Sunday, November 29, 2009

ديموقراطية مجتمع المعلومات

نهضة مصر – الثلاثاء 15 /11/ 2005 – راجي عنايــت

عندما يعرف الناخب
!.. أكثر ممّا يعرف النائب

من فرط ما استجبنا للتلقين، و استندنا إلى سنن الأقدمين، فقدنا القدرة على التساؤل .. بل قد نكون قد فقدنا الرغبة في أن نعرف حقيقة و أسباب الأشياء، صغيرها و كبيرها .. نتعلّم في مدارس، و نعلّم فيها، و يذهب إليها أبناؤنا، و مع ذلك لم يحدث أن توقّف أحدنا ليتساءل : لماذا هي كذلك ؟ .. نشارك في الانتخابات النيابية، و ندخل في معاركها، و نترقّب بحماس نتائجها، و تمضي الدورة البرلمانية تلو الأخرى، و لم يحدث أن سألنا أنفسنا عن الجدوى الحالية لهذا الشكل من أشكال الممارسة الديموقراطية
إلى متى نظلّ نسعى وفق خطط مجهولة الصاحب و الغرض ؟ .. إلى متى نتهرّب من محاولة التفكير الناقد، الذي يتيح لنا أن نتعرّف على صلاحية الأشياء التي نقوم بها أو نخضع لها ؟
ومتى نستجيب لنداء العصر، عصر المعلومات، فنمارس حقنا و واجبنا في التفكير الابتكاري، الذي يسمح لنا بالنظر إلى الأشياء من منظور غير تقليدي، فنعرّيها من ثياب تنكّرها التي تراكمت عليها عبر الزمن لتخفي حقيقتها ؟، ثم يتيح لنا أن نكتشف البدائل الأكثر تعبيرا عن صالحنا، و أكثر انسجاما مع عصرنا ؟
لماذا ينقصنا دائما التفكير الواضح، في أحوالنا و أحوال العالم من حولنا ؟ .. لماذا يتجاوز هذا عامة الناس، و من فرضنا عليهم الأميّة مصيرا، و نراه شائعا بين معظم مثقفينا و كتّابنا و أساتذة جامعاتنا، و قيادات أحزابنا، قيادات ما نطلق عليه تعبير " الحزب الوطني الديموقراطي "، القديمة و الجديدة، و ما يستجد منها عند بلوغ الأحفاد السن القانونية ؟

ما المناسبة ؟
و قد يسأل سائل: و ما مناسبة هذه المقدمة الطويلة، و الأسئلة التي لن تجد من يجيب عنها، و نحن في قلب معركة تكسير العظام الانتخابية ؟
أجيب، بأن فرط الإسفاف السياسي المصاحب لهذه الحملة الانتخابية، و كمية الزيف و الكذب و التلفيق التي تتردد على ألسنة الجميع، و في مقدّمتهم أباطـرة الحزب الحاكم، و فحش الرشاوى العلنية النقدية و العينية .. و أيضا من فرط خوفي من أن يتصوّر بسطاء الناس أن هذا الذي يجري في أنحاء مصر له علاقة بالديموقراطية عامة، أو حتّى بديموقراطية التمثيل النيابي .. و أيضا خشيتي من تصور المثقف المصري أن هذا النوع من الديموقراطية، الديموقراطية النيابية، هدفا مثاليا لجميع العصور، و سنّة من السنن التي تستوجب تكفير كل من يدينها، و كلّ من يعلن ـ بعلمه ووعيه و تجربته ـ أنها فقدت صلاحياتها في جميع أنحاء العالم، نتيجة لتحول البشر من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات
ديموقراطية التمثيل النيابي، التي تنكر على المواطن قدرته على اتخاذ قراراته فيما يمس حياته، و تفرض عليه أن ينيب عنه من يتولّى هذا من نخبة اتخاذ القرارات .. و التعليم القائم على التلقين، و على إعداد السواد
الأعظم من الدارسين للقيام بالأعمال العضـلية أو اليدوية الروتينية المتكـررة التي لا تحتاج إلى إعمال العقل .. والإعلام الجماهيري، الذي يسعى إلى قولبة الجماهير، و تعويدها على قبول ما تفرضه النخبة الحاكمة .. و نظم الإدارة البيروقراطية، القائمة على النظام الهرمي لتسلسل الرئاسات، التي تحتكر فيها الصفوة عند قمة الهرم عمليات التفكير و الابتكار و اتخاذ القرارات، و لا يكون على القواعد سوى التنفيذ دون تساؤل .. و الاقتصاد القائم على الفصل بين الإنتاج و الاستهلاك، و تعظيم الأرباح على حساب البيئة و الإنسان .. هذه النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية بدأ ظهورها في حياة البشر بعد انطلاق الثورة الصناعية، و التي صاغها الآباء الأوائل للثورة الصناعية، بهدف تعظيم الأرباح الصناعية، و ترسيخ مكانة الصفوة

الانتخابات كأداة في يد الصفوة

الديموقراطية النيابية، أو ديموقراطية التمثيل النيابي .. أو الديموقراطية التي يقوم فيها سكّان رقعه من الأرض باختيار من ينوب عنهم في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياتهم، باعتباره أقدر منهم على معرفة ما هو في صالحهم .. هذه الديموقراطية كانت نصرا للشعوب في بدايات عصر الصناعة، و ساهمت في إدخال عناصر من الشعب و طبقته المتوسطة إلى عملية اتخاذ القرار التي كانت قاصرة على الصفوة قبل ذلك، و اقتضت وجود الأحزاب التي تلعب دور الوسيط بتجميع الأصوات، التي هي وقود العملية الانتخابية و في هذا يقول المفكر المستقبلي ألفن توفلر : لابد من الاعتراف بأن الحكومة القائمة على التمثيل النيابي و الانتخاب، و التي ولدت من الأحلام التحررية لثوار المجتمع الصناعي، كانت تقدما مدهشا بالنسبة لنظم السلطة السابقة عليها .. و بفضل تمسّك هذه الحكومة القائمة على التمثيل الانتخابي بمبدأ حكم الأغلبية، و بحق كل إنسان في إعطاء صوته، ساعدت بعض الفقراء و الضعفاء في استدرار بعض المنافع، و ظهرت الحكومة في مطلع الثورة الصناعية بمظهر الثورة الإنسانية .. و مع ذلك، و منذ البدايات الأولى، عجزت تلك الحكومات دائما عن الوفاء بالتزاماتها، و فشلت في تغيير البناء التحتي للسلطة .. و هكذا تحوّلت الانتخابات، بصرف النظر عمن يربح فيها، إلى أداة حضارية قوية في يد الصفوة

ما الذي تغيّر.. و متى ؟

ظلّت ديموقراطية التمثيل النيابي، بتنويعاتها المختلفة، هي الشكل المعتمد للممارسة الديموقراطية في العالم، إلى أن انسحبت الأسس و المبادئ التي قامت عليها من حياة البشر . حدث هذا بعد قيام ثورة المعلومات، و تبلور شكل مجتمع المعلومات في نهايات القرن الماضي
فقدت النظم القديمة في الاقتصاد والممارسة السياسية و التعليم و الإدارة و الإعلام .. فقدت مصداقيتها، لتناقضها مع الواقع الجديد الذي أحدثه التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات . و في جميع المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، بدأ البحـث عن النظم الجديدة التي ستحل محلّ النظـم القديمة .. و كانت النظم الجديدة للممارسة السياسية من بين الأمور التي شغلت بال المفكرين
و بديهي أن نواقص الممارسة السياسية التي نشهدها هذه الأيام في انتخاباتنا النيابية، لا تشبه في شيء المشاكل التي واجهت الممارسة الديموقراطية في الدول الديموقراطية العريقة . لكن الثابت أن التركيبة بأكملها لم تعد قابلة للتطبيق .. الأحزاب، و صناديق الانتخابات، و اختيار نوّاب عن الشعب يتولّون عنه مهمة اتخاذ القرارات، و تحوّل نواب الشعب إلى جانب من كيان الصفوة التقليدية، بمجرّد انتخابهم ..
الأسباب الحقيقيةالمسألة ليست ـ كما هي عندنا ـ تزوير في كشوف الانتخاب، و ضغوط أمنية و أدبية و مالية على الناخبين و المرشّحين، و رغبة من النظام الحاكم ( و صفوته العليا ) في عمل كل ما يبقي له سيطرته و سلطانه .. المسألة ترتبط بالمستجدات التي خلقتها ثورة المعلومات، و أوجبها مجتمع المعلومات، و هي

أولا : الناخب أكثر خبرة من النائب
التكنولوجيات الحديثة في مجالات المعلومات و الاتصالات و الانتقالات أتاحت للبشر تدفّقا متواصلا من المعلومات و المعارف، و جعل بإمكان الفرد أن يعتمد على نفسه، أيا كان عمره، في متابعة كل ما هو جديد في الحياة و نظمها، و قاد إلى تحوّل السواد الأعظم من العمالة العضلية إلى العمالة العقلية . لقد ارتفع التعليم الذاتي، المعتمد على التكنولوجيات الجديدة، بمستوى معارف و تفكير و القدرات الابتكارية الفرد، ممّا جعله أكثر خبرة من معظم النواب فيما يجب اتخاذه من قرارات فيما يتصل بالأمور التي تمس حياته بشكل مباشر

ثانيا : التنوّع و انقضاء الجماهيرية
تزايد المعلومات و المعارف المتاحة للأفراد، و تباين استجاباتهم لها، خلق تنوّعا واسعا بين الأفراد، فلم يعودوا الآحاد المتطابقة التي قامت على أساسها جميع النظم الجماهيرية في المجتمع الصناعي، التعليم الجماهيري، و الإعلام الجماهيري، و أيضا الديموقراطية الجماهيرية

ثالثا : من التنظيمات المركزية إلى الشبكية
و انعكس هذا على النظم الإدارية التي نعتمد عليها في حياتنا، و بدأ التحوّل من المركزية إلى اللامركزية، و تغيّرت العلاقة بين القيادة و القاعدة، و اختفت طبقة الإدارة الوسيطة، فحدث انقلاب في تصميم المؤسسات، نتيجة للتحوّل من التنظيمات البيروقراطية الهرمية، إلى التنظيمات الشبكية . هذا التحوّل يتيح إقامة ديموقراطية لامركزية، تجعل الحكم المحلّي حقيقة مؤثّرة في حياتنا

* * *

لعل ما أوردناه من نقاط، يتيح لنا إدراك أن ما نحن بصدده بالنسبة للممارسة الديموقراطية، ليس مجرّد تجويد، أو تحسين، أو تخلّص من نواقص التطبيق .. إننا بصدد شكل جديد للديموقراطية، يشارك فيه كل فرد في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياته، فلا ينيب أو يوكّل من يقوم نيابة عنه بذلك .. ديموقراطية لامركزية ترتبط ارتباطا وثيقا بإعطاء أهمية مضاعفة للحكم المحلّي، و تستفيد من التكنولوجيات المعلوماتية في التصويت و تبادل الآراء و الأفكار .. يطلق عليها مؤقّتا اسم : ديموقراطية المشاركة

Saturday, November 21, 2009

ديموقراطية جديدة لمجتمع المعلومات

العالم اليوم السبت 31 مايو 1997

الديموقراطيّة النيابية
و أزمتها الحالية ...


لكي نفهم أبعاد أزمة الممارسة الديموقراطة الشائعة ، علينا أن نتأمّل تاريخ تطوّر مسئوليّة إتّخاذ القرار، التي أوصلتنا إلى ما تمارسه معظم دول العالم من ديموقراطيّة برلمانيّة، تقوم على التوكيل أو التمثيل النيابي
على مدى عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة، كانت الحياة بسيطة للغاية إذا قورنت بحياتنا المعاصرة . و كانت عمليّة إتّخاذ القرار - بالتبعيّة - سهلة و بسيطة، يستطيع الحاكم أن يقوم بها بمفرده، دون حاجة إلى العون من أحد
غاية ما يفعله الحاكم، عندما يلتبس عليه الأمر، هو إن يتّجه إلى وزيره قائلاً : دبّرني ياوزير . و كان رأي الوزير أو تدبيره إستشاريّاً، غير ملزم للحاكم، بأخذ به أو يهمله . و مع مرور الزمن، عمد بعض الحكّام إلى تكوين مجلس من حكماء البلد، يستشيره عند الضرورة، و يتنوّر بآرائه .. و هكذا، ولد أول شكل من أشكال الديموقراطيّة، نظام مجلس الشورى . غير أن رأي هذا المجلس كان، كما في حالة الوزير، إستشاريّاً ..ظلّ هذا على مرّ القرون، الحدّ الأقصى للمارسة الديموقراطيّة . و حتّى عنما قامت ديموقراطيّة روما النيابية، كانت ديموفراطيّة السادة، لا يسمح فيها لجماهير الشعب من العبيد بأيّ نوع من المشاركة

شرخ في جدار السلطة

و مع إندفاع عصر الصناعة، تعقدّت الحياة . حدث الأنفصال بين الإنتاج و الإستهلاك، ممّا قاد إلى ظهور السوق بمعناها المعاصر . و تشكّلت الحكومات البيروقراطيّة الكبرى، و مؤسّساتها الضخمة، فأصبح من الصعب على الحاكم، وعلى الصفوة التي تساعده في الحكم، القيام بمهمّة إتّخاذ القرار . و قاد هذا إلى ضرورة إحداث شـرخ في جسم السلطة لإدخال عناصر جديدة إلى عمليّة صناعة القرار ، و من ثمّ ظهرت المجالس النيابية، التي ينوب أفرادها عن الشعب في إتّخاذ القرار
وجري تصميم هذه الآلة الديموقراطيّة على نسق المصنع، الذي كان أعجوبة العصر، و محلّ إعجاب القيادات الأولى لعصر الصناعة . فأنشئت الأحزاب، المناظرة لخطوط التجميع في المصنع، تجمع أصوات المواطنين، أو المادّة الخام للعمليّة الديموقراطيّة . و تجمّعت الأحزاب داخل البرلمان أو المجلس النيابي، بقدر ما حصلت عليه من أصوات . و أصبح هذا المجلس، من الناحية النظريّة، الجهة التي تتخذ القرارفي كل ما تعرضه الحكومة من تخصيصات للميزانية، أو قوانين
في هذا النوع المستحدث من الديموقراطيّة، يعطي المواطن صوته، ليوكّل عنه شخص آخر في إتّخاذ القرارات، ويتراوح المدى الزمني لهذا التوكيل بين ثلاث و خمس سنوات في العادة . خلال هذا الزمن تنقطع صلة المواطن بعمليّة إتّخاذ القرار، و حتّى موعد الإنتخابات التالية
كانت خطوة ثوريّة

في كتابه "الموجة الثالثة"، يقول آلفين توفلر أن الحكومة القائمة على التمثيل و الإنتخاب، و التي ولدت من الأحلام التحرّريّة لثوار الموجة الثانية(يقصد عصر الصناعة)، كانت تقدّماً مدهشاً بالنسبة لنظم السلطة الأسبق، كانت نصراً تكنولوجيّاً أكثر إثارة من الآلة البخاريّة أو الطائرة . لقد أتاحت هذه الحكومة تتابعاً منظّماً، يختلف كثيراً عن حكم السلالة الوراثي، و فتحت قنوات الإتّصال في المجتمع بين القاعدة و القمّة، ووفّرت طقساً يتيح التعامل مع الخلافات بين الجماعات و الفئات المختلفة على أساس سلمي
و بفضل تمسّك هذه الحكومة، القائمة على التمثيل الإنتخابي، بمبدأ حكم الأغلبيّة، و بحقّ كلّ إنسان في إعطاء صوته، ساعدت بعض الفقراء و الضعفاء، في إستدرار بعض المنافع من إخصائيي السلطة الذين يديرون آلة التكامل في المجتمع . فظهرت الحكومة بمظهر الثورة الإنسانيّة
و مع ذلك، و منذ البداية الأولى، عجزت الحكومة دائماً عن الوفاء بالتزاماتها . لم تستطع، في أيّ مكان، أن تغيّر البناء التحتيّ للسلطة في الدول الصناعيّة ... بناء الصفوة و الصفوة العليا . و هكذا، تحوّل الإنتخاب، بصرف النظر عمّن يكسب فيه، إلى أداة ثقـافيّة قويّة في يد الصفوة
تبدّد الأحلام الورديّة

و على مرّ السنين تبدّدت الأحلام الورديّة للديموقراطية النيابية
ومع إندفاع ثورة المعلومات، و تطوّر تكنولوجيّاتها، فقدت هذه الديموقراطيّة مصداقيّتها، في جميع الدول التي تأخذ بها . و الشواهد على ذلك لا تحتاج إلى حصر، أو تقديم
لقد كانت هذه الديموقراطيّة مناسبة منذ قرنين، عندما كانت المشاركة المباشرة للناس غير ممكنة أومجديّة . أمّا الآن فقد تغيّر الوضع . و في هذا يقول الكاتب المستقبلي جون ناسبيت: أنّنا بصدد أوضاع جديدة، بعد مقدم ثورة الإتّصالات، و ما صاحبها من إرتفاع المستوى المعرفي للناخبين، ومع قدرتنا الحاليّة على معرفة الكثير عمّا يجري، بما لا يقل عمّا يعرفه ممثّلونا في البرلمان، و معرفتنا به بنفس السرعة
قلنا أن الأحزاب كانت حجر الأساس في العمليّة الديموقراطيّة، و خط التجميع الرئيسي في مصنع التمثيل النيابي . و كانت تمثّل الخطوط العريضة لمصالح و لتوجّهات المواطنين، التي كانت تستقطب في اليمين و اليسار و أحيانا الوسط . و بشكل عام، كان الفرد ينتسب إلى هذه الأحزاب وفقا لهذا التقسيم
353
حزبا في أمريكا

الذي حدث خلال نصف القرن السابق، أن كلّ حزب من هذه الأحزاب قد لحق به ما لحق بكلّ شيئ قي حياتنا ، نتيجة الدخول المتصاعد لثورة المعلومات، التنوّع و التمايز و الإختلاف . و بذلك تحوّل كلّ حزب إلى يمين اليمين، و يمين، و وسط، و يسار، و يسار اليسار !، فاختلطت التقسيمة التقليديّة، و فقدت الأحزاب مصداقيّتها بالنسبة للناخبين، و تحوّلت الإنتخابات البرلمانيّة إلى حرب عصابات
عن هذا يقول ناسبيت،" اليوم، أصبحت الأحزاب القوميّة السياسيّة مجرّد أسماء، لقد أصبح لدينا في كابيتول هيل 535 حزبا سياسيّاً.."، مشيراً إلى عدد النوّاب . و يقول عن قيادات الأحزاب،" القيادة، تتضمّن البحث عن موكب، و الوقوف أمامه، و الذي يحدث في أمريكا الآن هو أن هذه المواكب قد أصبحت أصغر فأصغر..ومازالت تتكاثر " . و مع المزيد من الدخول في مجتمع المعلومات، يتحوّل الشعب إلى مجموعة من المستقلّين . و الحقيقة أن إهتمام المواطن بالسياسيّين يقل يوما بعد يوم، و هذا هو السرّ في إنخفاض الإهتمام بالإنتخابات القوميّة السياسيّة

إنصراف المواطن عن الإنتخابات

و يستطرد ناسبيت قائلا، أن إشتراك الشعب في الإنتخابات القوميّة يتناقص مرّة بعد مرّة . و رقم99% الشهير لا نراه سوى في الدول الشموليّة . لقد إعتاد المحلّلون السياسيّون أن يربطوا بين ضعف الإقبال على الإنتخابات و بين اللامبالاة و الجهل . إلاّ أن هذا التحليل يفقد قوّته، عنما نرى أن الناخبين قد أصبحوا أفضل تعليماً، و أغزر معرفة، و أكثر تحديداً لموقفهم . لهذا، بدأ المحلّلون يفهمون أخيراً أن الناخبين يتخذون قراراً واعيا بعدم المشاركة في الانتخاباتً
يقول الناس أنهم لا يحملون ثقة كبيرة، لا في التنظيمات السياسيّة و لا في يشغلونها . و هم بموقفهم هذا، يعبّرون عن إيماتهم بأن السياسيّين: إمّا لا يستطيعون القيام بما يطلبه الناخبون، أو لا يريدون فعل ذلك
إلى أن يقول ..إنتزعنا جوهر القوّة السياسيّة من أيدي ممثّلينا المنتخبين، لكي نعيد إستثمارها في مجالين أساسيّين
الأول هو الإقتراع السرّي المباشر، بالنسبة لحق إقتراح و تعديل القوانين، و بالنسبة للإسستفتاء على العمليّات المعيّنة، و الثاني هو النشاط السياسي الشعبي . و في كلّ من الحالتين، يكون المواطنون و ليس السياسيّون، هم الذين يقرّرون ما يفعلونه، و يمارسونه

* * *

ماذا يعني هذا كلّه ؟ . يعني أنّنا بصدد الإنتقال من الديموقرطيّة النيابيّة إلى شكل جديد للمارسة الديموقراطيّة أكثر تلبية لحاجات المجتمع في عصر المعلومات، بالضبط كما إنتقلنا من ديموقراطيّة الشورى إلى الديموقراطيّة النيابيّة تلبية لحاجات المجتمع في عصر الصناعة
و الديموقراطيّة النيابيّة، شأنها شأن جميع مؤسّسات المجتمع الصناعي، قد إستنفذت أغراضها . و لا يجدي في هذا القيام بجهود ترقيعيّة، و إنّما الذي يجدي، هو البحث عن شكل جديد للديموقراطية ـ سواء كانت ديموقراطية المشاركة، أو الديموقراطية التوقعية، أو الديموقراطية شبه المباشرة ـ على أن يتم ذلك من خلال فهم إحتياجات مجتمع المعلومات بشكل عام، وفي مجال الممارسة الديموقراطيّة بشكل خاص
راجي عنايــت

Monday, November 16, 2009

مستقبل مصر

العالم اليوم ـ السبت 28 يونيو 1997

.. كيف تدخل مصر
مجتمع المعلومات ؟

في مصر .. تغيّر الوضع كثيرا عمّا كان عليه، يوم أن بدأت الحديث عن المستقبل و عن ثورة المعلومات و مجتمع المعلومات، منذ أكثر من 15 سنة . لقد أصبحنا أكثر وعياً بالتغيّر الجذري الذي يؤثّر على حياة البشر في هذه المرحلة . و التكنولوجيات المعلوماتية التي كنت أشير إليها كمستحدثات مستقبلية، تثير الإندهاش، قد أصبحت في كثير من المجالات أمراً واقعاً محسوساً . و دخول هذه التكنولوجيات المعلوماتية المتطوّرة إلى حياتنا، جعل من السهل علينا أن نتفهّم ما كنت أكتبه طوال هذه السنوات عن مجتمع المعلومات، و عن أسلوب الحياة الجديد الذي يفرضه الدخول إلى مجتمع المعلومات، و الذي يؤثّر على كلّ شيئ في حياتنا، الإقتصاد و الأسرة و التعليم و الإدارة و الممارسة السياسية و الثقافة و القيم
و من ناحية أخرى، هناك الجانب السلبي لهذا التغيّر، متمثّلاً في إستخدام الساسة، في الحكومة والمعارضة، و في مجالات الدعاية الإعلامية، لمفردات و مصطلحات هذا التحوّل، لتحقيق أهداف سياسيّة و دعائية قصيرة المدى . نشهد ذلك في نصوص الخطط الحكومية، و في التصريحات اليومية للوزراء و المسئولين، و في كتابات الصحفيّين، ممّا يفرغ هذه المفردات من محتواها، و يثير البلبلة في عقول الذين يسعون إلى فهم الواقع الجديد

خريطة مصر الحاليّة

لقد تحدّثت كثيراً، على مدى هذه السنوات، عن طبيعة التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات، و عمّا يقتضيه هذا التحول من عمليات إعادة بناء في جميع المجالات . و إذا أسقطنا ما نقرأه و نسمعه كلّ يوم من دعايات غير صادقة، عن الطفرة التي حقّقتها التكنولوجيا المصريّة، و عن المكانة غير المسبوقة للإقتصاد المصري، و عن الثورة التي حدثت في النظم التعليمية و التي تنقلنا إلى تعليم عصر المعلومات .. إذا أسقطنا هذا كلّه، أصبح بإمكاننا أن نصل إلى نظرة واقعية أمينة للخريطة المجتمعية الحالية في مصر . التأمّل الأمين للأرض التي نقف عليها، هو السبيل لرسم المسار العملي الذي يساعدنا على تجاوز تخلّفنا، و اللحاق بركب التحوّل إلى مجتمع المعلومات
مصر، و الدول النامية بشكل عام، تختلف في خريطتها المجتمعيّة عن الولايات المتّحدة، و العديد من الدول الأوربية، و اليابان، أعني بذلك الدول التي إستكملت طور الصناعة، و خضعت منذ عشرات السنين لمقتضيات مجتمع الصناعة

تتشابك على أرض مصر اليوم ثلاثة أنساق مجتمعية . فالخريطة المجتمعيّة لمصر تتكوّن من الآتي

أولا : بقايا قويّة لمبادئ و أسس و ممارسات و قيم المجتمع الزراعي
ثانيا : دخول غير مكتمل إلى مبادئ و أسس و قيم المجتمع الصناعي
ثالثا : إرهاصات غير مترابطة لإقتحام مبادئ و أسس و قيم مجتمع المعلومات
ماذا يفعل صانع القرار ؟

ماذا يفعل صانع القرار في مواجهة هذا الوضع ؟
على صناع القرار، في القيادة و على مختلف المستويات، أن يدخلوا في إعتبارهم عدّة أمور أساسيّة، إذا ما عزموا على دخول مجتمع المعلومات، و اللحاق بالدول التي سبقتنا، و مواجهة الواقع الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي الذي تفرضه العولمة .. جلوباليزم

(1)
إسقاط فكرة السعي إلى تقليد و محاكاة مراحل التطوّر التي إجتازتها الدول الصناعية المتطوّرة، فإنّ مثل هذا التوجّه لا يعني سوى تأخّرنا عن ركب الدخول إلى مجتمع المعلومات، و إستمرار تخلّفنا
(2)
محاولة تحسين ظروف مصانعنا القائمة و تطويرها، بحيث تصبح أقلّ تلويثاً للبيئة، و أكثر إعتماداً على التكنولوجيات المعلوماتية المتطوّرة، و على العمالة العقلية أو المعرفيّة المتطوّرة
(3)
عند إنشاء المصانع الجديدة، يجب تغليب التوسّع في الصناعات الصاعدة، ذات القيمة المضافة العالية، كالصناعات الإلكترونية، و صناعات هندسة الجينات، و البتروكيماويات المتطوّرة، و أشباه الموصّلات . و عدم قبول المصانع القديمة، التي تسعى الدول المتطوّرة إلى التخلّص منها، و التي تقود إلى تكريس بقاء العمالة المصريّة عند مستوى العمالة العضلية
(4)
الخطوتان السابقتان تقودان إلى تفاقم مشكلة بطالة جديدة، يطلق عليها البطالة البنيويّة، الأمر الذي تعاني منه حاليا جميع الدول الكبرى المتطوّرة . و هذا يقتضي التركيز الشديد على نشاط التدريب و إعادة التأهيل، لتسهيل تشغيل العمالة التقليدية في الصناعات الجديدة . علما بأن صناعة التدريب و التأهيل هذه يمكن أن تحل جانبا من مشكلة البطالة بالنسبة للعاملين فيها
(5)
و أيضا، في مواجهة البطالة المتزايدة، لابد من تطوير قطاع الخدمات، لخلق وظائف جديدة . والإعتماد في ذلك على الإنجازات التكنولوجيّة في هذا المجال
(6)
العنصر الثالث في مواجهة البطالة، يقتضي إعادة النظر في أيام و ساعات العمل المعمول بها حاليّا، الأمر الذي تأخذ به الدول المتطوّرة، إحتراماً لبشرية العام
(7)
الإختيار بين البدائل التكنولوجية المطروحة، لكي نحصل على ما يكون أكثر إتّفاقاً مع ظروف حياتنا، و الإستراتيجية التي نضعها للتحوّل إلى مجتمع المعلومات . و في هذا المجال يمكننا أن نوازن بين الإندفاع إلى تبنّي التكنولوجيات المختلفة، و بين خططنا لتخفيف حدّة البطالة، و نختار التكنولوجيات غير المعقّدة التي يمكن الإعتماد عليها في المشروعات الصغيرة المنتشرة على إتّساع رقعة مصر
(8)
إعادة بناء نظمنا التعليمية الحالية، بما يتّفق مع إحتياجات العمل و الإبتكار في مجتمع المعلومات، من التعليم العام إلى الجامعة و مراكز البحث المتخصّصة . و وضع إستراتيجية علمية للعملية التعليمية، تنبع من رؤيتنا العامة لعملية التحوّل، و لا تخضع للأهواء السياسية قصيرة المدى . على أن يكون الهدف المباشر من هذه الإستراتيجية هو بناء الإنسان المصري وفقا لإحتياجات عصر المعلومات، أمّا هدفها البعيد فيكون السعي إلى إبتكار التكنولوجيات المتطوّرة المناسبة لنا، و عدم الإكتفاء باستيراد ما يسمح لنا بإستيراده
(9)
في مواجهة التغيّرات الدائمة، التي يتميّز بها عصر المعلومات، يكون علينا أن ندعم التعليم الذاتي، إعتمادا على التكنولوجيات الإلكترونية المتطوّرة المتاحة، بحيث يكون سندا للفرد في سنوات تعلّمه وفي عمله بعد ذلك، يساعده على تطوير خبراته أوّلا بأول، بحيث لا يتعرض لمخاطر البطالة
(10)
أن يفهم صانع القرار أن المعلومات و المعارف - و هي المورد الأساسي و الأهمّ في مجتمع المعلومات - ليست كباقي الموارد التي عرفها الإنسان، سواء في عصر الزراعة أم في عصر الصناعة، لأنّها لا تخضع - كسابقاتها - لقانون بقاء الطاقة . فالمعلومات و المعارف يمكن أن تستحدث، و يمكن أن تفنى و ينقضي أجلها . هذا بالإضافة إلى أن حجمها الكلّي أكبر من مجموع أجزائها . المعلومات - بعكس السلع - يمكن أن تبيعها و تتقاضى ثمنا لها، بينما تظل مالكا لها كل هذا، يقتضي أن يفهم صانع القرار أن النظريات الإقتصادية الحالية و المعمول بها لن تصلح للتعامل مع واقع مجتمع المعلومات . هذا الفهم ينهي الحيرة التي يقع فيها حاليا صنّاع القرار في أنحاء العالم، عندما تفشل خططهم القائمة على النظريات الإقتصاديّة التقليديّة، و تتولّد عنها المشاكل غير المسبوقة ، يوماً بعد يوم . فائض القيمة التقليدي يتحوّل من العمل إلى المعلومات و المعارف، ونظريات و قوانين الملكيّة التي إبتدعها الإقتصاد الصناعي، لم تعد صالحة للتعامل مع الواقع الجديد
(11)
الواقع الجديد الذي نتحدّث عنه، لا يقف أثره عند حدّ الإقتصاد، بل يمتدّ إلى جميع مجالات حياتنا. ولكي نضمن إستمرار نجاح خططنا الإقتصادية، لا بد أن نعيد بناء الأسس الديموقراطية التي شاعت في عصر الصناعة . النجاح الإقتصادي و الإنتعاش و حل مشاكل البطالة، يتطلّب إعادة توزيع سلطة إتّخاذ القرار بشكل جذري، وفقا للنظام الإداري الذي ينسجم مع عصر المعلومات . إنّنا بصدد نوع جديد من الديموقراطية، القائمة على المشاركة و ليس النيابة و التوكيل . إنّنا بصدد دور جديد للحكومة، يتضمّن أساساً التسهيل و التيسير، و ليس القيادة و التحكّم و الأمر
(12)
مجتمع المعلومات، هو مجتمع التغيّرات السريعة المتلاحقة . التغيّرات تحدث فيه بسرعة متزايدة، أكبر من أن تتيح لنا التعامل معها بعد حدوثها . لم يعد ممكناً أن يمضي صانع القرار في مصر، فيما إعتاده من إنتظار وقوع الحدث، ثم البحث عمّا يتوفر لديه من أدوات للتعامل معه

* * *

الحديث عن المستقبل في مصر، يجب أن يتجاوز تجميل الخطاب السياسي . علينا جميعاً أن نسعى بصفة دائمة إلى تأمّل مؤشّرات التحوّل الراهنة، و نحاول أن نتعرّف على القوانين الجديدة التي تحكمها، بحيث تتأسّس لدينا رؤية مستقبلية، تفيدنا في توقّع الأحداث، و تساعدنا في الإستعداد لها قبل أن تقتحمنا
راجي عنايــت

Wednesday, November 11, 2009

لماذا يفشل الأذكياء المخلصون ؟

نهضة مصر ( عدد الخميس 25نوفمبر2005 ) راجي عنايــت

..!وسائل منع الفهم
أفكار الأذكياء في مصرلماذا تبدو عقيمة ؟

لن أتكلّم هنا عن الأذكياء من محترفي العمل السياسي الغوغائي، و لا أنتوي الحديث عن الذكاء الانتهازي الذي يسيطر على حياتنا السياسية .. إنّما أتوجّه بالحديث إلى الأذكياء المخلصين لمصر، الجادين في البحث عن مخرج لها من مأزق التخلّف الحالي . فعلى مدى نصف قرن، عايشت المئات من المؤتمرات و حلقات البحث و الدوائر المستديرة، التي جمعت بين العديد من الأذكياء الجادّين، الساعين بصدق لحلّ مشاكل مصر، و البحث عن مستقبل مضيء لها.. و قرأت مئات المقالات الجادة عن هذا في صحافتنا .. لكن الواقع المرير يقول أن خلاصة الآراء و الأفكار و السياسات التي توصّل إليها هؤلاء الأذكياء، جاءت عقيمة، و لم تنجح في تشخيص المشكلة الحقيقية، و رسم الحلول العملية الواقعية .. السرّ وراء هذا كلّه، وسائل منع الفهم التي تشيع في حياتنا الفكرية
وسائل منع الفهم هذه، مصدرها سبب موضوعي، يتّصل بالتغيّرات الجذرية المتسارعة التي يمر بها المجتمع البشري، و التي تنقلنا من واقع و مبادئ و قوانين عصر الصناعة الذي ساد حياة البشر على مدى ما يزيد عن قرنين، إلى واقع جديد نابع من عصر المعلومات و الاتصالات، و له واقعه و مبادئه و قوانينه التي تختلف عن سابقه، بل و تتناقض معه
و سأورد فيما يلي ـ باختصار شديد ـ جانبا من وسائل منع الفهم هذه، و التي تصاحب عملية التحوّل الكبرى التي يمر بها البشر، في جميع أنحاء العالم
ليس المزيد ممّا كان
يعوق فهمنا لما يجري، اعتبار أن الآتي هو المزيد ـ أو الأقل ـ ممّا كان . أي أن الأمر مجرّد تغيّر كمّي، يجوز فيه الخضوع لنفس المبادئ و القوانين التي اعتمدنا عليها، على مدى القرنين الماضيين
و حقيقة الأمر أننا بصدد نسق حياة جديد تماما، تقوم على مبادئ و أسس جديدة في جميع المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية . و الفشل السائد ـ عندنا و في معظم المجتمعات البشرية ـ يرجع إلى محاولة فرض حلول تاريخية على واقع مستجد . فهم طبيعة مجتمع المعلومات الجديد، تفسّر لنا سر المشاكل الحالية المتضخّمة، في الاقتصاد، و التعليم، و الممارسة السياسية، و الإدارة، و الأسرة
تشابك الظواهر
كما يعوق فهمنا، تصوّر أنه من الممكن النظر إلى كلّ جانب، و دراسته بشكل جزئي بمعزل عن الجوانب الأخرى .. كأن يتصور الإنسان إمكان لبحث عن حلول مستقبلية للتعليم، دون معرفة مستقبل اقتصاد عصر المعلومات، و اختلافه
عن اقتصاد عصر الصناعة و هذا هو الخطأ الذي يقع فيه الوزراء بحكم تخصصهم، وهو أيضا الخطأ الذي وقعت فيه لجنة السياسات بالحزب الوطني عندما تصوّرت إمكان حل كلّ مجال على حدة، دون إدراك لتشابك الظواهر المستجدّة

المصطلح كائن حيّ
و من أسباب الخلط، استخدام الكلمات و المصطلحات بمعانيها القديمة، دون الاتفاق عن معانيها الجديدة في ظلّ المجتمع الجديد . كلمة " الديموقراطية " قد لا تعني شيئا في مجتمع قبلي، و لكنها تعني الشورى في المجتمع الزراعي . و قد ابتدعت القيادات الفكرية لعصر الصناعة نوعا جديدا من الديموقراطية، ينسجم مع درجة تعقّد الحياة و تركيبها، أحدث شرخا في جسم سلطة اتخاذ القرار دخلت منه أعداد من الطبقة المتوسطة، لم يسبق لها أن دخلت ذلك المجال، و كانت تلك ديموقراطية التمثيل النيابي . و اليوم، تفقد هذه الممارسة الديموقراطية جدواها في كل أنحاء العالم، و بدأ المفكّرون في البحث عن أشكال للممارسة الديموقراطية تناسب المبادئ و الأسس الجديدة لمجتمع المعلومات، و بدأنا نسمع عن الديموقراطية نصف المباشرة، و ديموقراطية المشاركة، و الديموقراطية التوقّعية
الأيديولوجيات السابقة
من أخطر وسائل منع الفهم، الانطلاق من نظرية أو أيديولوجية أو عقيدة سابقة، نبعت من ظروف مجتمعية تختلف عن الظروف الراهنة . يتّصل هذا بأهم أركان التفكير الناقد، الذي يلزم بمراجعة الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها أي نظرية أو عقيدة أو نظام أو مذهب، للتثبّت من أن تلك الافتراضات ما زالت قائمة و سليمة
مثال ذلك، ما نشهده حاليا من حديث عن السقوط النهائي للاشتراكية، و انتصار الرأسمالية، مع كلّ ما تعانيه الرأسمالية حاليا من مشاكل غير مسبوقة، يستحيل الوصول إلى حلّ لها.. و السبب هو أن الاشتراكية و الرأسمالية هما معا وجهان لعملة واحدة هي المجتمع الصناعي .. و أن هذه العملة ترفع حاليا من التعامل، بعد أن بدأنا الدخول إلى مجتمع المعلومات . النظريات و القواعد التي وضعت لمجتمع رعوي أو قبلي أو زراعي، لا يصحّ أن يأخذ بها أبناء المجتمع الصناعي، و كذلك لا يصح لأبناء عصر المعلومات أن يأخذوا بأي نظم أو نظريات أو عقائد نابعة من مجتمع سابق، إلا بعد التثبّت من أن الافتراضات التي قامت عليها ما زالت سليمة
التغيير متكامل
من الأمور التي تسبب لنا الكثير من الخلط الفكري، و تعوق فهمنا لما يجري حولنا، تناول عنصر واحد من عناصر التغيير، و محاولة تصوّر المسـتقبل من خلال ذلك، دون أن ندخـل في اعتبارنا باقي التغييرات
التي تتبادل التأثير فيما بينها
لا قيمة لجهد أي وزارة من الوزارات، في مجال إعادة البناء من أجل العبور إلى مجتمع المعلومات .. على مدى نصف القرن الماضي، تعددت المشاريع الوزارية في هذا المجال، دون أن تنجح في تحقيق هدفها . في زمن التغيير الشامل الذي نعيشه، لا يمكن لوزير التعليم ـ أي وزير ـ أن يعيد بناء العملية التعليمية دون أن يتم هذا بالتنسيق المحكم مع العمليات المناظرة في الاقتصاد و العمل و الممارسة الديموقراطية
لو نجح وزير التعليم ـ بمعجزة ـ في التحوّل من تعليم التلقين الذي نعتمده، إلى التعليم القائم على التفكير الناقد و الابتكاري، أو التعليم خالق المعرفة .. إذا تم هذا دون أن يتم التحوّل من العمل القائم على العمالة العضلية إلى العمل القائم على العمالة المعرفية، فستكون النتيجة بطالة بنيوية شاملة .. و العكس صحيح . كلك سينهار المجتمع لو أتاح التعليم أجيالا تفكّر و تناقش و تبتكر، بينما بقيت ممارستنا الديموقراطية على حالها من الشكلية و الادعاء لهذا، كنت أقول دائما : لا يكفي أن نحصر مؤشرات التغيير الحالية لنفهم طبيعة الحياة التي نمضي إليها، بل لا بد من أن نفهم جيدا التأثيرات المتبادلة بينها
أهمّية الرؤية المستقبلية
رصد مؤشرات التغيير الحالية التي تمر بها البشرية، ثم محاولة فهم طبيعة العلاقات متبادلة التأثير فيما بينها، هو الذي يتيح لنا أن نتبين معالم مجتمع المعلومات الذي نمضي إليه، و يسمح لنا بوضع رؤية مستقبلية شاملة تفيدنا في فهم حركة الأشياء المركبة، و نحن نعبر من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات
الرؤية المستقبلية، هي التي ستتيح لنا أن نستنبط صورة الحياة القادمة في أي مجال من مجالات حياتنا الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية، دون أي تناقض في تصوّراتنا المختلفة . و هي التي تتيح لنا وضع الاستراتيجية العامة لإعادة بناء مصر، و الاستراتيجيات الفرعية، و الخطط طويلة المدى و قصيرته، و هي التي ستسمح لنا بوضع الأولويات المناسبة لقدراتنا و واقعنا الراهن
* * *
إذا كان هذا الطرح يفيدنا في فهم سر فشل الأذكياء المخلصين من أبناء مصر، الذين يتصدون لطرح الأفكار، و يساهمون في العمل السياسي، أو العام ...فهو يفيد أيضا في فهم حالة الضياع التي يجد فيها الحزب الوطني نفسه، هو و أمانة سياساته .. رغم غياب صفتي الذكاء و الإخلاص في هذه الحالة

Sunday, November 8, 2009

لكل شيء نهاية

نهضة مصر – 22/11/2005 – راجي عنايــت

.. هذه الانتخابات
جعلها الله
آخر أحزان الشعب، و هزائمه

أوشك الحديث عن البرامج السياسية و الوعود الوردية أن ينتهي، لكي يتفرّغ الجميع لمراجعة كشوف المكسب و الخسارة، و الاستعداد لاسترداد كل جهد أو مال بذله حزب أو مرشّح.. و فوقه الأرباح . و لمّا كانت انتخابات هذا العام مكلّفة بشكل استثنائي استهلكت الكثير من أموال الشعب والحكومة و الأحزاب و كبار الرأسماليين و قيادات التيار الإسلامي، شعرت بحتمية وقوع التغيير الجذري .. فدون زعم التنبؤ بالمستقبل، لدي إيمان عميق بأن هذه الانتخابات ـ أيا كانت نتائجها ـ ستكون آخر الأحزان لشعب مصر .. لماذا ؟، لأن أطرافها جميعا قد استنزفوا جميع الفرص التي أتيحت لهم، و استغلوا براءة الجماهير أو سذاجتها أو انكسارها التاريخي، أو صبرها المرضي الطويل .. لكن، لكل شيء نهاية
الأغلبية الصامتة

نحن في أشد الحاجة إلى المعرفة الدقيقة لأساسيات البرامج المستقبلية لمصر، التي تساعدنا على إعادة البناء في جميع المجالات، بجهد مخطط مدروس، يساعدنا على اللحاق بالركب العالمي .. و سنرى أنها تختلف جذريا عمّا يردده دعاة الحزب الوطني و أمانة سياساته، و أيضا مع أي حزب أو تشكيل من التشكيلات التي أفرزتها الصحوة الديموقراطية الموءودة .. و الأمل كبير في أن تستفيد من هذه المعرفة الأغلبية الصامتة المنطوية من فرط يأسها، و الأقلية العاقلة الأمينة في جميع التجمّعات الحالية، و التي لم تتلوّث بعد بالمصالح، أو تغرق في التفكير السياسي الغوغائي .. إنّ ما أطرحه هنا يستهدف جيلا جديدا من أبناء مصر و بناتها، لمسوا فساد الساسة و تخلّفهم، و استندوا إلى معارف لم تكن ميسّرة لمن سبقهم، و أحسنوا استخدام التكنولوجيات المعلوماتية التي أتاحها عصر المعلومات، و أدركوا الحاجة إلى عمليات إعادة بناء جذرية، تحكمها معرفة شاملة بحقائق المجتمع الذي يمضي إليه البشر، مجتمع المعلومات

المسطرة الكبرى

لقد سبق أن قلت هذا و كتبت عنه، على مدى ربع القرن الماضي، لكنّي أتوجّه به اليوم إلى جيل جديد، أكثر حاجة إليه من الأجيال السابقة .. خاصّة و نحن في أعقاب صحوة شعبية، حطمت جميع الخطوط الحمراء، و أذاقت البشر حلاوة القول الصريح، و النطق بما يعتمل في الصدر دون تردد أو خوف .. و أملي كبير في أن يساعد هذا الطرح العلمي على توجيه طاقة هذا الجيل الجديد إلى عمل بنّاء، يتجاوز بنا هوّة التخلّف التي تفصلنا عن الشعوب المتقدّمة

المسطرة الكبرى، تتضمّن مؤشرات التحوّل من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات، أي أنها تحدد طبيعة الحياة الجديدة التي يمضي إليها البشر . لذلك يجب أن تكون هذه المسطرة هاديا لنا عند التصدّي لرسم استراتيجياتنا في أي مجال من مجالات الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و هذه المسطرة لا يمكن أن يتجاهلها أي برنامج إصلاحي لأي حزب أو جماعة أو هيئة تستهدف الانتقال بمصر من وضعها المتخلّف الحالي، و اللحـاق بركب الدول المتقدمة، التي قطعت شوطا في العبور إلى المستقبل .. إلى الحياة في مجتمع المعلومات
في هذا المقال سأطرح مؤشرات التغيّر الأساسية، التي تحكم انتقال البشر إلى عصر المعلومات .. و سأطرحها بتركيز شديد، حتّى يتضح للقارئ بسهولة طبيعة و نوع الهدف الذي يجب أن نسعى إليه، و نحن نخطط لعمليات إعادة البناء الشامل التي نحتاجها .. و لا نحتاج لأقلّ منها
بعد أن ننتهي من ذلك سنكتشف الهوّة الواسعة بين ما نطرحه، و ما تطرحه الحياة السياسية المصرية حاليا، كوسيلة للإصلاح السياسي .. و سنعرف سرّ الفشل المتكرر الذي صادفه الحزب الوطني على مدى عقوده الثلاثة، لانقطاع الصلة بين ما نطرحه و ما يدعو إليه كبرامج شكلية، لا تنجح في إخفاء الرابط الحقيقي الذي يجمع حوله الأنصار : النفعية و الانتهازية و تبادل المصالح

مؤشرات التغيير الكبرى

أهم مؤشرات الانتقال من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات، هي أننا نتحوّل
( 1 ) من سيادة العمل العضلي إلى سيادة العمل العقلي و المعرفي .
( 2 ) من نمطية البشر و محاولة قولبتهم إلى تشجيع التنوّع و التباين بين الأفراد .
( 3 ) من المركزية و اعتماد الهرم البيروقراطي، إلى اللامركزية و اعتماد التنظيمات الشبكية .
( 4 ) من التزامن المحكم، إلى الزمن المرن .
( 5 ) من الاقتصاد القومي، إلى الاقتصاد العالمي .
( 6 ) من التخطيط قصير المدى، إلى الرؤية المستقبلية .
( 7 ) من ديموقراطية التمثيل النيابي، إلى ديموقراطية المشاركة .
( 8 ) من التعليم القائم على التلقين النمطي، إلى التعليم الشخصي و الذاتي و القائم على الابتكار .
( 9 ) من الاعتماد على المؤسسات، إلى الاعتماد على الذات .
( 10 ) من عشق الضخامة، إلى الصغير الأنفع و الأجمل .
( 11 ) انقضاء عمليات الانفصال التي فرضها الاقتصاد الصناعي، بين المنتج و المستهلك، و بين العامل و صاحب العمل، و بين المدخر و المستثمر، و أخيرا بين الإنسان و الطبيعة
( 12 ) من الملكية الخاصّة، إلى الحيازة
من الصناعة إلى المعلومات
بديهي، أن جميع هذه التحوّلات، و غيرها ممّا لم يتّسع له المجال، هي نتاج التحوّل الرئيسي من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات
و هناك ملاحظة هامة، أكررها كثيرا على سبيل الاحتياط، هي أن هذه التحولات ليست أحلاما أو أماني، لكنّها النتيجة الطبيعية لانتقال البشر من عصر لآخر ، و بشكل أدقّ الانتقال من الاعتماد على تكنولوجيا ابتكارية كبرى قامت عليها حياة البشر طوال عصر الصناعة، هي الآلة البخارية و ما تطوّر عنها من تكنولوجيا كهروميكانيكية.. إلى تكنولوجيا ابتكارية كبرى جديدة، هي الكمبيوتر و التحكّم الرقمي و أقمار الاتصال، تقوم عليها حياة البشر في عصر المعلومات

الفرق بين الإصلاح و إعادة البناء

حتّى نفهم بوضوح المحنة التي نحن في وسطها، علينا أن نفرّق بين اصطلاحين " الإصلاح " و " إعادة البناء" .. أو نعي المعني الحقيقي لكلمة ( ريفورم ) الإنجليزية، و التي تعني حرفيا إعادة التشكيل أو البناء، و نترجمها نحن إلى كلمة : إصلاح
الإصلاح، يعني إعادة الشيء إلى أصله .. عندما يتلف شيء في السيارة، و يتعطّل عملها، يستبدل الميكانيكي الجزء التالف بجزء مثيل سليم، فتعود السيارة إلى عملها كما في السابق .. و هذا هو الحد الأقصى لأحلام و أماني و برامج الحزب الوطني، و خطط أمانة سياساته، و كذلك برامج باقي الأحزاب و الجماعات الجديدة التي انبثقت من الآمال القصيرة للمرحلة الأخيرة، و الإصلاح هو غاية أحلام معظم المفكرين و الكتاب الذين ينتقدون الأوضاع الحالية .. الكل يريد العودة بالحال إلى ما كان عليه من عقد أو خمسة عقود .. أو قرن من الزمان كما في أحلام الماركسيين .. أو 14 قرنا كما في حال الإخوان المسلمين

..الخطأ الأكبر

و هذا هو الخطأ الأكبر الذي يقضي على أي أمل في مستقبل معقول لمصرـ و هذه هي نتيجة القصور في تفكير معظم المفكرين الإصلاحيين في مصر، الذين لا يدركون أن الجنس البشري، في كل مكان من العالم و بلا استثناء، يخضع لنظم حياة جديدة، تختلف اختلافا كبيرا عن النظم التي يعتبرها المصلحون هدفا لهم، بل و تتناقض معها في معظم الأحيان ـ و الجريمة الكبرى هي أن ننكر ضرورة و حتمية التصدّي لعمليات إعادة البناء الكاملة، و فق رؤية مستقبلية شاملة، تستوعب واقع مجتمع المعلومات، و طبيعة الخريطة الحضارية الحالية لمصر .. و أن نضيع لوقت في محاولة العودة إلى الوراء، في الوقت الذي يتقدّم فيه البشر بشكل متسارع، كل سنة، بل كل شهر و كل يوم
و قد طرحت جانبا من مؤشرات التغيير التي تنقلنا إلى مجتمع المعلومات، حتّى أوضّح كم نحن في عزلة فكرية عن التطوّر الذي يسود العالم، و كم هو ساذج ذلك البرنامج الذي أعلنه الرئيس مبارك في حملة انتخاب الرئاسة .. و مصدر السذاجة هو تصوّر أن مستقبل مصر سيقف عند حد نهاية حكم الرئيس مبارك

و أعلم أن كلامي هذا ثقيل الوقع على نفوس كافة النشطين في حياتنا السياسية .. لكنني أصرّ على ترديده، لأنّه الحقيقة التي أرجو ألاّ نبدأ في فهمها بعد تكون الفرص قد تبددت

Wednesday, November 4, 2009

ما قبل الإنفجــار

نهضة مصر – الثلاثاء 3/1/2006 – راجي عنايــت

هل يتنازل النظام
عن نسبة من سلطة اتخاذ القرار؟

بعد أن اضطرّ النظام الحاكم إلى الكشف عن رفضه البات لمشاركة أي فئة من الشعب، من خلال نظام ديموقراطي مزيّف انتهت صلاحيته .. هل يعقل أن يقبل بالتنازل عن نسبة من سلطة اتخاذ القرار لمستويات و فئات من الشعب، رأسيا و أفقيا ؟
"هل يجوي أن أتحدّث عن طبيعة الممارسـة الديموقراطية لعصر المعلومـات، أعني بذلك " ديموقراطية المشاركة" لنظام يرفض التغيير شكلا و مضمونا
ما الذي يرغم هذا النظام الحاكم الذي تكلّست فقراته، على أن يتحرّك، و لا أقول أن يغيّر شيئا ؟ , لقد رسب في وعي الحاكم ـ لطول ما التصق بكرسيه ـ أنّه قدر مصر !! . فما هي الظروف الموضوعية التي تتيح التغيير ؟

مصر و دوامة الضغوط

المعروف علميا أن النظام ـ أي نظام سواء كان دولة، أو مؤسسة، أو جسد بشري، أو مركّب كيميائي ـ يتغيّر وفقا للضغوط الداخلية و الخارجية التي يتأثّر بها . و عندما تتزايد الضغوط الخارجية و الداخلية إلى حد معيّن ينفجر النظام، و ينتهي . و البديل الوحيد للانتهاء و التلاشي، هو وجود رؤية بديلة، تساعد النظام أن يتغير جذريا، و يعيد بناء نفسه بطريقة تسمح له بمواجهة الضغوط القوية : إذا كانت لدى القارئ أية حساسية سياسية، أو كان من كذبة ـ أقصد كتبة ـ الصحف الحكومية، فعليه أن يتصوّر حديثنا هذا يدور حول أحد المركبّات الكيميائية، و ليكن كلوريد الصوديوم، و ليس النظام الحاكم المصري
و مصر، في السنوات الأخيرة، أصبحت نموذجا لتواطؤ الضغوط الخارجية مع الضغوط الداخلية .. و هذا هو ما يهدد الكيان المصري، و المستقبل المصري و ليس النظام المصري فقط . وهذا هو ما يدفعنا إلى ضرورة تبنّي رؤية مستقبلية بديلة لإعادة بناء مصر، و ضرورة أن تتكاتف جميع القوى المخلصة الفاهمة، لإرساء أسس تلك الرؤية المستقبلية، ثم فرض الشكل الأمثل لتحقيقها
الرؤية المستقبلية لمصر، و التي أتحدّث عنها تختلف تماما عن الاستراتيجيات و الخطط التي ترسمها الأجهزة الأمريكية، و التي نقرأ عنها في أدبيات وزارة الدفـاع الأمريكية (راند )، ومجلس الاستخبارات
القومي الذي يضم كافة أجهزة المخابرات، أو موقع مشروع القرن الأمريكي الجديد، أو في مطبوعات المحافظون الجدد،و مجلة الويكلي استاندارد .. لقد درست هذه الجهات الأمريكية أيضا احتمالات التغيير في دول الشرق الأوسط، غير أن الهدف الذي يعلنونه بصراحة، هو المحافظة على مصالحهم ـ و ليس مصالحنا ـ في المنطقة

العزلة تعني الانتحار

و الرؤية المستقبلية لمصر، رغم انطلاقها من الواقع الحالي المتردّي، تنبع من الرؤية المستقبلية للجنس البشري، في توجّهه إلى مجتمع المعلومات .. هذه حتمية ستعم الجميع، بمن في ذلك دعاة العودة 14 قرنا إلى الوراء . الانعزال كان ممكنا في أوج سيادة عصر الصناعة، لكنّه الآن يعني الانتحار
مجتمع المعلومات له محدداته في المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، علينا أن ندرسها و نفهمها، حتّى نحقق القصد في تفكيرنا .. ومن بين أهم أسس الممارسة السياسية في مجتمع المعلومات، التحوّل من ديموقراطية التمثيل النيابي، إلى شكل جديد من الممارسة السياسية، يتوافق مع حياة البشر في مجتمع المعلومات , لكن هذا التحوّل الكبير، شأنه شأن التحولات الكبيرة الأخرى، يجب أن يتم تطبيقها بشكل متجانس، و بتوقيتات سليمة، وفقا لاستراتيجية نابعة من الرؤية المستقبلية التي نتحدّث عنها
بكلمات أخرى، لا يمكن تطبيق ديموقراطية المشاركة، إلا في ظل تعليم و إعلام ينشدان إحياء العقل و التفكير و الابتكار، و احترام اختلاف الفرد عن الآخرين، و يشيعان منطق المشاركة في جميع مراحل و جوانب الحياة . ( و هذا هو عكس ما كان يتطلبه عصر الصناعة من الاعتماد على التلقين و القولبة ) . أيضا في ظل اقتصاد حرّ لا تحتكره الحكومة، و يمضي وفق محددات جديدة تماما، اقتصاد رمزي، يعتمد على نقود رمزية .. اقتصاد قادر على التعامل مع الطبيعة الخاصّة للمعلومات، و على تعلية قيمتها بالنسبة للسلع و الخدمات

تحذير واجب

لا بد هنا من طرح تحذير واجب، فيما يتصل بقدرة كهنة الحكم على استهلاك المصطلحات، و العبث بالكلمات بهدف التضليل و التزوير .. و إليكم مجالات التحرّك نحو ديموقراطية المشاركة
أولا
عشرون عاما مضت و أنا أكتب عن ضرورة إعادة بناء التعليم في مصر، وفق احتياجاتالمعلومات .. كتبت عشرات المقالات و الكتب، و تكلّمت في الإذاعة و التلفزيون، و حاضرت في مجتمعات تضم العديد من رجال التعليم .. و دخلت في حوارات و معارك مع وزراء التعليم المتعاقبين، و كان نصيبي حلو الكلام و المهادنة، كما كان الحال مع د. فتحي سرور و د. جمال الدين، و الحرب المسعورة على يد د. حسين كامل بهاء الدين . و النتيجة : لم يتغيّر شيء، التعليم
الحالي عندنا، في مختلف المراحل، من المرحلة الأولى و حتّى التعليم العالي، لا يوصف فقط بالتخلّف أو الانحطاط، بل هو في واقع الأمر جريمة في حقّ مصر، و حق الأجيال القادمة، التي ستجني ثمار التخلّف و البطالة التي ارتضيناها
ثانيا
الحكم المحلّي، على مختلف المستويات، هو آلية ديموقراطية المشاركة الأساسية، و منذ سنوات طويلة و نحن ندّعي إقامة حكما محليّا، و كل ما فعلناه أن أقمنا وكالات للحكم المركزي، سلمنا أمرها لعشرات من ضباط الشرطة معظمهم كان فاسدا، أو أفسد بحكم طبيعة العمل . و جعلنا الحكم المحلّي من العاصمة و حتّى القرية، مكاتب فرعية لمكتب السيد كمال الشاذلي، يدير بها أي انتخابات لحساب الحاكم
ثالثا
الحكم المحلّي المطلوب في ديموقراطية المشاركة، يكون لحساب إشاعة الحس الديموقراطي، و زرع فكرة حرية الاختيار، على مختلف المستويات .. و هو يعمل لحساب الموقع، و يتخذ القرارات المناسبة في حدود الاختصاص، وفقا للاستراتيجية العامة للدولة، و دون ضغوط من أعلى .. هو حكم لحساب الشعب في القواعد و على مختلف المستويات، و ليس سلطة تعمل لحساب الحاكم في العاصمة
رابعا
فكّ حصار الدولة عن نشاط منظمات المجتمع المدني، هو ضمان التمهيد لديموقراطية المشاركة . غير أن مجموعات العمل المدني التي أعنيها، تختلف عن التي نعرفها حاليا و تقصر نشاطها في مكاتب و صحافة و استديوهات تلفزيون و إذاعة القاهرة . مجموعات العمل المدني المطلوبة تكون في القرى و المراكز و الأحياء، تتدرّب على فهم مصلحة النطاق الذي تتحرّك فيه، و على حمايته من نفوذ كلّ من له نفوذ، و تساعد الجمهور المحدود على اتخاذ القرارات النافعة له
خامسا
إذا كان الكلام السابق يشير إلى التمهيد لعملية الهبوط بنسبة من مسئولية اتخاذ القرار، من قمّة الدولة إلى قواعدها، بشكل رأسي، فهناك أمر آخر يتّصل بتوزيع نسبة من مسئولية اتخاذ القرار أفقيا هذه المرّة . و قد نعود إلى شرح هذا بالتفصيل مستقبلا، لكن مجمل القول أن ديموقراطية التمثيل النيابي، التي ابتكرها الآباء الأوائل لعصر الصناعة، جاءت متأثّرة بمنطق الأشياء في عصر الزراعة السابق له، لهذا لم يكن بإمكانهم إقامة نظام ديموقراطي بعيدا عن التوزيع الجغرافي ( و هو ما نطلق عليه اليوم الوحدات الانتخابية ) . لكن الأمر يتغيّر حاليا
سادسا
ديموقراطية المشاركة، تحتمل التوزيع الأفقي لجانب من عملية اتخاذ القرار، بتعميق الممارسة الديموقراطية في الاتحادات و النقابات و الهيئات العلمية و الجامعات، و تصعيد حصيلة تلك الممارسة، أو صفوتها، إلى المستوى الأعلى للتشكيلات الديموقراطية في الدولة، لتشارك بنسبة معينة الصفوة المصعّدة من التشكيلات الرأسية

* * *

أمامنا احتمالان : أن يفهم النظام الحاكم طبيعة التغيرات المتسارعة التي تحاصره، و يمهّد طوعا للتغييرات الأساسية، التي لابد أن تعني انسحابه في مرحلة معينة .. أو أن يمضي فيما هو فيه، معاندا و متجاهلا جميع الضغوط المتزايدة، باعتبار أن ربنا كريم