبر 1979 : المحاربون المسلمون، بدعم من الخوميني يستولون على السفارة الأمريكية في طهران، و طالبوا باستعادة الشاه لمحاكمته . و بقيت السفارة، و بها 52 من موظفيها في قبضة القوات الإسلامية لمدة 444 يوما . جرت خلالها محاولة فاشلة، و مهينة، من جانب أمريكا لإنقاذهم
ديسمبر 1979 : الجيش السوفييتي يستولي على أفغلنستان
عام 1980 : الولايات المتحدة تبدأ تحريك سريع لقواتها، و تقدّم مساعدات إضافية للحكومات الرجعية العميلة مثل تركيا و باكستان و السعودية

حروب العراق و إيران و إسرائيل

سبتمبر 1980 : بدعم تكتيكي من الولايات المتحدة، العراق تغزو إيران، بادئة الحرب التي تواصلت على مدى 8 سنوات . و كانت أمريكا تزوّد إيران بالمال، و العراق بالمعلومات الاستخبارية و الدعم السياسي، من أجل استمرار الحرب، لإضعاف الدولتين، و السيطرة عليهما
عام 1981: إدارة ريجان تحض سرّا إسرائيل، و غيرها من النظم العميلة مثل كوريا الجنوبية و تركيا، لشحن مئات الملايين من السلاح المصنوع في أمريكا إلى إيران، رغم قرار الحظر السابق
عام 1982 : بضوء أخضر من الولايات المتحدة، تغزو إسرائيل لبنان للقضاء على الفلسطينيين و غيرهم من القوات المعادية لكل منهما . النتيجة قتل ما يزيد عن 20 ألف فلسطيني و لبناني . و عند اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميل، الموالي لأمريكا، تدخل إسرائيل في اليوم التالي إلى بيروت الغربية، و تقتحم المليشيات المارونية ـ بدعم من القوات الإسرائيلية بقيادة إرييل شارون ـ مخيمي صبرا و شاتيلا للاجئين الفلسطينيين، و في مذبحة بربرية يقتلون ما يزيد عن ألف من الرجال و النساء و الأطفال الفلسطينيين العزّل
عام 1983 : تحت غطاء قوات حفظ السلام متعددة الجنسيات، ترسل أمريكا قواتها العسكرية، لحماية المصالح الأمريكية، بما في ذلك القوات الإسرائيلية . و تضطر أمريكا لسحب قواتها بعد عملية انتحارية وسط قوات المارينز

! اغتيال و أسلحة و انتقام

عام 1983 : المخابرات المركزية الأمريكية تشترك في اغتيال الجنرال أحمد دليمي، القائد العسكري المغربي، الذي كان يسعى إلى إسقاط الملك المغربي الموالي لأمريكا
ربيع 1983 : الولايات المتحدة تسلّم جمهورية إيران الإسلامية قائمة بأسماء عملاء السوفييت في إيران . و في 1984، تسقط الولايات المتحدة طائرتين نفاثتين إيرانيتين، فوق الخليج الفارسي
عام 1985 : تحاول الولايات المتحدة اغتيال الزعيم الشيعي اللبناني محمد حسين فضل الله . تفشل المحاولة، و يسقط فيها 80 لبناني قتيلا
عام 1986 : عند انفجار قنبلة في ملهى ليلي في برلين، و يقتل في ذلك اثنين من الأمريكيين، تحمّل أمريكا اللوم على ليبيا، فتقصف الولايات المتحدة المنشئات الليبية العسكرية، و المناطق السكنية في طرابلس و بنغازي، و بيت القذافي، فتقتل 101 ليبيا، من بينهم ابنة القذافي المتبنّاة
عام 1987 : تنتشر البحرية الأمريكية في الخليج الفارسي لتمنع إيران من اعتراض شحنات البترول العراقي، خلال ذلك تطلق البحرية قذائفها على طائرة مدنية إيرانية، فتقتل 290 راكبا كانوا عليها

مؤامرة الغزو العراقي للكويت

يوليو 1990 : سفيرة أمريكا في العراق آبريل جلاسبي تعقد لقاء مع صدام حسين، يهدد فيه بعمل عسكري ضد الكويت لتعديها على أراضي العراق، و تجاوزها نصيبها في ضخ البترول . ثم تقوم بمؤامرتها لإشعاره أن أمريكا قد لا تعارض هذا، قائلة : ليست لدينا فكرة عن الصراعات العربية ـ العربية، كما هو الحال في خلافكم الحدودي مع الكويت
أغسطس 1990 : العراق تغزو الكويت، و تستغل الولايات المتحدة ذلك الحدث في دعم نفوذها على الخليج الفارسي . و بدأت ردود فعلها المعروفة، الإدانة و رفض التسوية الدبلوماسية، و فرض العقوبات .
يناير 1991 : الولايات المتحدة تقود قوات الحلفاء لغزو العراق في " عملية عاصفة الصحراء " . خلال 42 يوما تالية أسقط 88 ألف طن من القنابل، هادمة نظم الكهرباء و المياه، ثم بدأ الزحف . مات في هذه العملية ما بين 199 ألف، و 200 ألف عراقي
عام 1991 : تنسحب العراق من الكويت، مع وقف للنار، و تواصل أمريكا و بريطانيا فرض عقوباتها على العراق . . منذ ذلك الوقت تصاعدت أرقام القوات العسكرية الأمريكية، لتصل في منطقة الخليج إلى ما بين 17 ألف، و 24 ألف

!و أفريقيا أيضا .. لماذا لا ؟

عام 1992 : قوات المارينز الأمريكية تهبط بالقرب من مقديشيو بالصومال " لفرض النظام و الأوضاع الإنسانية ! " . لكن الولايات المتحدة كانت تسعى إلى إسقاط الرئيس العسكري الصومالي محمد عيديد، و تنصيب رئيس موالي لأمريكا. في أكتوبر عندما حاولت القوات الأمريكية اختطاف اثنان من قيادات عيديد، التهبت معركة نيران عنيفة، تم إسقاط خمس طائرات هليكوبتر أمريكية، و قتل 18 و جرح 73 جنديا أمريكيا .. و عند انسحاب المارينز كانت الولايات المتحدة قد قتلت ما بين 500 و ألف من الصوماليين
أغسطس 1998 : بزعم الرد على مهاجمة السفارتين الأمريكتين في تنزانيا و كينيا، يطلق كلينتون 75 صاروخ كروز على أفغانستان، على فرض القضاء على بن لادن . كما تدك الولايات المتحدة مصنعا للأدوية في السودان، بزعم إنتاجه لكيماويات حربية .. ثم تعلن خطأ ما قامت به
ديسمبر 1998 : أمريكا و بريطانيا تعلنان بدء " عملية ثعلب الصحراء "، بهدف قصف بالقنابل لمواقع إنتاج الأسلحة النووية و البيولوجية و الكيميائية العراقية، لأربعة أيام متواصلة
يناير 2001 : مرور عشر سنوات على حرب أمريكا مع العراق، و ما زالت العقوبات سارية، و تقدّر الأمم المتحدة وفاة 4500 طفل عراقي شهريا نتيجة للأمراض و سوء التغذية .الطائرات الأمريكية التي نفّذت 280 ألف طلعة فوق العراق، على مدى السنوات العشر، ما زالت تقصف العراقيين من الجو

* * *

ينتهي الحصر الذي وصلت إليه عند هذا التاريخ، السابق لفظائع احتلال أفغانستان و العراق، باعتبار أن أحداثهما
ما زالت ماثلة أمام أعيننا
أليس إرهاب الدولة الأمريكية أقوى بآلاف المرات ممّا تزعمه من إرهاب حماس ؟ .. طبعا، مع الفارق بين الذي يسعى إلى تحرير أرضه و موارده من المغتصب المحتلّ، و الذي يسعى إلى اغتصاب ثروات شعوب على بعد نصف محيط الكرة الأرضية، ليضاعف ثروة عصابة من كبار الرأسماليين الاحتكاريين تحكم أمريكا
هل يجوز بعد هذا أن نتساءل : لماذا تكره شعوب الشرق الأوسط الولايات المتحدة الأمريكية ؟


Friday, April 9, 2010

أمريكا، من البربرية إلى الانحطاط

العالم اليوم ـ 2005 ـ راجي عنايــت

أمريكا .. من البربرية إلى التحلل
! دون ما حضـــارة بينهما

أكثر الناس حديثا عن كراهية شعوب العالم للولايات المتحدة، هم الأمريكيون ! .. و الواقع الإحصائي يؤكّد هذا الاستخلاص الذي قد يبدو غريبا بالنسبة لنا.. ما تجمّع لدي من مواقع الإنترنيت الأمريكية التي تتحدّث عن كراهية العالم للولايات المتحدة .. عددها، و تنوّعها، و المستوى الثقافي للمشاركين فيها، يفوق كلّ تصوّر
و سأحاول أن استعرض فيما يلي من حديث، جانبا من الدراسة التي تتضمن تسجيلا زمنيا للتاريخ الطويل للتدخلات الأمريكية في شئون شعوب العالم، و بصفة خاصّة في حياة شعوب الشرق الأوسط .. الضغوط و التدخلات و المؤامرات و الاغتيالات و الانقلابات و تسليط آلتها العسكرية بكل طاقتها التدميرية . و سأعتمد في هذا على الوقائع الثابتة التي جمعها الشرفاء من المفكرين و الكتّاب الأمريكيين، و التحليلات التي قام بها كبار الأساتذة في الجامعات الأمريكية .. و لبندأ بأحدث تحليل عن الواقع الحالي للتدخّل الأمريكي بالعراق، على لسان الأستاذ الجامعي الأمريكي نعوم تشومسكي

! قصّة مستنقعين

في حديث لمجلة نيوز ويك الأمريكية، في أوائل يناير، تحت عنوان (قصّة مستنقعين) ، قال تشومسكي " نجحت إدارة بوش في جعل الولايات المتحدة أحد أكثر دول العالم، إثارة للخوف و الكراهية .." . و هو يعتقد أن المجموعة التي حول بوش تصنع أكثر الإدارات خطورة في التاريخ الأمريكي . و نعوم تشومسكي، من أكثر المثقفين الأمريكيين تأثيرا، خلال القرن العشرين، و هو أستاذ في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا .. تكمن شهرته في اعتباره العقل القائد في حركة معاداة الحروب، في بداية الستينيات خلال مغامرة فييتنام .. لكنه ما زال اليوم في أوج نشاطه
كانت تساؤلات محرر (النيوز ويك) مايكل هاستنجز تدور حول مستقبل أوضاع العراق، و الفوارق بين حركة معاداة الحرب زمن فييتنام، و حركة اليوم بالنسبة للعراق . باختصار شديد سأورد أهم ما قاله تشومسكي في ذلك الحوار
أولا : في الحالة الأولى، كان هدف أمريكا تحطيم فييتنام، لكي لا تصبح نموذجا ناجحا في التنمية المستقلة، بالنسبة لباقي دول المنطقة .. كان من الممكن تخريب فييتنام و الانصراف، لكن هذا لم يكن ممكنا في حالة حرب العراق
ثانيا : و عن سؤال حول مدى نجاح حركة معاداة الحرب في الحربين، قال أن الاحتجاجات بدأت بعد مرور سنوات على بداية حرب فييتنام . أمّا بالنسبة للعـراق فقد اندلعت الاحتجاجات العارمة في أنحاء العالم قبل أن تبدأ الحرب، بطريقة غير مسبوقة
ثالثا : لقد نجحت إدارة بوش في جعل الولايات المتحدة، واحدة من أكثر الدول إثارة للخوف و الكراهية في العالم

! من البربرية إلى الانحطاط

الأستاذ ريتشارد سبيد، المحاضر في قسم التاريخ في جامعة كاليفورنيا بهارفارد، يطرح في مقاله هذا، رؤيته لكتاب جديد بعنوان " كراهية أمريكا : تاريخ "، لمؤلفيه باري و جوديث روبين
و قبل أن يقول أي شيء، صدّر الأستاذ سبيد مقاله بقول مأثور عن الكاتب الشهير أوسكار وايلد، الذي قال : أمريكا هي البلد الوحيـد في العالم، الذي مضى من البربرية إلى الانحطاط، دون حضارة ما فيما بينهما
يبدأ سبيد بسؤال " لماذا يكرهوننا ؟ " .. و يقول " يبدو أن هذا السؤال قد أصبح على كلّ لسان هذه الأيام .. "، و يضيف أن لكل رأيه في تفسير هذا . في نظر البعض أن كراهية أمريكا ترجع ببساطة إلى أن الناس " يكرهون ديموقراطيتنا " ! . و يرى البعض الآخر أن السبب يكمن في أن الولايات المتحدة تأخذ جانب إسرائيل في مواجهة الشعب الفلسطيني . أمّا في أوروبا، فهناك ما يشبه الإجماع على أن الأمريكيين يتصرفون بعجرفة " رعاة البقر " . و أنهم متعصبون دينيون، يريدون فرض طرق حياتهم على باقي شعوب العالم
يقول الأستاذ "و قد أثار هذا ـ في السنوات الأخيرة ـ موجة كراهية مرضية تجاه الولايات المتحدة، لكن يبدو أن قلّة من الناس هي التي تعرف أن هذه الكراهـية و الاحتقار لأمريكا ليست جديدة " . و هو يشير هنا إلى كتاب " كراهية أمريكا : تاريخ " . الذي يقول أن الأوربيين المستنيرين كانوا مقتنعون بأن أمريكا تعتبر متخلّفة بالنسبة للعالم القديم، و أنه لا شيء جيد يمكن أن يصدر عنها
يقول سبيد أن الكتاب يضع الكراهية المعاصرة لأمريكا في سياقها التاريخي، باستعراض الظاهرة على مدى ثلاثة قرون . في المرحلة الأولى من كراهية أمريكا، حاولت الصفوة الفكرية الأوروبية أن ترجع التخلّف الأمريكي إلى البيئة الطبيعية التي يعيش فيها الأمريكيون . و في المرحلة الثانية، و التي بدأت في العصر الثوري، أرجع تحلل الأمريكيين إلى البشر . و حتّى في أيام جيفرسون، كان ينظر إلى الأمريكيين باعتبارهم سلالة خليط من لغات تجمّع من مجرمي أوروبا، المنبوذين، المتعصبين دينيا، الفاشلين .. و باختصار حثالة المجتمع الأوروبي

كراهية الرأسمالية

إذا انتقلنا إلى التاريخ القريب، خلال القرن التاسع عشر، كانت عداوة أمريكا التوجّه الثقافي لكل من اليمين المحافظ الذي كان يحتقر ( الجماهير )، و اليسار الرومانتيكي، الذي تحمّس و تخوّف في نفس الوقت تجاه ( الطبقات الخطيرة )، و مع تفجّر الثورة البلشفية، اكتسب العداء لأمريكا دعما حكوميا . فانضمت معاداة الرأسمالية، إلى معاداة الولايات المتحدة، في الدعايات المنتشرة التي يقوم بها الاتحاد السوفييتي . وبالنسية لليمين، ربطت الفاشية بين معاداة السامية و معاداة أمريكا
و خلال 45 سنة، هي عمر الحرب الباردة، خفتت معاداة أمريكا في أوروبا الغربية، لأن دول لك المنطقة كانت تعتمد على الولايات المتحدة في مواجهة الاتحاد السوفييتي . و هي في الحقيقة خفتت في أماكن عديدة ما عدا فرنسا، التي كانت دائما مصدرا قويا لكراهية أمريكا
لكن مع انهيار الاتحاد السوفييتي، و اختفاء الإمبراطورية الروسية، بدأت ثانية موجة خوف هستيرية من ( القوّة الهائلة الكبرى ) للولايات المتحدة ما نسيه المؤلفان
في ختام تعليقه على الكتاب، يقول الأستاذ ريتشارد سبيد " يصف المؤلفان في سلسلة من الفصول كيف تجسدت كراهية النمط الأمريكي بين شعوب أمريكا اللاتينية، ثم بين شعوب الشرق الأوسط " . و يستطرد سبيد قائلا أن المؤلفين حاولا إرجاع تلك كراهية أمريكا في الشرق الأوسط، إلى رغبة حكام هذه الشعوب في التغطية على فشل المجتمعات الإسلامية في التوافق مع الحداثة . و يقول أن المؤلفين باري و جوديث روبين يعتقدان أن مثقّفي العالم الثالث يتبنون بشكل عام مقولات العداء لأمريكا القديمة، لكي يطبقونها على النظام السائد فيما بعد انقضاء الحرب الباردة
و يلخّص سبيد رأيه في الكتاب قائلا : من الواجب الإشارة إلى أن المؤلفين قد فشلا في مناقشة كراهية أبناء الشعب الأمريكي للنمط الأمريكي في الحياة، منذ حرب فييتنام .. كراهية أمريكا، هي في الحقيقة دليل فهم لنمو و انتشار أيديولوجية أخرى للشعور بالاضطهاد، و هي تحمل أوجه شبه لا تخطأ من معاداة السامية .. السلالة الشريرة الأسبق

Sunday, April 4, 2010

الديموقراطية أم الدستور ؟

نهضة مصر ـ يونيو 2004 ـ راجي عنايت

الديموقراطية.. تؤخذ و لا تمنح

... الدسـاتير لا تصنع الديموقـراطية
و لكن الديموقراطية هي التي تخلق الدساتير

! أسطورة السوق هي أكثر أساطيرنا خبثا

لن أعود إلى ذكر ما سبق أن قلته، من أن الممارسة الديموقراطية في أي مجتمع ترتبط بنوع الحضارة السائدة فيه، بدوية أم زراعية أم صناعية أم معلوماتية . و رغم أن ديموقراطية التمثيل النيابي، كانت اختراعا توصّل إليه مخططو عصر الصناعة، لمواجهة العبء المتزايد لصناعة القرار، بعد انفصال الإنتاج عن الاستهلاك، و تعقّد الحياة بقيام مؤسّسات خاصة تتولّى الخدمات التي كانت تتكفّل بها الأسرة من قبل .. رغم هذا، فالثابت أن التطبيقات الديموقراطية في الدول الصناعية الكبرى، تتباين و تختلف من دولة إلى أخرى، و لا تتطابق مع الممارسة الديموقراطية الأمريكية
سأترك الحديث للأستاذ بنجامين باربر، الذي جمع بين البحث العلمي الأكاديمي في النظريات السياسية، و بين المساهمة العملية في الممارسات السياسية المدنية و الفنون . و الذي ساهم بجهده في العديد من الجامعات الكبرى الأمريكية و الإنجليزية و الفرنسية . و من أهم كتبه " الديموقراطية القويّة " الذي جرت ترجمته إلى ست لغات . فماذا يقول بنجامين باربر ؟

خرافة تصدير الديموقراطية

يبدأ الأستاذ باربر بطرح أربعة أسئلة كالتالي
هل الديموقراطية قابلة للتصدير ؟... هل الديموقراطية هي مجرّد وظيفة مؤسسة سياسية و دستور مدوّن ؟ ...هل الديموقراطية مرادف للأسواق ؟ ... هل تعتمد الديموقراطية على قيادة قويّة ؟
يجيب الأستاذ بنجامين باربر على السؤال الأوّل قائلا : نحن الأمريكان و الأوروبيين الذين نحتاج أكثر من أبناء أوروبا و روسيا و أفريقيا و آسيا، أن نتذكّر أن الديموقراطية لا يمكن أن تكون هدية من شعب لآخر، لكنّها الثمرة صعبة المنال لصراع محلي باهظ الثمن .. إنّها شيء يؤخذ، و ليست شيء يمنح
و عن اختلاف التطبيقات الديموقراطية، يقول باربر أن أن أشكال الديموقراطيات تختلف، وفقا لاختلاف أنواع النضال الذي يتم لكسبها . و هو يقارن بين الديموقراطية السويدية التي تركّز على الحقوق المجتمعية، أكثر من الحقوق الفردية .. و بريطانيا التي لا تأخذ بالفصل بين السلطات، بينما يعتقد الأمريكان أنّه أمر لا غنى عنه .. و الدستور الإثيوبي الجديد يحاول التوجّه إلى القبائل .. كما أن أيرلندا لا تأخذ بالفصل بين الكنيسة و الدولة .. ألمانيا فدرالية، بينما فرنسا مركزية . هذا الاختلاف بين الديموقراطيات، يوحي بضرورة قبول الأشكال الجديدة من الديموقراطيات التي
تتشكّل في أنحاء العالم

الدساتير لا تخلق ديموقراطيات

ثم يجيب الأستاذ باربر عن السؤال الثاني، داحضا الفكرة الشائعة، التي تقول أن الديموقراطية لا تزيد عن بعض المؤسسات السياسية الشكلية، التي يمكن لأي دولة أن تسلّمها لدولة أخرى . و يقول أن الديموقراطية ليست رسما تخطيطيا ذاتي التحقّق . فلا يمكن فرضها من أعلى إلى أسفل، لكنّها تنمو من القاعدة إلى ما فوق . و الدساتير لا تصنع الديموقراطية، و لكن الديموقراطية هي التي تخلق الدساتير
بدون مواطنين لا يمكن أن توجد الحرّية، و بدون ثقافة مدنية و تعليم، لن يكون هناك مواطنون، هذا هو ما يقوله باربر و يحتاج منّا إلى تأمّل طويل . و هو يستدلّ بعد ذلك برأي للفيلسوف الأمريكي جون ديوي يقول فيه أن الديموقراطية، ليست شكلا للحكومة، لكنّها طريقة حياة، ومجموعة من المواقف و التوجّهات المتأصّلة، إنّها ثقافة التفكير المستقل و التعاون في نفس الوقت، و الصراع و التراضي في آن واحد
و يلفت باربر نظرنا إلى عنصر الوقت، عند التصدّي لبناء الديموقراطية . فيقول أن الفضيلة العظمى للديموقراطية هي الصبر، و الذي يكون رصيده عادة عرضة للنفاذ .. إنّنا نتوقّع من الذين يخوضون تجربة الديموقراطية، ضمن التحوّلات التي يمر بها مجتمعهم، نتوقّع منهم أن ينجزوا في ستة شهور أو ستة سنوات، ما قمنا به في ستين سنة أو ستّة قرون . و يقول أن هذه المهمّة ليست سهلة، فالذين يتصدّون لها يواجهون خصوما من الديموقراطيات الحديثة و القديمة

الديموقراطية و السوق الحرّة

و هذا يصل بنا إلى أكثر الأوهام صعوبة و أهمية .. و هو عدم وجود ديموقراطية لا تعتبر مرادفا للسوق الحرّة . في هذا يقول باربر : حرّية شراء كوكاكولا، أو شريط فيديو للأسد الملك، ليست هي بعد حرية تحديد كيف سنعيش معا، و في ظلّ أي نظام . و يجب ألاّ ننسى أن كوكاكولا و ماكدونالد و إم تي في، يمكن أن نجدها أيضا في سنغافورة و الصين و الشرق الأوسط، و في أماكن أخرى لا توجد فيها ديموقراطيات .. تاريخيا، لم تكن الرأسمالية هي التي أنتجت الديموقراطية . قد تحتاج الرأسمالية إلى الديموقراطية، لكنها لا تعرف ـ بالضرورة ـ كيف تخلق الديموقراطية و تدعمها
و يضيف " من ثمّ، أعتقد أن أسطورة السوق هي أكثر أساطيرنا خبثا، لأن الكثيرين يؤمنون بها " . كما أن الأسواق ليست مصمّمة لكي تقوم بالأشياء التي تتكفّل بها السياسات الديموقراطية ( مثل التعليم و الثقافة و الضمان الاجتماعي و الحفاظ على البيئة ) .. المستهلك في السوق يتكلّم لغة ( أنا )، بينما تكون(نحن) هي اللغة المشتركة للمواطنين .. و يختم بنجامين باربر إجابته عن هذا السؤال بقوله : و هذا هو التناقض الذي تتّصف به السوق . إنّها لا تستطيع أن تعيش في العالم الذي تخلقه، دون أن تكون محاطة و منظمة عن طريق القوى المدنية و الديموقراطية، التي تسعى في نفس الوقت لتحجيمها

قوّة المواطنة لا قوّة القيادة

و في الرد على السؤال الرابع، حول مدى حاجة الديموقراطية إلى قيادة قوية، يقول الأستاذ باربر أن نوع الديموقراطية لا يعتمد على قوّة القيادة، بل على نوعية المواطنة . الدول الفاشية كانت لها قيادات قوية، لكنّها لم تحصل على ما هو أكثر من تلك القيادات . الديموقراطية تحتاج مواطنين ذوي فعّالية، نساء و رجال عاديين، يقومون بأشياء متميّزة غير عادية، بشكل منتظم و متواصل
الديموقراطية، هي شكل للدولة التي لا تحتاج أبطالا . و يشير باربر إلى واقعة جرت مع إيوجين ديبس القائد الشعبي الأمريكي، عندما قال له أحد أتباعه " عليك أن تخرجنا من هذه الظلمة .."، فأجابه " لن أفعل، و لا أستطيع، و حتّى إذا استطعت فلا أعتقد أنني سأفعل .. لأنّه إذا كان بإمكاني أن أقودكم خارج هذه الظلمة، فهذا يعني أنني أستطيع أن أعيدكم إليها .." . و يعلّق باربر قائلا : نحن في حاجة إلى مجتمعات لديها حصانة في مواجهة هذا النوع من البطولة
و يختم الأستاذ بنجامين باربر الحديث بقوله: بدون مجتمع مدني قوي و عفي، لن يكون هناك مواطنون، سنجد فقط مستهلكين للسلع و ضحايا لقهر الدولة .. و بدون مواطنين لا توجد ديموقراطية

حثالة الفكر الرجعي

أعرف أن دعوة الدول العربية و الإسلامية إلى الديموقراطية، من جانب الرئيس بوش، غير صادقة، و أن المسألة مجرّد ورقة يضغط بها على الأنظمة الحاكمة، حتّى تتغاضى عن ممارسات إدارته الممقوتة . كما أومن في نفس الوقت بأن دولنا في أشد الحاجة إلى الممارسة الديموقراطية الصادقة، بالمعنى المعاصر للديموقراطية، النابع من احتياجات و طبيعة مجتمع المعلومات، ديموقراطية المشاركة، و ليس الصورة العتيقة المشوّهة لديموقراطية التمثيل النيابي، التي نبعت من احتياجات المجتمع الصناعي
ديموقراطية نابعة من المجتمع المدني القوي، الذي تحدّث عنه باربر، و ليس الديموقراطية الشكلية التي تتلاعب بها احتكارات السلاح و البترول و المقاولات و الدواء، و التي لا تأتي بأكثر من عملاء لهذه الاحتكارات، يكون كلّ همّهم فعل كلّ ما من شأنه إضافة البلايين الجديدة إلى خزائن تلك الشركات، و لو كان السبيل إلى ذلك هو شن الحروب المفتعلة، و خلق المخاوف الدائمة في نفوس الشعب الأمريكي
سؤال أخير : لماذا لا يتعامل بوش إلاّ مع حثالة الفكر الرجعي، بينما تعجّ الولايات المتّحدة بكبار المفكّرين العقلاء الذين يعرفون أين يكمن صالح أمريكا ؟