Thursday, May 20, 2010

متى تفقد أمريكا سيطرتها ؟

عالم اليوم ـ 2005 ـ راجي عنايت

هل تفقد أمريكا سيطرتها عام 2020 ؟
.. مستقبل المصالح الأمريكية
بين القطار الصيني، و نموذج الحكم الأوروبي

هل تسقط أمريكا، و تتبدد قواها في المستقبل القريب، نتيجة للسياسات الخاطئة و المتناقضة التي وصلت إلى ذروتها في ظل رئاسة جورج دبليو بوش، و سيطرة عصابة المحافظين الجدد ؟ .. قبل أن يضحك أحدكم ساخرا، من حلم اليقظة هذا، أقول أن الإجابة على هذا السؤال تكفّل بها المجلس القومي الأمريكي للاستخبارات، في أحدث تقرير له تحت عنوان : مشروع 2020
صدر هذا التقرير، بعد سلسلة من التقارير الهامة، ضمن " برنامج التحليل الاستراتيجي للمجلس القومي الأمريكي للاستخبارات "، الذي يهتم بالبحث المنهجي للتنمية في الألفية الجديدة . و كان قد صدر بعد العامين الأولين من عمر ذلك المجلس تقرير : التوجّهات العالمية عام 2015 ، و هو مجموعة حوارات حول مستقبل الخبراء غير الحكوميين

خريطة المستقبل العالمي

مشروع 2020، يصدر ضمن الإطار الأوسع لمشروع " وضع خريطة للمستقبل العالمي " . و قد جاء في مقدمة المشروع أن هدف هذه المشروعات هو إمداد صانع السياسة الأمريكية برؤية للطريقة التي يمكن بها أن تتطور التنمية البشرية، معرّفة بالفرص، و التطورات السلبية المحتملة، التي قد تحتاج إلى تحرّك سياسي
لم يتم التفكير في هذه المشروعات في الأقبية السرية لأجهزة المخابرات الأمريكية، و لكن عن طريق استشارة خبراء من جميع أنحاء العالم، خلال سلسلة من المؤتمرات الإقليمية، للوصول إلى منظور عالمي حقيقي . و في مشروع 2020، جرى استخدام التكنولوجيات المعلوماتية و الأدوات التحليلية، التي لم تكن متاحة في المشروعات السابقة . لقد طرح المشروع دراسة لأربعة سيناريوهات تخيلية، تعطي تنوعا من الصور للعالم الذي تخوضه أمريكا في المستقبل . و هذه السيناريوهات هي
أولا ـ عام دافوس : و هو يصوّر كيف يمكن للنمو الاقتصادي العنيف الذي تقوده الصين و الهند، على مدى 15 سنة قادمة، أن يعيد تشكيل عملية العولمة، بإعطائها وجها غير غربي، و محدثة تغييرات في مجال التحركات السياسية أيضا
ثانيا ـ السلام الأمريكي : و هذا السيناريو ينظر في مدى إمكان استمرار سيطرة الولايات المتحدة، في ظل
التغيّرات الجذرية في ساحة السياسة العالمية، و التي تمهّد لنظام عالمي مختلف جديد
ثالثا ـ خلافة جديدة : هذا السيناريو يطرح نموذجا لحركة عالمية، وقودها سياسات الهوية الدينية الأصولية، يمكن أن تشكّل تحديا للقيم و التقاليد الغربية، باعتبارها أساس النظام العالمي
رابعا ـ حلقات الخوف : هذا السيناريو يعطي نموذجا لما يقود إليه تكاثر الاهتمام بمواجهة التدخّل، من التورّط في عمليات و إجراءات أمنية، اقتحامية و غير مقبولة شعبيا، لمنع عمليات هجوم مميتة، ممّا يقود إلى خلق جو شبيه بالجو المخيف الذي رسمه أورويل في روايته الشهيرة

عزل الولايات المتحدة

لفت هذا التقرير ، بعد نشره على موقع " المجلس القومي للاستخبارات الأمريكية "، انتباه الكتاب و المعلقين و الإعلاميين . و قد لفت نظري ما كتبه فريد كابلان في جريدة (سلايت ) تعليقا على هذا المشروع الذي يقول أنّه في هذا العالم الذي لا يبعد عنّا بأكثر من 15 سنة، يقول المشروع .. ستعمل القوى القادمة الجديدة، و التي لن تقتصر على الصين و الهند، بل ربما انضمت إليها البرازيل و أندونيسيا .. ستعمل جميعا على تسريع التآكل في القوّة الأمريكية " . و يضيف المشروع : أن هذا سيتم عن طريق اتباع استراتيجيات مرسومة لاستبعاد أو عزل الولايات المتحدة، من أجل إرغامنا أو إغراءنا بالعمل وفقا لقواعدهم
و يقول كابلان أن السياسة الأمريكية تشجّع ذلك التوجّه، مستندا إلى ما جاء في التقرير من أن" انشغال الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب، يتناقض إلى حدّ بعيد مع مقتضيات الأمن، في معظم آسيا " . و التقرير يقول أنه مع اعترافه بأهمية الحرب على الإرهاب، فهو يعتبر أن السؤال المحوري بالنسبة لمستقبل قوّة أمريكا و نفوذها، هو ما إذا كان في مقدور صنّاع السياسات بها " أن يقدّموا للدول الآسيوية رؤية مقبولة للأمن الإقليمي، و نظاما ينافس ـ و ربما يتفوّق على ـ ذلك الذي تقدمه الصين ؟ " . إذا كانت الإجابة بالنفي، فإن " الولايات المتحدة تكون قد انفصلت عن ما هو في صميم مصلحة الولايات المتحدة " .و يقول كابلان : الحلفاء الآسيويون الحاليون، الأرجح أن يزداد احتمال التحاقهم بالقطار الصيني، ممّا يتيح للصين أن تخلق أمنها الإقليمي الخاص، مستبعدة الولايات المتحدة

الاتحاد الأوروبي كمنافس

و قد يصل الأمر بالنسبة لهذه القوى الجديدة، أن تبحث عن آخرين تحاكيهم، و في هذا قد يكون تطلّعها إلى أوروبا،، و بالتحديد الاتحاد الأوروبي، و ليس الولايات المتحدة، كنموذج للحكم العالمي و الإقليمي .
في هذا يقول تقرير المجلس القومي الأمريكي للاستخبارات " هذا التحوّل إلى العالم متعدد الأقطاب، لن يكون بلا آلام .. و هو سيضرب الطبقات المتوسطة في الدول المتطوّرة بصفة خاصّة "، و هو هنا يتحدّث عن تراجع أكبر في الوظائف و فرص العمل، و تناقص في تدفّق استثمارات رؤوس الأموال .. باختصار يتنبّأ المجلس بأن الوضع لن يقف عند حدّ إعادة تقييم لتوازن القوى العالمية، بل يمضي إلى إحداث خسـارة فـي الثروات و الدخول، و بشكل عام بأمن العالم . يعلّق كوبلان على هذا قائلا " هذه المؤشرات يجب أن تكون قد أصبحت واضحة لكل من يقرأ الصحف، فل يمرّ يوم دون قصّة جديدة، حول الكيفية التي نرهن بها مستقبلنا للبنك المركزي الصيني أو الياباني .." . ذلك لأن العجز في ميزانية الولايات المتحدة يقترب من نصف تريليون دولار، يجري تمويله عن طريق سندات الخزانة، كما أن العجز التجاري ـ و معظمه بسبب شراء السلع الصينية ـ يتجاوز الآن 3 تريليون دولار
و يطرح فريد كابلان مجموعة من المؤشرات الأمريكية السلبية، التي تنذر بالخطر
أولا :الصين تقتحم أيضا سوق التجارة في أمريكا اللاتينية، و أيضا سوق التعليم و الثقافة و السياحة
ثانيا : طلبة الهندسة الآسيويون الذين كانوا يتجهون إلى أمريكا للدراسة، استبدلوها بالصين
ثالثا : انخفضت قيمة الدولار بمقدار الثلث في السنتين الأخيرتين، و مع انخفاض سعر فائدة الدولار، بدأ المستثمرون في سوق العملة ـ بما في ذلك الذين كانوا يمولون العجز الأمريكي ـ في تنويع ممتلكاتهم
رابعا : بدأت البنوك المركزية في الصين و اليابان و روسيا و الشرق الأوسط، التخفف من الدولار، لحساب اليورو، مما يجعل وضع الدولار خطرا

أين نموذج الديموقراطية ؟

يتساءل كابلان : ما الذي فعلته إدارة بوش، لتغيير هذا المسار، أو على الأقل لاتّقاء اللطمة ؟ .. فبينما يزعم بوش في خطاب الولاية الثانية أنّ أمريكا تقدّم الحرّية للشعوب المقهورة في كل مكان، يفيد تقرير مجلس الاستخبارات القومي، بالنسبة لآسيا و دعاوى بوش للأخذ بالديموقراطية، أن القادة الحاليين و المستقبليين، يبدون اهتماما أكبر بتطوير ما هو محسوس بين أيديهم، باعتباره أكثر نماذج الحكم فعالية
إلى أن يقول الكاتب كابلان : إذا كان الرئيس يريد حقيقة أن ينشر الحرية و الديموقراطية في أنحاء كوكبنا فسيحتاج ـ بالإضافة إلى أشياء أخرى ـ أن يقدّم أمريكا باعتبارها نموذج الديموقراطية .. غير أن تقرير المخابرات الأمريكية يقول أن الذين ينظرون إلى أمريكا كنموذج لأي شيء يصبحون أقل فأقل .. لا يمكننا أن نسوّق الحرية، إذا لم نكن قادرين على تسويق أنفسنا

مصانع تفريخ الإرهاب

و في جريدة واشنطون بوست، كتبت دانا بريست عن مشروع 2020 قائلة " لقد حلّت العراق محل أفغانستان، كأرض تدريب للجيل التالي من الإرهابيين ( المتخصّصين ) " . و تقول اســتنادا على التقرير، أنّه عنـدما نصل إلى سنة 2020 ستخلف القاعدة جماعات أخرى من المتطرّفين المسلمين، و هي التي ستندمج مع الحركات الانفصالية المحلية.. الذي يجمع خبراء الإرهاب أنه يحدث فعلا، و يقول التقرير أن هذا النوع من الجماعات اللامركزية، دائمة التوالد و التشكّل، يكون كشفه و التغلّب عليه أكثر صعوبة
هذه هي الصورة الواقعية للولايات المتحدة حاليا .. انفصام رئيسي في النمو التكنولوجي و الاجتماعي، و مخاطر لا نهابة لها، بشهادة أكبر مجلس استخبارات أمريكي .. و قيادة مغيّبة، تمضي وفق مخطط عصابة المحافظين الجدد، الذي يعتبر هدفه الرئيسي مضاعفة أرباح كبار تجار السلاح و البترول و المقاولات .. و الدواء أيضا

Wednesday, May 12, 2010

الدولة و الحكومة في مجتمع المعلومات

عالم اليوم ـ 24مايو1997 ـ راجي عنايت

من الإعتماد على المؤسّسات
إلى الإعتماد على الذات

المنتهلك = المنتج المستهلك لإنتاجه

الإعتماد على المؤسّسات، أو الدولة، في جوهرها ظاهرة من ظواهر عصر الصناعة . قبل هذا، وخلال عصر الزراعة الطويل، كان إعتماد الفرد على الدولة ضعيفاً للغاية . كان الإنسان يفعل كلّ شيئ لنفسه و بنفسه . كانت الأسرة الزراعيّة دولة صغيرة، و وحدة إنتاجيّة إستهلاكيّة صغيرة قائمة بذاتها . كانت تنتج الطعام و تجهّزه و تأكله .. و تغزل صوف الماشية لتصنع منه ما تحتاجه من نسيج .. و تجهّز الخامات التي تبني منها البيت الذي تسكنه . يتعلّم فيها صغارها على أيدي الكبار، و تتكفل عجائز النساء بتطبيب الذي يمرض، و يوفر لها رجالها الأمن بعصيّهم أو أسلحتهم . و كانت الأسرة الزراعية تعتمد على المقايضة في الأسواق الريفية للحصول على ما لا تستطيع صنعه
مع بدايات المجتمع الصناعي تغيّرت الأوضاع .. تفكّكت الأسرة الكبيرة، و تحوّلت إلى مجموعة من الأسر الصغيرة، التي تتكوّن من الوالدين و إبنين أو ثلاثة، لكي تخدم إحتياجات العمل الصناعي، حيثما وجدت . سحب المجتمع الصناعي من الأسرة معظم ما كانت تقوم به من أعمال : فأوكل التعليم إلى المدرسة، و العلاج إلى المستشفى، و الأمن للجيش و الشرطة، و فضّ الخلافات إلى المحاكم . أصبح الإنسان ينتج ما لا يعرف من يستهلكه، و يستهلك ما لا يعرف من أنتجه . باختصار، إعتمد الأفراد على الدولة و على مؤسّساتها الكبرى في جميع ما يحتاجونه . و في المقابل، قامت الدولة بتنظيم البيروقراطيات التي تتكفّل بهذا

عجز الحكومة البيروقراطيّة

و منذ ما بعد منتصف القرن الماضي، تزايد إحساس الأفراد بأن الحكومة و مؤسّساتها، لم تعد تفي بمسئولياتها بالطريقة الكافية . و كان إحساس الأفراد صادقاً، فالحكومات الكبرى، و خاصّة في الدول التي كان غزو ثورة المعلومات لها سابفاً على غيرها، بدت كالآلة الخربة، تدقّ و تطرقع دون أن يظهر لها نتاج، و تبدو مترنّحة متخبّطة وسط شباك بيروقراطيّتها . في بداية الأمر، لم تدرك الحكومات سبب ما يحدث، وكافحت لسد الثغرات كلّما ظهرت في هيكلها، فلا تصل إلاّ إلى المزيد من المشاكل . و مع الوقت، بدأت الدول المتطوّرة تدرك أبعاد التغيّر الحادث، و عجز أجهزتها البيروقراطية عن مواصلة ما كانت تقوم به من قبل بنجاح
هذا عن الحكومة، فماذا عن الناس و الأفراد ؟
سأل الأفراد أنفسهم :من الذي نضع فيه ثقتنا إذاً ؟، و جاءت الإجابة على الفور : نضعها في أنفسنا .. علينا كأفراد أن نساعد بعضنا البعض في حل المشاكل التي تصادفنا، دون إنتظار أو تدخّل من الحكومة و مؤسّساتها الكبرى

جماعات الخدمة الذاتيّة

مظاهر خدمة الذات عديدة، و في مختلف المجالات، و من بينها جماعات الخدمة الذاتيّة
في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ينتمي 15 مليون مواطن إلى 500 ألف جماعة للخدمة الذاتيّة، و رغم أن أرقامي هذه ترجع إلى ما يقرب من 50سنة، إلاّ أن بإمكاننا أن نتصور ما بلغته هذه الأرقام حاليّاً مع تنامي الظاهرة
الذين تواجههم مشكلة بعينها، أو يعانون من وضع معيّن، تجمّعوا تلقائيّا، و قرّروا أن يتعاونوا على حلّ هذه المشكلة، بالنسبة لكلّ منهم، مستفيدين من تبادل الخبرات في مجالها . هناك جمعيّات خدمة ذاتيّة لكل غرض يمكن أن تتصوّره، لحل مشاكل : الإحالة إلى المعاش، الترمّل، المعاناة من السمنة، إدمان الخمر أو المخدّرات، الإعاقة الجسديّة و العقليّة، الطلاق، إساءة معاملة الصغار..إلى آخر ذلك
بل أن خدمة الذات إمتدّت إلى الأمن، الذي يفترض أن الحكومة تتكفّل به كاملا . فبعد تضاعف عدد الجرائم في الولايات المتّحدة، في بداية الثمانينيّات، بدأ الناس يعتمدون على أنفسهم في الحماية من الجرائم، فتمّ تشكيل "جماعات حراسة الجيرة" في أنحاء البلاد . و تم في كلّ حيّ تنظيم دوريّات تمسح الحيّ بحثاً عن أيّ تحرك إجرامي . و في نفس الوقت، تصاعد عدد العاملين في قوّات الأمن الخاصّة، بشكل ملفت . لقد أصبحت وظيفة الشرطي الخاصّ تمثّل أكثر الوظائف تزايداً قي البلاد . بل أن بعض الذين يدرسون هذه الظاهرة، يقولون أن حجم الشرطة الخاصّة في أمريكا يبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف حجم الشرطة الحكومية

إصنعها بنفسك

و من مظاهر التحوّل إلى خدمة الذات، التنامي الدائم المنظّم لحركة " إصنعها بنفسك "، في جميع أنحاء العالم . و لعل أشهر مثال لها، محال السوبر ماركت التي يختفي فيها البائع، فيستعرض المشتري ما هو موجود، ليختار منه ما يحتاجه . الفكرة الأساسيّة في هذا، هي توفير أجور الباعة، في مقابل خفض ولو بسيط في سعر السلعة . و لو أنّني لا أرى هذا عندنا، فأسعار السوبرماركت تكون في أحيان كثيرة أعلى من سعر البقّال، أي ان المسألة عندنا تحوّلت إلى تقليعة
من ناحية أخرى، نرى شيوعاً لحركة "إصنعها بنفسك"، في مجالات النجارة و السباكة و الطلاء، وإصلاح السيّارة، بل و بناء البيت نفسه

المنتهلك : المنتج المستهلك

و من بين الإصطلاحات العديدة التي نحتها المفكّر المستفبلي آلفين توفلر، إصطلاح " المنتهلك "، أي الشخص الذي ينتج من أجل إستهلاكه الشخصي، كما كان الحال في المجتمع الزراعي، و كما هو الآن في جماعات خدمة الذات و حركة إصنعها بنفسك . و هو يقول أن إقتصاد الصناعة قد أهمل قطاع الإنتاج من أجل الإستهلاك الشخصي، رغم وجوده حتّى في أوج عصر الصناعة
على سبيل المثال، يقول أن الأعمال التي تقوم بها ربّة البيت، هي من قبيل الإنتاج من أجل الإستهلاك الشخصي . و هذه الأعمال تترجم إلى نقود، إذا ما كانت الزوجة عاملة، و مضطّرة إلى إستئجار من يقوم بالأعمال المنزلية . لكن حسابات الإقتصاد الصناعي لا يرد فيها شيئاً عن ذلك . و توصف ربة البيت بأنّها إمراة غير عاملة
و هو يقول أن حركة"إصنعها بنفسك" المتنامية، تفرض على خبراء الإقتصاد الإعتراف بقطاع الإنتاج من أجل الإستهلاك الشخصي . و يورد مثالا بسيطاً لتوضيح حجم هذه الحركة، في مجال مبيعات الأدوات الكهربائيّة، فيقول أن محترفي الأعمال الكهربائيّة كانوا منذ عشر سنوات يشترون70في المائة من هذه الأدوات، بينما يشتري الأفراد العاديّون 30 في المائة منها . أمّا الآن، فقد إنقلبت الآية، فأصبح هواة النشاط الذاتي يشترون 70 في المائة منها . و هو يشير إلى أن إرتفاع أجور الحرفيّين المتواصل وراء هذه النوعيّة من نشاط الإعتماد على الذات

المؤشّرات الكبرى

و في كتابه "المؤشّرات الكبرى"، يورد الكاتب المستقبلي جون ناسبيت عشرة إتّجاهات جديدة تحدث تحوّلا في حياتنا . و من بين هذه الإتّجاهات، يورد إتّجاه : من مساعدة المؤسّسة، إلى مساعدة الذات
و هو يطرح تطبيقات هذا التحوّل في عدّة مجالات، في الطب و التعليم و الإقتصاد و النشاط الإجتماعي و الطعام و الأمن والإستهلاك عامّة
في مجال الطب و العلاج، يشير إلى تنامي نشاط رعاية الذات، و ما يرتبط به هذا من سعي الإنسان إلى تغيير عاداته الشخصيّة لتوفير الصحّة، ممّا يعتبره أساسيّا في حركة التحوّل إلى الإعتماد على الذات . من بين هذا، ما يحدث في الولايات المتّحدة و الكثير من دول أوروبا، مثل الإقبال على التمرينات الرياضيّة المنتظّمة، و الإقلال من الدهون، و الإنخفاض الواضح في عدد المدخّنين، و التحوّل من شرب الكحوليّات القويّة إلى الخفيفة، و الإنتشار الواسع لمحال الطعام الصحّي
و هو يشير إلى التصاعد الشديد في إستخدام أجهزة القياس الطبّي المنزلية، و من ثم الإهتمام بإنتاجها . مثال ذلك أجهزة قياس الضغط، و السكّر، و الكشف عمّا إذا كانت المرأة حامل أم لا . بل و يقول أن جمعيّة السرطان الأمريكيّة، ترسل بالبريد مقابل مبلغ زهيد، جهازا للكشف عن السرطان، لمن يطلبه
و في مجال التعليم، يقول ناسبيت أن إنخفاض مستوى الخدمات التعليميّة في أمريكا، قاد إلى تحويل التعليم بنسبة ملموسة من المدرسة إلى البيت، إعتمادا على الكمبيوتر و غيره من الوسائل التعليميّة المتطوّرة، إمّا كنشاط إضافي للمنهج الدراسي، أو كتمرد على لقوانين التعليم الإجبارية . و في السبعينيّات، كتب خبير التعليم جون هولت: كنت أقول أصلحوا التعليم .. ثم أصبحت أقول للناس أقيموا مدارسكم الخاصّة .. والآن أقول خذوا أولادكم بعيدا عن المدرسة

* * *

الأمثلة كثيرة، و كلّها تؤكّد أن التغيّرات التي تحدث في حياة البشر، نتيجة للدخول في عصر المعلومات، تقود إلى تنامي الإنتقال من الإعتماد على الدولة و مؤسّساتها، إلى الإعتماد على الذات .. هل يؤثّر هذا على الدولة ؟ ، نعم و بشدّة، و هو مع غيره يطرح فهماً جديداً للدولة و الحكومة وعمليات إتّخاذ القرار

Thursday, May 6, 2010

الإدارة في مجتمع المعلومات

عالم اليوم ـ عام 2005 ـ راجي عنايت

المؤسسة الاقتصادية في مجتمع المعلومات
: أهم عنصرين في المؤسسة الاقتصادية الجديدة هما
العمّال، و المستهلكون

نتيجة للأثر الكبير الذي تحدثه التغيّرات المجتمعية، المصاحبة لعصر المعلومات، في المجال التنظيمي للمؤسسة الاقتصادية، يمكننا أن نحصره في أربعة عناصر أساسية : توافق المؤسسة مع بيئتها الخارجية، و تبنّي هياكل تنظيمية جديدة، و إعادة النظر في العقائد التي حكمت المؤسسة في عصر الصناعة، ثم الاعتماد على التخطيط الاستراتيجي
أولا : توافق المؤسسة مع بيئتها الخارجية
بناء أي شركة أو مؤسسة يجب أن يكون مناسبا لبيئتها الخارجية، و ليس لبعد واحد من أبعاد هذه البيئة . العديد من رجال الأعمال و الاقتصاديين و المخططين يعتمدون في تعريفهم بيئة المؤسسة على الاصطلاحات الاقتصادية الضيقة .. بينما الأمر يجب أن يكون على غير ذلك . لا بد عند تعريف بيئة المؤسسة أن ندخل في الاعتبار تنوّعا واسعا من العوامل السياسية و الاجتماعية و الثقافية، و غير ذلك من العوامل التي اعتدنا تجاهلها . الذي يتصدّى لوضع استراتيجية المؤسّسة، عليه أن يرصد أفقا واسعا
ثانيا : تبنّي هياكل تنظيمية جديدة
لقد تغيّرت بيئة المؤسّسة بسرعة، و بشكل جذري، خلال العقود الماضية، بحيث أصبحت التصميمات و الهياكل التي تستهدف النجاح في البيئة الصناعية، تكاد أن تكون غير صالحة بالمرّة هذه الأيام . و لهذا، فعلى قادة العمل، أو أولئك الذين يضعون استراتيجيات المؤسّسة، أن يكتشفوا التصميمات و الهياكل التي مضى زمنها، و أن يسارعوا إلى تغييرها، قبل أن تقود إلى هدم المؤسّسة
ثالثا : عقائد أساسية جديدة
التغيّرات السابقة التي تحدّثنا عنها، تعني أن العديد من العقائد الأساسية حول المؤسّسة ـ تلك التي كانت قابلة للتطبيق و النجاح في الماضي ـ يجب أن يعاد امتحانها . باعتبار أن العقائد إذا فقدت صلاحيتها، قادت إلى توجيه السياسات التي تلتزم بها المؤسّسة إلى الطريق الخطأ
علينا أن نناقش اليوم انطباعاتنا الأساسية حول العديد من الأشياء : التوحيد القياسي، و النمطية، و اقتصاديات الضخامة، و التكامل الرأسي، و نوع حوافز العاملين، و مدى كفاءة الإنتاج و التوزيع على نطاق واسع، و حقيقة ما يفضّله الزبائن و يطلبونه أكثر من غيره، ثم طبيعة التسلسل الرئاسي لهرم السلطة الذي تبني عليه المؤسّسة نظمها
رابعا : نماذج تخطيط متعدّدة الأبعاد
لم يعد ممكنا أن نعتمد على المؤشّرات المعزولة، سواء كانت صغيرة أم كبيرة . ففي زمن التغيير السريع، يكون الاعتماد على التخطيط الاستراتيجي، القائم على استكشاف المؤشّرات الخطّية الأحادية خادعا بطبيعته . هذا بالإضافة إلى أن هذا القصور الذي يتّسم به الاعتماد على المؤشّرات الخطّية الأحادية المعزولة، يتضاعف إذا ما كانت المؤشّرات محصورة في نطاق العوامل الاقتصادية أو السكانية
الذي نحتاجه اليوم عند التصدّي للتخطيط، يتجاوز الاقتصار على مؤشّرات معزولة عن بعضها البعض، إلى الاعتماد على نماذج متعدّدة الأبعاد، يدخل في اعتبارها التأثيرات المتبادلة للقوى التكنولوجية و الاجتماعية و السياسية، و حتّى الثقافية، جنبا إلى جنب مع الاقتصاد

نماذج التنظيمات الإدارية

عندما نتكلّم عن مستقبل التنظيمات الإدارية، لا يجب أن نتصور حديثنا ينصبّ على شيء سيحدث في المستقبل .. فحقيقة الأمر أن عالم اليوم حافل بالتجارب التي تتم ـ شرقا و غربا ـ للبحث عن الهياكل الإدارية التي تتحقّق فيها الاشتراطات التي أوردناها، أكثر من غيرها، و التي تتمتّع بخاصية الاستجابة للتغيّرات، التي يفرضها عصر المعلومات . و من بين هذا الكثير
فريق العمل الصغير
أكثر بدائل النظام الإدارة المركزي البيروقراطي انتشارا هو نموذج فريق العمل الصغير، المرن، سريع الحركة، المتضمّن لجميع الكفاءات الضرورية المطلوبة . يشيع هذا النموذج في صناعات عصر الصناعة التقليدية، و في صناعات عصر المعلومات الجديدة، في نفس الوقت . تراه شائعا في مصانع السيارات بديترويت، و أيضا في شركات الإلكترونيات بوادي السليكون
لقد اكتشف خبراء الإدارة، أن الناس يحبّون العمل في الفريق الصغير المتكامل، و الذي يضمّ الخبرات الهندسية و الصناعية، و خبرات التسويق .. على رأسه مدير، أو قائد عمل، يتّصل مباشرة بالقيادة العامة للمؤسّسة، دون المرور على أي إدارات وسيطة
التنظيم البيولوجي
هذا التنظيم الإداري ابتكرته شركة منيسوتا للتعدين و الصناعة " ثري إم "، لمواجهة بيروقراطية الهيكل الإداري التقليدي . و هو يعتمد في جوهره على فريق العمل الصغير، و لكن كلّما راج منتج من منتجات إحدى فرق العمل الصغيرة هذه، انسلخ عن ذلك الفريق، فريق جديد يتخصّص في ذلك المنتج، على أن يواصل الفريق الأصلي مهماته الأصلية . و هذا يعني أن الفرق الصغيرة تتوالد بيولوجيا
نموذج الزمالة
في كثير من المؤسّسات، يترك الخبراء الحرفيون المتفوّقون مواقعهم، بهدف ترقيتهم إلى وظائف إدارية أعلى، تتضمّن المزيد من السلطة و النفوذ و المال و المزايا، بعيدا عن المجالات التي تفوّقوا فيها . و هذا، يحرم الخبير من عمل يحبّه، و يوجب على المؤسّسة أن تبحث لها عن بديل له، و يضاعف من وظائف الإدارة العليا التي لا تتصل مباشرة بالإنتاج
منذ أكثر من خمسين سنة، قامت شركة " آي بي إم "، باعتماد نظام الزمالة، الذي يتيح للمهندس ـ على سبيل المثال ـ أن يظلّ مهندسا، و مع ذلك يطّرد ارتفاع مرتبه، و تزيد سلطته في الشركة، و تتضاعف امتيازاته، دون انتزاعه من مجال تفوّقه، و تحميل الشركة أعباء إدارية لا تكون في مصلحتها
التنظيم الشبكي
و هذا النموذج يعتمد أيضا على فريق العمل الصغير، و يتزايد الأخذ به حاليا، بعد أن ظهرت إيجابياته، خاصّة بعد أن طبقته شركة جور و شركاه لصناعة النسيج
الموظّف في الشركة يطلق عليه اسم " الشريك "، و التعامل بين أي شريك وآخر يتم بشكل مباشر، و من خلال شبكة اتصالات أفقية و رأسية . أمّا القيادة، فتنبع بين " الشركاء " بشكل طبيعي، من خلال الصفات التي تتجسّد أثناء العمل . و كلّ شريك يختار المهمة التي يتصدّى لإنجازها، عملا بشعار " الأهداف يضعها أولئك الذين يكون عليهم تحقيقها " . أمّا مرتّب الشريك، فينمو وفقا لمدى إنجازه لأهدافه

مستقبل الإدارة

من واقع المؤشرات العامة للتحوّل إلى مجتمع المعلومات، يمكننا أن نستنبط أهم معالم مستقبل الإدارة
أولا: على كل مؤسسة أن تعيد اكتشاف نفسها، و وظيفتها و كيانها، و الوصول إلى رؤية مستقبلية خاصة بها
ثانيا : التحوّل من إنتاج السلع المادية إلى صناعة المعلومات و الخدمات، يشيع العمالة العقلية المبتكرة. و أهم عنصرين في المؤسسة الجديدة هما البشر : العاملون فيها، و المستهلكين لإنتاجها
ثالثا : صرف النظر عن التنظيم الهرمي البيروقراطي، و الانتقال إلى المجموعات الشبكية القاعدية المتكاملة، مع تقليص الإدارة الوسيطة بالاعتماد على الكمبيوتر . و هذا يتضمن انقضاء النمطية في ساعات العمل، و تنوّع ساعات و أماكن العمل بالنسبة للعاملين في المؤسّسة
رابعا : ضخامة المؤسّسة التي كانت السبيل إلى الكفاءة العالية، أصبحت الآن عائقا كبيرا، يدفعنا إلى المزيد من الاعتماد على فريق العمل الصغير
خامسا : نتيجة لتسارع المعلومات و المعارف، تغيّرت طبيعة العملية التعليمية، و أصبحت حياة الفرد فترات متعاقبة من التعليم و العمل و التدريب و إعادة التدريب . و هذا يضع على عاتق المؤسّسة الاقتصادية دورا أساسيا في عمليات التعليم و التدريب، ممّا يجعل المؤسّسة الاقتصادية، في المستقبل، تتضمّن من وسائل التعليم و التدريب، كما لو كانت لها جامعتها الخاصّة