Saturday, October 31, 2009

اللامركزية هي سبيل مشاركة الشعب

نهضة مصر – الثلاثاء 20/12/2005 – راجي عنايــت

الحل هو : اللامـركزيـة
و ليس أحزابكم أو تياركم الإسلامي

التوليفة الحزبية التي تصورها السادات، و التي قامت على حزب النظام، و مجموعة من ديكورات الأحزاب التي حرص على جعلها عاجزة عن مناطحة حزب القائد .. هذه التوليفة بأحزابها التي تفتقد جميعا أي رؤية مستقبلية لمصر.. ثبت فشلها، و تأكّدت عزلتها عن جماهير شعب مصر
و بصرف النظر عن أسباب هذا الفشل العام .. هل هو رغبة النظام في مواصلة السيطرة، بأي ثمن، حفاظا على مكاسب و مواقع كهنته و أذيالهم، أم هو ضعف و عجز الأحزاب الأخرى، فالثابت أننا جميعا: النظام، و توابعه الحزبية، و المعارضة الحقيقية، و الشعب، في مأزق كبير .. أهم دلالاته، أن الجماعات ذات المرجعية الدينية التاريخية، الأكثر عزلة عن واقع التطور البشري، و القائمة على النقل و إلغاء غلبة العقل، قد تحرّكت لتملأ الفراغ الرهيب الذي خلقته هذه الأوضاع .. و هي في هذا تستند إلى حقيقة لا بد أن نعترف بها، مهما كانت قسوتها، و هي حالة الأنيميا الشديدة في الوعي و الخبرة السياسية الشعبية، لدى جانب كبير ممّا نطلق عليه ـ أحيانا ـ الأغلبية الصامتة من الشعب المصري

عندما راحت السكرة

عندما أسدل الستار على آخر معارك الانتخابات البرلمانية .. راحت السكرة، و جاءت الفكرة .. ملأت صفحات الجرائد ـ غير الحكومية في الأغلب ـ مقالات و آراء و استفتاءات تدور كلّها حول سؤال واحد هو : و ماذا بعد ؟ . حرصت على متابعة معظم ما كتب .. و مع كل النيات الطيبة، أحسست أننا لم نتعلّم الدرس، و عدنا إلى ترديد نفس ما كنّا نقوله من قبل، رغم أنه لم يصل بنا إلى شيء
تراوحت المعاني التي طرحها الكتاب و الساسة و المفكرون بين عدة أشياء ( و لن أذكر الأسماء فليس الغرض هو الانتقاد، بل تأمّل الأوضاع )
اولا : حالة اليأس الكامل، و التهديد بالكوارث و النوازل .
ثانيا : دعوة أحزاب المعارضة إلى مراجعة نفسها .
ثالثا : أو الدعوة إلى حزب أو أحزاب جديدة .
من البديهي أنني أرفض سبيل اليأس، و إلاّ كنت يئست من عشرين سنة على الأقل ! . كما أن دعوة أحزاب المعارضة الحالية لتجديد نفسها و تنقية برامجها، إلى آخر ذلك الكلام، هو نوع من التفاؤل الكاذب، فهذه الأحزاب شأنها شأن الحزب الوطني الديموقراطي قد فقدت مبررات وجودها . و أعتقد أن دعوة تجديد الذات ليست موجّهة إلى الإخوان المسلمين، فهم قد نجحوا حيث فشل الآخرون، و ليس ببعيد أن يطالبوا هم الأحزاب بأن تعيد التفكير في مرجعياتها . يبقى لدينا بعد ذلك، الدعوة إلى تشكيل حزب جديد

!حزب لم يولد بعد
طرح فكرة الحزب الجديد اكثر من كاتب، لكن الوحيد الذي تكلّم بشيء من التفصيل، كان الأستاذ مجدي الجلاد، رئيس تحرير (المصري اليوم)، فقد كتب في العاشر من هذا الشهر، تحت عنوان الحزب الذي لم يولد، و سأستخلص من كلامه تصوّره لذلك الحزب
أولا : يجمع المستقلّين الذين رفضوا الأحزاب القائمة، فكانوا الأكثر فوزا بالمقاعد
ثانيا : يستوعب الغضب تجاه الحكومة، و يمتصّ (!) الرفض الشعبي للحزب الحاكم
ثالثا : يمتلك رؤيـة وطنية للإصلاح، و برنامجا سـياسيا واعيا . و زعـامات تختلف عن ( سحن) زعماء المعارضة الحاليين
رابعا : يأخذ من "الوطني" ثراءه و إمكاناته، و من "الوفد" ليبراليته و عراقته (؟)، و من "اليسار" ثقافته و حكمته، و من "الإخوان" تنظيمهم و جماعيتهم
مع غرابة هذا المونتاج السياسي، و بصرف النظر عن استحالة تحقيق هذا المخلوق الخرافي، قريب الشبه بمخلوقات الأساطير اليونانية، فجميع المواصفات التي طرحها الأستاذ مجدي، تدخل في باب الأماني و الأحلام .. تماما كالأماني و الأحلام التي أراد الرئيس حسني مبارك أن يزغللنا بها في برنامجه السياسي الطريف . و حتّى لا أظلم الأستاذ الجلاد، أقول أنه في هذا فعل ما فعله جميع الذين طالبوا بحزب جديد، فتكلّموا عن آمال و أحلام، لا تعتمد على أي رؤية مستقبلية حقيقية لمصر
الكلام المفيد

نحن أمام نقيصتان أساسيتان نحتاج إلى دراستهما لكي نستطيع إرساء حياة ديموقراطية نافعة للشعب المصري جميعه، تعبر بنا في أمان إلى عصر المعلومات الذي نزداد غربة عنه يوما بعد يوم، و هما
الأولى : أن الحزب الوطني و باقي أحزاب المعارضة، و الحركات الإيجابية التي تفجّرت وسط حالة الفوران الشعبي، مثل "كفاية" و باقي الحركات التي تستهدف التغيير، و الحزب الجديد الذي يحلم به البعض، كلّها مقطوعة الصلة بأيّ رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تقوم على
ـ رصد أمين لخريطتنا الحضارية الحالية، إلى أي مدى تحكمنا العقلية الزراعية، و إلى أي مدى تسيطر علينا العقلية الصناعية، و إلى أي حد استطعنا أن نقتحم مجتمع المعلومات
ـ الفهم الواضح لطبيعة التحوّل الحالي الذي يمر به البشر جميعا في أنحاء العالم، من حياة الصناعة إلى حياة المعلومات، و طبيعة الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي يقودنا إليها ذلك التحوّل
الثانية : أن الضوضاء السياسية و الصخب الانتخابي، و عمليات تقسيم الغنائم و المكاسب، من خلال انعدام الشفافية و غلبة الجشع و الفساد بين المسئولين .. كل هذا يدور في الواقع بين 20% على الأكثر من أبناء مصر، بينما الجسم الأعظم من شعب مصر، في عزلة كاملة عن هذا الذي يجري
التخلّف إشكالية كبرى

معظم أبناء الشعب المصري، ليست لهم أيّة علاقة بما يجري، سوى رشاش من رشاوى المرشحين، أو وقف حال و أضرار من جراء نشاط الأمن المصري العتيد
و الشعب المصري لا يعي شيئا ممّا يجري، و قد أرغمته النظم الحاكمة المتعاقبة، قبل الثورة و بعدها، على أن يبقى دون الحد الأدنى من النضج السياسي المطلوب .. هذه حقيقة يجب أن نعترف بها، تمهيدا لمواجهتها . و أذكر أن ضجّة ثارت عندما أشار رئيس الوزراء إلى هذه الحقيقة، و اتّهمته بعض الأقلام بالاستعلاء . و رغم تباين الدوافع بيني و بين الدكتور نظيف، لكن الحقيقة تكمن في وجود هذا العجز، الذي يمنع منعا باتا قيام أي نظام ديموقراطي حقيقي صادق فما هو الحل في مواجهة هذه الإشكالية الكبرى ؟ .. لو أننا استبدلنا شياطين العمل السياسي، من المزوّرين و الكاذبين و النهابين و الانتهازيين، و استطعنا تدبير انتداب مؤقّت لمجموعة من الملائكة الأبرار الأطهار ( طبعا عن غير طريق الإخوان المسلمين)، و أجرينا انتخابات على أساس الممارسة السياسية التي نأخذ بها، أعني ديموقراطية التمثيل النيابي، التي تعتمد على توكيل الجماهير لعناصر من النخبة، تنوب عنها في اتخاذ القرارات التي هي في صالح الجماهير ( .. لو أمكن تحقق هذه المعجزة، فستظل النسبة الأعظم من شعب مصر مستبعدة من عملية اتخاذ القرار ...
ما العمل إذا ؟ .. لا تضيقوا بي إذا قلت أن المطلوب ليس هو العمل، بل الفهم الواضح، قبل أي عمل أو إجراء

المشاركة = اللامركزية

لو فهمنا المعارف الأساسية عن عملية التحوّل التي يمر بها الجنس البشري، لأدركنا الحقائق التالية، التي يمكن أن ترشدنا على طريقة مواجهة هذه الإشكالية
أولا
ديموقراطية التمثيل النيابي، نبعت من احتياجات و طبيعة و مبادئ مجتمع الصناعة
ثانيا
هذه الديموقراطية تقوم على مبدأ المركزية الممعنة الذي ساد الحياة الصناعية
ثالثا
رغم أن هذا النوع من الممارسة السياسية كان ـ في وقته ـ خطوة ديموقراطية كبيرة، إلا أنه منذ البداية، لم يحقق الآمال المعقودة عليه . مع تضخّم عيوبه بانقضاء مبادئ عصر الصناعة، و بزوغ مبادئ جديدة، نابعة من طبيعة عصر المعلومات
رابعا
كانت المركزية من أهم مبادئ عصر الصناعة، غير أن ثورة المعلومات بددت أهمية هذا المبدأ، و أصبح الأرجح أن نعتمد على اللامركزية في تصميم نشاطاتنا
خامسا
اللامركزية أصبح لها تطبيقات مختلفة في مؤسسات عصر المعلومات، و كانت ترجمتها في مجال الممارسة السياسية هي " ديموقراطية المشاركة "، التي يشارك فيها المواطنون بأنفسهم في اتخاذ القرارات في كل ما يمس حياتهم مباشرة، و دون إنابة أو توكيل أحد
سادسا
هذا التحوّل في طبيعة الممارسة السياسية جاء نتيجة للتحوّل الذي طرأ على الفرد بوصوله إلى التكنولوجيات المعلوماتية المتطورة، الأمر الذي جعله عارفا بكثير من الأمور، بما يسمح له أن يساهم في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياته : و من هنا وجب أن نفهم الثورة المطلوبة في مجال التعليم حتّى يتحقق هذا عندنا .. أن نعرف التحدّي الحقيقي الذي يواجهنا : ليس فقط محو الأمية التقليدية، و لكن أيضا محو الأمية الإلكترونية
سابعا
ديموقراطية المشاركة، بطبيعتها، تقوم على تبنّي منطق مجتمع المعلومات في مجال الإدارة . و هي تقتضي إعادة ترتيب التسلسل الجماهيري الرأسي من القرية و القسم، و حتّى القمّة ( و هذا يحتاج منّا إلى فهم جديد للإدارة المحلية و الحكم المحلّي لحساب الشعب، و ليس لحساب أمن النظام الحاكم
* * *

أعرف أن هذا الكلام يختلف كثيرا عمّا يتردد في وسائل إعلامنا، و قاعات محاضراتنا، و جامعاتنا، لكنه الكلام العملي المطلوب لمواجهة الإشكالية الأهم في حياتنا.. إشكالية إشراك الشعب في تحديد مصيره

Thursday, October 29, 2009

مستقبل مصر

نهضة مصر – الثلاثاء 29/11/2005 – راجي عنايــت

أين الخطر الأكبر
على مستقبل مصر ؟

أطرح هذا السؤال بمناسبة التحذير الذي تكرر في وسائل الإعلام من مخاطر الصعود غير المتوقّع لجماعة الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية الحالية .. و أدعو إلى أن نفيق من دوامة الانحطاط غير الديموقراطي الذي فرضته علينا انتخابات الرئاسة و البرلمان، و أن نفكّر بشكل جاد، لنعرف من الذي يشكّل ـ بحق ـ الخطر الأكبر على مستقبل مصر:الإخوان المسلمون، أم الحزب الوطني، أم الأحزاب الوهمية الأخرى، و التي لا يعلق بالذاكرة سوى القليل منها

لقد أوضّحت من قبل
أن البشر ـ في جميع أنحاء العالم ـ على مشارف نسق جديد من الحياة، يختلف اختلافا شديدا عن النسق الذي عرفوه، و رتّبوا شئون حياتهم وفقا لمتطلباته، على مدى ما يزيد عن قرنين من الزمان، طوال عصر الصناعة
و أن الانتقال من حياة مجتمع الصناعة، إلى حياة مجتمع المعلومات، يقتضي إعادة بناء معظم ما تعارفنا عليه في مجالات حياتنا الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و أنّ هناك خطأ متكررا في حديث الجميع .. الحزب الوطني و أمانة سياساته، و الأحزاب السياسية الأخرى، و الجماعات و التشكيلات الجديدة التي نبتت من جوف الفوران السـياسي الحالي .. هذا الخطأ يكمن في الاستخدام الدائم لكلمة ( الإصلاح )، في البرامـج أو المطالب التي يجري طرحها · لقد سبق أن أوضحت معنى الإصلاح، و عدم جدواه بالنسبة لمستقبل مصر، الذي يقتضي القيام بعمليات إعادة بناء شاملة، وفقا لواقع الحياة في عصر المعلومات . الإصلاح يعني العودة بالنظام إلى وضعه الأصلي، قبل أن يفسد و يقتضي الإصلاح . و هو أمر قد يفيد على المدى القصير جدا، لكنه يكون ضارا بمستقبل مصر · أفضل ما تمخّضت عنه القرائح في برامج الأحزاب و الجماعات، لا يخرج عن أحد أمرين، إصلاحات متفرّقة في محاولة للعودة بالراهن إلى ما كان عليه الحال من قبل، أو أماني و أحلام لا تنبع من رؤية مستقبلية واضحة
الواقع المرير
انتهينا من البرامج والأحلام، و واجهنا الواقع المصري المرير . و بدأ الحزب الوطني في ارتكاب كلّ ما يخطر على البال من الخطايا
· استخدام القوّة المفرطة، انطلاقا من الرصيد التاريخي لوزارة الداخلية، بالإضافة إلى قواتها الخاصّة الجديدة من المسجلين و المسجلات خطـر، و حملة السيوف و الخناجـر و السواطير و النبابيت، و الاعتماد على هذه القوات الخاصّة في إرهاب المرشحين و الناخبين من غير جمهور الحزب الوطني، بالإضافة إلى إرهاب القضاة، و خطف و حرق صناديق الانتخاب
الضغط على ضعاف النفوس من عناصر الإشراف القضائي على العملية الانتخابية، من القضاء الجالس و الواقف، و المنتظر الثمن على ركبة و نص ! .. و بالمناسبة القضاة ليسوا أنبياء منزّهين عن الخطيئة و المطامع، بالضبط كما يوجد بين رعايا صاحبة الجلالة الصحافة عملاء للنظام الحاكم، أو من نطلق عليهم تعبير "الخدم السايرة" .. و أمامنا باقة منهم جلست حديثا على مقاعد من سبقهم في الصحف و المجلات الحكومية
تغيير النتائج إلى العكس تماما ـ بكل البجاحة السياسية غير المسبوقة ـ و بقرارات علوية، يوقظ من أجلها المسئولين من " أحلاها نومة " ! . و على المتضرر اللجوء إلى الله ( باعتبار أن القضاء في مأزق حاليا ) .. أو إلى الإخوان المسلمين
و النتيجة أن يسلك المرشحون من أحزاب أخرى نفس مسلك الحزب الرائد للحفاظ على حقّهم .. و يتبدد الأمل في انتخابات نظيفة و صادقة نهائيا
أوكازيون الإخوان المسلمين

ماذا حدث بعد كل هذه الجهود غير المباركة من جانب الحزب و الحكومة .. خرج الإخوان المسلمون من القمقم الذي أحكمته عليهم السلطة طويلا .. هذه اللعبة الخطرة مارسها من قبل الرئيس المؤمن أنور السادات، عندما حرّض التيار الإسلامي على اليسار المصري في الجامعة، و انتهت اللعبة و حياته معا بمأساة المنصّة
و بصرف النظر عمّا تتمخّض عنه النتائج النهائية لهذه الانتخابات المشئومة .. و بصرف النظر عمّا يمكن أن يحدث لو نجح الإخوان في الحصول بأنفسهم، أو من خلال تربيطات، على ما يزيد على ثلث مقاعد مجلس الشعب، و سواء تحالف معهم النظام الحاكم، أم اضطّر إلى أن يقلب المنضدة على الجميع بإلغاء هذه الانتخابات نهائيا، طارحا اختراعا جديدا ( على فرض أن الولايات المتحدة ستقبل هذا، ردا لجميل النظام الحاكم و خدماته العلنية و السرّية لأمريكا ) .. بصرف النظر عن كلّ هذا، فالحقيقة أن الشعب المصري أصبح واعيا بالهوّة التي يتردّى فيها الحزب الوطني، جديده و قديمه
و كانت النتيجة أن تحققت مكاسب الإخوان المسلمون، بفضل التصرفات الخرقاء للحزب الوطني، و بفضل الضعف و الهزال الشديد للأحزاب الأخرى، و الذي هو نتيجة مشتركة لتآمر الحزب الوطني و لعدم قدرة تلك الأحزاب على مواجهة ذلك التآمر
من هو الأخطر

و الآن .. دعونا من كل هذا، و لنسأل أنفسنا : من هو الذي يشكّل الخطورة الأكبر على مستقبل مصر من حيث ما يسير عليه من عقيدة أو أيديولوجية ؟ .. هل هو الحزب الوطني، أم الإخوان المسلمون، أم الأحزاب الأخرى ؟
الحزب الوطني مع كل أوراقه القديمة و الحديثة، التي يضمّها موقعه على الإنترنيت، لم يقم على أيديولوجية أو عقيدة أو فكر ما .. لقد اخترعه أنور السادات، فتدافعت إليه أكثر العناصر انتهازية في مصر، و نبعت قوّة الحزب منذ ذلك الوقت و حتّى الآن على تبادل المنافع و المصالح بين النخبة الحاكمة و قيادة الحزب .. ومع هذا فإن الحزب الوطني على مدى ثلاثة عقود، لم يفعل سوى تخريب الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية
و بهذا، يمكننا إخراج الحزب الوطني من القائمة، و استبعاد أي خطورة من جانبه على مستقبل مصر، باعتباره قد فقد مصداقيته بعد أن كشف أوراقه كاملة بممارساته العلنية، التي شهدها المصريون جميعا .. و الأرجح ألاّ بجد بعد اليوم المساندة التي كان يستمتع بها من الخارج
· لا يوجد بين باقي الأحزاب من بمكن اعتبار أنّه يقوم على أيديولوجية سوى حزب التجمّع . فحزب الوفد ينتسب إلى حدث تاريخي، في ظل تركيبة مجتمعية لم تعد قائمة . و الحزب الناصري، قد يزعم الاستناد إلى العقيدة الناصرية، لكن المشكلة هي أن الناصرية تجربة و ليست عقيدة، جرت في ظل العقود الأخيرة لسيادة المجتمع الصناعي . و على أي حال فإن الضعف الشديد لهذه الأحزاب، يسقط أي تخوّف منها في الحاضر أو المستقبل

عقيدة التجمّع، الماركسية، يرجع تاريخها إلى بدايات عصر الصناعة، و مرجعيتها تعود إلى ما يقرب من ثلاثة قرون ... و قد انقضت مصداقيتها، هي و الرأسمالية، باعتبارهما معا وجهان لعملة واحدة، هي صالح الاقتصاد الصناعي الذي تراجع منذ منتصف القرن العشرين مفسحا السبيل لاقتصاد المعلومات

· لم يبق لدينا سوى ( البعبع )، أو جماعة الإخوان المسلمين .. و التي تعود مرجعيتها إلى ما يقرب من 15 قرنا قرب نهايات عصر الزراعة، فيما قبل التحوّل إلى مجتمع الصناعة، و إلى مجتمع المعلومات، و كل من هذين العصرين له أسسه و مبادئه و نظمه و قيمه الخاصّة به و التي تختلف عن مثيلاتها في عصر الزراعة
و نحن نتّهم الإخوان المسلمين بالتقية، و أنهم يعلنون غير ما يخفون، بالنسبة لبرامجهم و سياساتهم .. فنظلمهم بذلك، لأنّهم ـ فعلا ـ لا يعرفون لهم أي ضرب من البرامج أو السياسات، سوى تلك القائمة على المرجعية الضاربة في أعماق التاريخ

Thursday, October 22, 2009

الضغوط .. و انفجار النظم

نهضة مصر - السبت 24/9/2005 - راجي عنايــت


غياب الرؤية المستقبلية لمصر

في برامج جميع الأحزاب على الإطلاق

انقضت الضجّة الغوغائية لانتخابات الرئاسة، و أصبح من الممكن أن نجد مكانا لحديث العقل، و أن نواجه الحقيقة التي آلمتني كثيرا، حقيقة أن البرامج الانتخابية لجميع الأحزاب ـ بما في ذلك الحزب الوطني بأمانة سياساته ـ قد خلت من أي اعتبار لطرح رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تستند إلى فهم التغيرات الكبرى التي تمر بها البشرية، و واقع الأمر الحالي لتطوّر الحياة المصرية
و أرجو ألاّ يفهم أحدا أنّني لا أعترف بأهمية و حيوية الأهداف التي تضمنتها برامج الأحزاب المختلفة، فمعظم تلك الأهداف تعتبر خط الدفاع الأول في مواجهة التخلّف الشديد ـ طويل الأمد ـ الذي نعيشه في مصر، و الذي وضعنا دون نقطة الصفر على سلّم التقدّم .. لذا كان من الطبيعي أن نتكلّم بأعلى صوت عن قانون الطوارئ، و تخلّف الدستور الحالي عن واقع العصر و عن درجة النضوج الشعبي، و ارتفاع معدّلات البطالة، و الغرق في مستنقعات الأكاذيب و الأوهام نتيجة لغياب الصدق و الشفافية، و الانزعاج من عمليات استنزاف اقتصاد مصر نتيجة للسياسات الخاطئة و المغرضة، و عمليات النهب المنظّم التي قادت إلى تحويل مليارات الدولارات إلى الحسابات السرّية في بنوك سويسرا، ثم بفضل الترتيبات الأخيرة، تحويلها على المستوى العربي إلى كيانات اقتصادية مبتكرة، تفيد في غسيل تلك الأموال أعترف بأهمية جميع هذه المطالب، لكنّي مؤمن بأنها غير كافية الآن لمواجهة حالة التخلّف التي نعانيها

الغرض الذي هو مرض

الذي آلمني أنني حاولت طويلا، و على مدى ما يزيد عن عشرين عاما، أن أشرح طبيعة التحوّلات الكبرى التي تمرّ بها البشرية .. تحوّل البشر من حياة عصر الصناعـة إلى حياة عصر المعلومات .. و عن أهمية فهم طبيعة مجتمع المعلومات، و اختلافه الشديد عن مجتمع الصناعة اجتماعيا و اقتصاديا و سياسيا ..
كتبت و حاضرت و قدمت البرامج الإذاعية و التلفزيونية، أوضّح طبيعة هذه المرحلة التي تمر بها البشرية .. و كيف أن التصدّي للتغيرات الطارئة المتلاحقة، لا يجدي فيه التناول الأحادي للمشاكل، نتيجة لسقوط أهمية السوابق، و ضعف قيمة الخبرات السابقة .. و ضرورة أن تتم عمليات إعادة البناء المطلوبة في جميع مجالات الحياة المصرية، وفق رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع منها الاستراتيجيات و الخطط و الأولويات، و تضمن لنا ألا تتناقض خطواتنا، و ألا يقود حل مشكلة ما إلى مشاكل أكبر فيما يأتي من الأيام
قلت هذا بكل الوضوح و التبسيط الممكن، لكن كلماتي دخلت من أذن لتخرج من الأذن الأخرى، ليس لقصور فهم النظام الحاكم، أو نتيجة لعدم اطّلاع القيادة على ما كنت أقوله، فقد تضمن أحد خطابات الرئيس مبارك، في مناسبة لا أذكرها، فقرات بالنصّ من مقالاتي عن المسـتقبل و الرؤية المستقبلية، ممّا يوحي أنّه مطّلع على ما أقول، أو أن الذي كتب له ذلك الخطاب كان متابعا لما أكتب
كان من المكن، أن أجد مبررا لعدم اهتمام النظام الحاكم بما أقول نتيجة وجود فكر آخر لديه، قرر أن يعتمد عليه في إعادة بناء مصر و في تجاوز أوضاعها المتردّية .. أمّا و قد مرّت 24 سنة دون أن يفعل شيئا يساعدنا على تجاوز تخلّفنا الحضاري، فلم أفهم سبب هذا الإعراض عن مشروع الرؤية المستقبلية لمصر، الذي لم أتوقّف عن طرحه و شرحه، و تفصيله و تبسيطه .. هل هو عدم الفهم، أم عدم القدرة على التغيير، نتيجة لتناقض الحياة التي نفصّلها مع المصالح المادية للعناصر المهيمنة على مقادير هذا النظام الحاكم ؟! .. فكما يقال : الغرض مرض
التغيير، و انفجار النظم

تظهر أهمية الرؤية المستقبلية الشاملة، في زمن التغيرات العظمى في حياة البشر، كما حدث عند التحوّل من الحياة الزراعية إلى الحياة الصناعية، نتيجة لسقوط القواعد التي التزم بها النظام المنقضي، و خطورة إجراء تغيرات متفرّقة خارج إطار رؤية مستقبلية قائمة على فهم مؤشرات المجتمع المقبل
لكن هذا يختلف نوعيا عن التغيرات المختلفة التي كانت تحدث خلال سنوات استقرار عصر الصناعة، و التي كان من الممكن التصدّي لها كلّ على حدة، في إطار المبادئ و الأسس الثابتة للمجتمع الصناعي
و هناك نظرية علمية تقول أن النظام ـ سواء كان نظاما كيميائيا، أو حيويا، أو اقتصاديا، أو اجتماعيا، أو سياسيا أو فلكياـ يخضع بصفة دائمة لضغوط متباينة التأثير، من داخله و من خارجه . و عندما تصل هذه الضغوط الداخلية و الخارجية معا إلى حدّها الأقصى، ينفجر ذلك النظام و يختفي من الوجود .. إلاّ إذا كانت هناك رؤية بديلة جاهزة، يعتمد عليها النظام في التحوّل، و الاستمرار في الوجود
لا أريد أن أسترسل في شرح هذه القاعدة العلمية، فقد كنت أطرحها، لأقول أن النظم الواعية الناضجة، تحرص على أن تكون لديها رؤية بديلة، تواجه بها الضغوط الخطيرة، تفاديا للانفجار .. ناديت بهذا طوال السنوات العشرين الماضية، فلم أحظ بأدنى استجابة من أهل السياسة، و من معظم أهل الفكر

الموقف يتغيّر 180 درجة

و أخيرا، حدث ما توقّعته .. تصاعدت الضغوط الأمريكية على مصر، لأسباب ليس لها علاقة بمصلحة مصر، واستجابة لأفكار حمقاء تعتنقها جماعة المحافظين الجدد، يثبت فشلها يوما بعد يوم ( و هذا له حديث آخر ) . وصلت الضغوط الأمريكية إلى غايتها، في المطالبة بقدر معقول من الديموقراطية، من النظام المصري القائم على الغياب الديموقراطي، لشعورها بأن الضغط الشعبي المكبوت يمكن أن يفسد خططها، و يزعزع استقرار مصالحها
و في نفس الوقت وصل الغليان الداخلي إلى حدّ لم تدركه أو تفهمه القيادات، برفضها الساذج لمسألة إدخال الشعب في حساباتها ! .. و هذا هو الخطأ المتكرر الذي تقع فيه النظم الشمولية
و الحقيقة أن الضغوط الداخلية على النظام لم تقتصر على الفوران الشعبي ، فقد كان هناك ضغطا داخليا متصاعدا، لا علاقة له بالضغط الشعبي، هو الضغط العائلي الذي يلح بضرورة خلق دور لجمال مبارك في المجال السياسي شبيه بدور علاء مبارك في المجال المالي، يضمن استمرار سطوة الأسرة، و عدم تهديد المكاسب، في غياب الرئاسة الحالية . و الغريب أن جماعة جمال مبارك، من الشباب العاشق لفلسفة الذرائع الأمريكية، و التي استولت على الحزب الحاكم، عن طريق نفق سرّي تآمري أطلق عليه اسم أمانة السياسات .. هذه الجماعة عندما تصدّت لطرح تصور نظري لبرامجها جاء غير مستند إلى أي رؤية مستقبلية حقيقية لمصر، شأنها شأن باقي الأحزاب و أشباه الأحزاب المصرية .
فماذا فعلت القيادة لمواجهة هذه الضغوط، في غياب أي رؤية مستقبلية شاملة لمصر ؟، استقرّ رأيها على المناورة على أمل تغير الأوضاع الخارجية و الداخلية مستقبلا، بما يتيح لها أن تعود إلى سابق سيرتها!.. القيادة التي كانت قبل هذا بشهر تقريبا، تعتبر الحديث عن أيّ مساس بالدستور كفرا و تجديفا، تغيّر موقفها 180 درجة، و مدّت أصابعها إلى المادة 76 .. و بدأ اندفاع كرة الثلج

الحريق المندلع

لا أريد أن أبدو مستعليا، فأنا أدرك أن الأوضاع الفاسدة و الخاطئة التي سيطرت على حياتنا في مصر لعشرات السنين، و استبعاد الشعب، و بالتحديد كل من هم ليسوا ضمن دائرة النظام الحاكم .. قاد إلى شعور الأحزاب ـ و أعني أحزاب المعارضة الجادة ـ بالحريق المندلع، الذي يستوجب تضافر الجهود لإطفائه، و لو على حساب التفكير الجاد في مستقبل مصر بشكل متكامل
و هكذا، أصبح التفكير في المستقبل، أو مجتمع المعلومات، أو الرؤية المستقبلية لمصر، نوعا من الرفاهية، و التزيد الذي لا مجال له . لم يكن غريبا أن تتضمن برامج المعارضة الأحلام المشروعة، لهذا جاءت صورة مستقبل مصر من واقع برامج هذه الأحزاب أشبه باليوتوبيا أو المدينة الفاضلة .. سيادة الديموقراطية، التوقّف عن تزوير نتائج الانتخابات، تشغيل جميع العاطلين، خفض الأسعار أو وقف تصاعدها و رفع المرتبات، الفصل بين السلطات و إنهاء طغيان السلطة التنفيذية و استيلائها على السلطة التشريعية و القضائية، رفع المرتبات .. إلى آخر هذه الأماني و الأحلام المشروعة .. التي تكررت في برامج الأحزاب المختلفة، بما في ذلك برنامج الرئيس مبارك
غير أن البرامج و السياسات و الاستراتيجيات و الرؤى المستقبلية، لا تقوم على هذه الأحلام وحدها.. هي بالقطع تدخلها في الاعتبار، لكنها تنطلق من الفهم العميق لأمرين أساسيين أكثر شمولا، هما بالتحديد
أولا : رصد الوضع الراهن لمصر بكلّ أمانة و صدق . مع فهم دقيق للخريطة الحضارية المصرية التي تحدد لنا إلى أي حد نعيش وفقا لأسس ومبادئ المجتمع الزراعي، و مدى أخذنا بأسس و مبادئ المجتمع الصناعي، و إلى أي حد وضعنا أقدامنا على مشارف عصر المعلومات . باعتبار هذا الأمر نقطة الانطلاق في حركتنا
ثانيا : الهـدف، الذي علينا أن نمضي إليه، و هو في هذا الصـدد مجتمع المعلومات . و هـذا يقتضي فهم العديد من الأمور الأساسية : الآليات التي تقود البشرية إلى مجتمع المعلومات، و علاقة هذا المجتمع بثورة المعلومات، و العلاقة بين التكنولوجيات الابتكارية ( مثل الآلة البخـارية، أو الكمبيوتر ) و بين نظم الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية و الأخلاقية، و التعرّف على مؤشرات التغيير الأساسية التي تمضي بالبشر إلى مجتمع المعلومات و الحياة في عصر المعلومات .. أن نفهم بكل الدقة الممكنة طبيعة أسس اقتصاد المعلومات، و ديموقراطية مجتمع المعلومات، و تعليم مجتمع المعلومات، و النظم الإدارية لمجتمع المعلومات، و إعلام مجتمع المعلومات، و القيم و الأخلاقيات المرتبطة بمجتمع المعلومات .. لا لنسلّم بذلك جميعه، لكن لنرى ما ينفعنا فيه فنرحّب به، و نستفيد منه، و ما يتناقض مع مصالحنا، فنتّقيه، أو نخفف من آثاره علينا
* * *
يبقى سؤال هام
كيف لم ينتبه شباب أمانة السياسات، لكل هذا الذي أقوله عن مجتمع المعلومات و الرؤية المستقبلية الشاملة، شأنهم شأن آلاف الشباب الذين كنت ألتقي بهم في المؤتمـر العام لجمعية مســتقبل العالـم، الذي ينعقد بواشـنطن كلّ أربع سنوات ؟ .. كنت أتوقّع أن أرى انعكاسا لهذا الفهم في خطط أمانة السياسات التي أتابعها على الإنترنيت، أو في برامج الحملة الانتخابية للرئيس مبارك، التي جاءت غير مختلفة نوعيا عن وعود و دعايات الأحزاب الحقيقية و الوهمية التي خاضت تمثيلية انتخـابات الرئاسة .. لكن هذا حديث آخر، قد نعرض له في الأسابيع القادمة

Saturday, October 17, 2009

التغيير .. و الرؤية المستقبلية

نهضة مصر ( عدد الخميس 15 يوليو1979 ) راجي عنايــت

الإصلاح لن يفيدنا

و ليس أمامنا سوى إعادة البناء الشامل

المولد منصوب، و صاحبه ليس غائبا .. لأنّه الشــعب المصري، صاحب المصلحة الأولـى فيما يجري على أرض مصر . " المكلمة " مفتوحـة على مصراعيها لكل من هب و كل من لم يدب .. و الكل يزعم ـ صادقا في بعض الأحيان ـ أن لديه العلاج الشافي لمشـاكل مصر .. دكاترة المستوصف الاسـتراتيجي، و أركان الحزب الوطني، و أقطاب الحلّ الإسلامي، ارتدوا جميعا زيّهم الرسمي، و اندفعوا بكل حماس إلى الصحف و الميكروفونات و الكاميرات، يترنّمون بحكمتهم التي ساهمت طويلا في الإبقاء على تخلّفنا، مع ازدهار أحوالهم .. بعد أكثر من عقدين، من السعي الجاد لشرح سـرّ تخلّفنا، و الحديث عن الرؤية المستقبلية التي تضمن خروجنا من ذلك التخلّف، أراني مضطرا إلى تكرار ما سـبق أن قلته عن أهمية الفهم الشامل الأعمق قبل الحركة
منذ أكثر من عشرين سنة، قلت ـ و ما زلت أقول ـ أن الذي نحن بصدده، ليس زيادة في ذلك و نقصا في هذا . إننا بصدد قانون جديد لحياة البشر، يختلف تماما ـ إن لم يتناقض ـ مع القانون الذي حكم حياة البشر على مدى القرون الثلاثة السابقة . لهذا، لا يجوز لنا أن نتحدّث اليوم عن الإصلاح، و التجويد و التطوير، فهذه أمور كانت ممكنة عندما كانت حياة البشر تخضع لنفس القانون، مع بعض التغيّرات غير القوية أو الجذرية . مثلما كان يحدث في ظل سيادة المجتمع الصناعي، في النصف الأوّل من القـرن الماضي ، على سبيل المثال . في ذلك الوقت، كان من المفيد أن نتعرّف على المستجدّات، لنعدّل و نطوّر و نصلح حياتنا وفقا لتلك المستجدات .... الإصلاح أيا كانت طبيعته، لن يفيدنا الآن، إننا ـ حاليا ـ بصدد عمليات إعادة بناء شاملة

نظام جديد لحياة البشر

أوّل ما يجب أن نفهمه، هو أنّنا بصدد نظام جديد لحياة البشر، في كلّ أنحاء كوكب الأرض، بشكل لم يحدث له مثيل طوال التاريخ البشري . لقد شهد العالم منذ أكثر من قرنين تغيّرا أساسيا في الانتقال من الحياة الزراعية إلى الحياة الصناعية، و سادت أسس المجتمع الصناعي الكثير من دول العالم، من نمطية و مركزية و تركيز و سعي إلى النهايات العظمى، إلى آخر ذلك، لكن كان من الممكن أن تعيش شعوبا بأكملها متمسّكة بنظم حياتها القبلية البدوية أو الزراعية أمّا اليوم، و في ظل التطورات التكنولوجية الأساسية في مجال المعلومات و الانتقالات و الاتصالات، فلم يعد يمكن لأي شعب، مهما صغر عدده، أو بعد موقعه، أن يعتذر عن اللحاق بركب النظام الجديد القائم على احتياجات مجتمع المعلومات، أو أن يتخلّف عن تحديات عمليات إعادة البناء الشاملة المطلوبة من الجميع . لا معنى اليوم للقول بأن طبيعتنا الخاصّة، أو هويتنا التاريخية، تجعلنا نمتنع عن السير في هذا الركب البشـري العالمي .. و السر في هذا أن النظام الجديد لمجتمع المعلومات يتّسع لجميع الاختلافات التي لم تكن لتتقبّلها أو تسمح بها نمطية و قولبة المجتمع الصناعي
و إذا كانت الإدارة الأمريكية في الكثير من ممارساتها الانتهازية، تطلق كلمات حق يراد بها عين الباطل، فلا يجب أن يمنعنا هذا من التفكير فيما يجب أن تقوم عليه حياتنا، حتّى لو كان شبيها بما تنطق به
التفكير بنظام القطعة

لن ينفعنا، في الوضع الذي أشرت إليه، أن نفكّر بالقطّاعي، أو بنظام القطعة، كما أرى في معظم ما يطرح من أفكار، في مواجهة " الزعقة " الأمريكية القاسية، التي اهتزّت لوقعها النظم العربية الحاكمة، و تاه مسار القلم في أيدي الكتّاب و المفكّرين بين الإنكار و الرضوخ، و بين الدفاع عن الأنظمة القائمة و المشاركة في الوليمة الأمريكية
قلت، و سأظلّ أقول، أن أوّل ما نحتاج إليه هو رؤية شاملة لمستقبل مصر
تنطلق من معرفة أمينة بالواقع الحالي لمصر، بعيدا عن الدعايات الإعلامية المضللة، و عن شعارات " حضارة خمسة آلاف سنة "، و " خير أمّة أخرجت للناس ، و " ريادة الأمّة العربية "، إلى آخر ذلك من مثل هذه الشعارات التي لم يعد يفيدنا ترديدها
كما تنطلق من التعرّف على طبيعة التغيّرات الأساسية ـ متزايدة التأثير ـ التي تمرّ بها البشرية حاليا، نتيجة للدخول إلى عصر المعلومات
و فهم طبيعة العلاقات متبادلة التأثير بين هذه المتغيّرات الأساسية، للتعرّف على أسس و مبادئ مجتمع المعلومات، الذي يحلّ محلّ مجتمع الصناعة الذي عرفناه، و يتناقض معه في معظم الأحيان
ضرورة الرؤية المستقبلية

تتشكّلّ الرؤية المستقبلية من أمرين : الفهم الأمين لنقطة الانطلاق، أي الواقع الحالي لمصر، أيّا كان . و من الفهم الشامل العميق للهدف الذي نسعى إليه، أي مصر المستقبل و تكمن أهمّية و ضرورة الرؤية المستقبلية لمصر في أنّها الأداة الفعّالة لتنظيم عمليات إعادة البناء الكبرى، التي ستطال جميع جوانب و مؤسسات حياتنا . الرؤية المستقبلية، هي المنهج الذي يضمن لنا ألاّ تتناقض جهودنا في مجال من مجالات حياتنا، مع مجال حيوي آخر . و هي التي تيسّر لنا أن نضبط أولويات عملنا عند الشروع في إعادة البناء، و تضمن لنا التناسق في جهودنا، كما أنّها تكون ( المسطرة ) التي نعتمد عليها في قياس مدى مطابقة تفاصيل جهودنا للأهداف التي ارتضيناها
اكتمال الرؤية المستقبلية لمصر، هو الخطوة الأولي لفتح الباب أمام مساهمات الجميع في أفكار إعادة البناء، وفقا لخبراتهم الخاصة و تجاربهم الشخصية . لن تنفعنا الآن اجتهادات المختصّين المخلصين، الذين قامت خبراتهم على أسس و مبادئ عصر الصناعة التي سادت لأكثر من قرنين .. لن تنفعنا ـ قبل وضوح الرؤية المستقبلية لمصر ـ أفكار خبراء الاقتصاد، الذين استمدّوا خبراتهم من واقع اقتصاد عصر الصناعة، و لا أفكار شيوخ و جهابذة التعليم الذين قامت خبرتهم على تعليم فقد أركانه في وجه عصر المعلومات . و نفس الشيء يقال عن خبراء الإدارة و الإعلام، و الممارسة السياسية
لهذا، أقول بعدم جدوى ( المكلمة ) المنصوبة حاليا، في الإذاعة و التلفزيون و الصحافة و لجان الحزب الوطني، مع اعترافي ببلاغة و مهارة معظم المشاركين فيها، و إخلاص بعضهم .. لماذا ؟ لأن المشاركين في تلك المكلمة يبدون كفاقدي البصر الذين صادفوا فيلا لأوّل مرّة في حياتهم، و راح كلّ واحد منهم يصفه، وفقا للعضو أو الجانب الذي وقعت يده عليه
الرؤية المستقبلية لمصر، هي البصر و البصيرة، للمخلصين من بين هؤلاء
كيف .. و من .. و هل ؟

السؤال الذي يطرح نفسه : كيف نصل إلى الرؤية المستقبلية السليمة لمصر ؟ ..
و من الذي يوكل إليه أمر وضع تلك الرؤية ؟ .. و هل من الممكن أن يتم مثل هذا الجهد العلمي العقلي بطريقة ديموقراطية ؟
هنا يأتي دور شباب مصر المستنير، الذي لم تلوّثه انتهازية الحياة السياسية الراكدة . و الشباب الذي أعنيه لا يقتصر على شباب العمر، فأنا مدرك لمدى التخريب الذي خضعت له أجيال من شباب مصر . عندما أقول شباب مصر أرجو أن نستبعد تماما صورة منظمة الشـباب التي قامت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، و تحوّلت بفضل من قاموا عليها ـ و ما زالوا يحكموننا ـ إلى معمل للتفريخ الانتهازي
الشباب الذين أعنيهم، و أصادفهم كثيرا في مختلف التخصّصات، كسروا قوقعة النمطية التي فرضت عليهم منزليا و مدرسيا و سياسيا، فاكتسبوا قدرات ابتكارية تمكّنهم من النظر إلى الأشياء بعين جديدة، متخلّصة من شوائب الجمود الفكري
فالتفكير في الرؤية المستقبلية، يحتاج إلى الاعتماد على أمرين : التفكير الناقد، و التفكير الابتكاري .
التفكير الناقد يتيح للعقل البشري أن يتخلّص من أسر القديم المنصرم، ليقوم البناء الفكري على أساس سليم، منسجم مع مرحلة لتطوّر الحضاري التي يمرّ بها الجنس البشري .. يتيح له أن يمتحن الافتراضات التي قام عليها فكره، ليرى ما سقط منها، و ما بقي صالحا للاعتماد عليه .. كما يتيح التعرّف على السياق الذي تخرج منه الافتراضات و الأفكار و امتحان مدى صلاحية ذلك السياق حاليا .
و التفكير الابتكاري، يتيح لنا أن ننظر إلى مشاكلنا من نقطة جديدة، خارج مسار فكرنا التقليدي، ممّا يتيح لنا الوصول إلى حلول غير مسبوقة لمشاكلنا، لم نكن نعلم عنها شيئا
* * *

الشعور العام بأن وقت التغـيير قد حان أخيرا، لا يجب أن نبدّده، بتغيير الأفراد، أو تغيير التنظيمات في الأجهزة التنفيذية و التشريعية و السياسية، دون أن يقوم ذلك على رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع من فهم أمين للأرض التي نقف عليها، و إدراك شامل لطبيعة مجتمع المعلومات الذي نمضي إليه

Monday, October 12, 2009

من الذين يمكن أن نعتمد عليهم ؟

نهضة مصر (الخميس 7 إبريل ) راجي عنايــت

هيكل .. و المستقبل .. و حكاية الحب العذري

من الذي عجز عن الخيال و الحلم
و تراجع عن معركة المستقبل ؟

منذ حوالي أسبوع، ظهر محمد حسنين هيكل على شاشة قناة الجزيرة ليقول أننا ـ كعرب ـ تخاذلنا، و آثرنا أن نتجمّد، و أننا عجزنا عن الخيال و عن الفعل، و ارتضينا ثقافة الهزيمة .. و يقول أن الآخرين دخلوا معارك المستقبل، بينما بقينا نحن بلا حـراك، و قد خلق الجمود الطويل فجوة في الأفكار و التصوّرات .. و أنا أتّفق معه في كل هذا، لكنّي أرى أن هيكل هو أحد الذين ساهموا في مسيرة العجز عن الخيال و الحلم، و أحد الذين حاربوا لكي تتعطّل مسيرتنا إلى المستقبل
.. و لنبدأ القصّة من أوّلها
قبل أن نناقش ما ورد في حديث " الجزيرة " من أفكار، و ما تضمنّه من استطرادات، و حكايات عن علاقته الوثيقة بالعظماء، أدخلتنا في العديد من المتاهات، أقول أن هذا كان دائما دأب هيكل منذ وفاة عبد الناصر، و بعد أن فقد أهم دعم لأقواله، بخروجه من مطبخ الرئاسة . أمّا عن علاقته بالمستقبل و بالرؤية المسـتقبلية، فأزعم أنني كنت شاهدا على ذلك طوال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، و قد كتبت ـ أكثر من مرّة ـ أحاول تشجيعه على الانضمام إلى كتائب التفكير المستقبلي، عندما لاحظت أنه ينهي مقالاته بما معناه " دعونا نترك الماضي و حكاياته، و الحاضر بآلامه، و نتّجه إلى لمستقبل

سذاجتي هي السبب
لا أدري، هل هي سذاجتي، أم رغبتي في كسب أنصار للتفكير المستقبلي، هي التي جعلتني أصدّق جملته الختامية، و أتصوّر جدّيته في نيّة التوجّه للمستقبل ؟ ..المهم، عندما تكرر هذا الموقف، كتبت تعليقا صغيرا في باب : ( مستقبليات ) بمجلة " المصوّر "، تصوّرت فيه هيكل رياضيا ممشوقا يرتدي لباس البحر، و ينطلق على الشاطئ، نحو البحر .. لكن عندما يقترب منه يمد إصبع قدمه في الماء، و ما أن يشعر ببرودته، حتّى يرتدّ مبتعدا .. و من هنا جاء تعبير حبّه العذري للمستقبل .. يحبّه و لا يقربه
غير أن تجربتي الأكبر جاءت في وقت كنت أوقن فيه أن هيكل لا يحب و لا ينوي و لا يقدر على خوض مجال التفكير المستقبلي . فقد دعوت في مقالي الأسبوعي إلى تكوين جمعية للمستقبل العربي، أسوة بجمعية مستقبل العالم، و مقرّها واشنطن، و التي أنتسب إلى عضويتها منذ سنوات طويلة . و كان الأمير طلال بن عبد العزيز من بين من استجابوا لدعوتي متحمسا . و هكذا، بدأت معه جهدا جادا لتكوين جمعية مستقبل العالم العربي، فاقترحت عدة أسماء من المفكرين العرب الذين أعرف اهتمامهم بالمستقبل، في البحرين و الكويت و تونس و المغرب و لبنان . و أضاف الأمير بعض الأسماء العربية المعروفة في مجال النشاط السياسي، فلم أر ضيرا في ذلك مع إدراكي للتناقض بين منهج السياسي و منهج المفكّر .. و تمنيت أن ينجح الطرح المستقبلي في الجمعية من كسب أنصار جدد للتفكير المستقبلي
الفريك، و كرسي في الكلوب

و كان اسم محمد حسنين هيكل من بين الأسماء التي اقترحها الأمير . أبديت له شكّي في قبول هيكل العمل وسط مجموعة، و كيف أنه مثل " الفريك " لا يحب أن يكون له شريك، فوعدني الأمير أن يتولّى هو الاتصال بهيكل و إقناعه بالمشاركة
و بعد مرور سنتان من الإعداد و الاتصالات بالمفكرين في العالم العربي، شعرت أن العمل متوقّف، فسألت الأمير و وجدته متحيّرا . ثم صارحني أخيرا أن هيكل رفض الفكرة من أساسها و قال للأمير " عندنا جمعيات مستقبل كتيرة .. هوه إحنا ناقصين " . و نصح الأمير بصرف النظر عن هذه الفكرة
تساءل الأمير عن سرّ هذا الموقف الذي اتخذه هيكل .. لم أحب أن أردد على مسامعه التعبير التقليدي " مش أنا كنت قلت لك ؟! "، و قلت له هيكل يستمد أمجاده من الحديث و الكتابة عن الماضي أساسا، و هو يقف عند الحاضر على أكثر تقدير .. و قد تأسس لديه منهج خاص في التفكير، لا يتيح له ـ مع السن و الاعتياد ـ أن يتقبّل منهجا جديدا في التفكير . بالإضافة إلى تضخّم ذاته، الذي لا يسمح له بالدخول في أي عمل جماعي
و كانت هذه نهاية فكرة مستقبل العالم العربي ..
ثم يجيء هيكل و يقول في حديثه على قناة الجزيرة " الآخرون يدخلون معارك المسـتقبل .. و نحن باقون .."، و يقول " لقد آثرنا أن نتجمّد .. عجزنا عن الخيال، و عجزنا عن الفعل .." . و أنا أتساءل : من الذي أحجم عن دخول معارك المستقبل ؟، و من الذي تجمّد ؟ .. أليس هو هيكل و النظم التي اعتاد أن يساندها و ينظّر لها، و يبرر مثالبها ؟

من الحريري إلى بوتو إلى كسينجر

ماذا فعل هيكل في حديثه إلى قناة الجزيرة ؟، فعل ما كان يفعله دائما في أحاديثه السابقة، و هو خارج أحضان السلطة، فيما عدا استثناء هام، هو أنه سمح لقناة الجزيرة أن تشرك معه واحدة من مذيعاتها في الصورة !، الأمر الذي كان يرفضه دائما . و مع ذلك فقد نجح هيكل في إبطال مفعولها، بمنعها من إنهاء أي كلام تقوله، كانت تستهدف به إعادته إلى مسار الحديث الذي كان قد اختاره . و الاستطراد الدائم ظاهرة في أحاديث هيكل دائما، و يدفعه إليه الرغبة في التذكير بوضعه المتميز بين الكبار، مثل الحريري في يخته، و بوتو في حديقته، و هنري كسينجر الذي يدمن الإشارة إلى أحاديثه معه
حديث هيكل الأخير نموذج واضح لخطورة غياب الفهم المستقبلي، و عدم الاعتماد على رؤية مستقبلية شاملة، تدخل في الاعتبار جوهر التغيرات المتسارعة التي نعيشها منذ منتصف القرن الماضي، و الترتيب السليم لأولويات تلك التغيرات . غياب ذلك الفهم، هو الذي يوقعه في تصنيفات بعض الأدبيات الغربية، حول معركة القرن، و قرن البترول و الشرق الأوسط، ثم أخيرا القرن النووي
لكي نفهم حقيقة ما يجري، علينا أن نتوقّف عن اعتبار التاريخ، دول و ملوك و رؤساء و حروب، و شخصيات لامعة من عينة كسينجر و صدر الدين خان و بوتو و الحريري .. و أن ننظر إلى التاريخ باعتباره تطوّر مجتمعات، و تطور للتكنولوجيات الابتكارية الأساسية التي تقوم عليها حياة البشر في زمن ما ( مثل الآلة البخارية في عصر الصناعة، و الكمبيوتر في عصر المعلومات )، و الأسس المجتمعية التي يفرضها الاعتماد الواسع على تلك التكنولوجيات
أمّا قصة القرن الجديد، أو القرن الأمريكي الجديد، التي يقول هيكل أنه لم يفهمها أول الأمر، فهي قد نشأت من أدبيات جماعة المحافظين الجدد، التي تضم غلاة الأصوليين اليهود و المسيحيين، و تستطيع أن تتابع أفكارها و حواراتها في مطبوعات البنتاجون ( راند )، بيانات ديك تشيني، و حوارات مجلة " ناشيونال انتريست "، المعبرة عن أفكار تلك الجماعة .. و هي الأفكار التي تخضع لها الإدارة الأمريكية، و تمضي كالمنوّمة وفقا لأهدافها
لا يوجد هناك شيء اسمه قرن الشرق الأوسط و البترول، كما لا يوجد قرن آسيا و السلاح النووي، و مشروع القرن الأمريكي الجديد يقوم على ستّة مبادئ أساسية : مواجهة الإرهاب ـ مواجهة انتشار أسلحة الدمار الشامل ـ ضمان التحكّم في إمدادات و أسعار البترول ـ ضمان استقرار نظم الحكم الصديقة ـ تأكيد أمن إسرائيل ـ تشجيع الديموقراطية و حقوق الإنسان
خاتمة عصر و افتتاحية عصر

الغريب أن هيكل كان قد قال في أحد مؤتمرات المعهد القومي للإدارة العليا " لنتّفق في البداية على أننا أمام متغيرات هائلة لا ترتبط بالانتقال من قرن إلى قرن .. و إنّما هو خاتمة و افتتاحية عصر في مسيرة التاريخ .."، فما الذي جعله يرتد إلى حديث القرون ؟
في حديثه للجزيرة قال هيكل " واجب تغيير الدستور و ليس تعديله"، و " كل الحياة السياسية في مصر تجمّدت"، و النظام كلّه لازم يتغيّر .." . و أنا أوافقه في هذا كلّه، و أمضيت حوالي ربع قرن أردده في كتاباتي، لكن السؤال الذي يلحّ عليّ هو : هل يعرف هيكل ما هو البديـل المعاصر للنظـام الذي ينادي بتغييره ؟ .. و من هم الذين يمكن أن نعتمد عليهم في مصر لطرح أسس التبديل ؟ .. " . من واقع حديثه للجزيرة أرى أنه آخر من يصلح لهذه المهمة، أو يصلح لاختيار من يقوم بها

Saturday, October 3, 2009

ممنوع في 17 يناير 2006

نهضة مصر – تاريخ الامتناع عن النشر
الثلاثاء 17/1/2006 – راجي عنايت

دفاع عن إبراهيم سليمان و الشاذلي

بعد انقشاع غبار المعركة الوزارية

ملاحظات و عظات
أختلف مع جميع الذين استنكروا غرابة الإجراءات التي التزم بها النظام الحاكم في تشكيل الوزارة الجديدة .. فما حدث من خلط و فوضى و ارتباك .. و تأكيد ثم تكذيب .. كلّ هذا مرجعه إلى ظاهرة صحيّة هي انتهاء سيطرة العقل الواحد، و بدء تصارع العقول التي استجدت على العملية السياسية .. و هو تصارع لن ينتهي بتشكيل الوزارة، بعد الفوضى الخلاّقة التي زرعتها كونداليزا رايس في المنطقة... اجتزنا مرحلة خروج كل الأشياء من عقل وحيد، تكفّل عن الشعب بأكمله في اتخاذ القرار الصالح . و رغم أن النظام الحاكم ما زال يتصرّف كثيرا و كأن " شيئا لم يكن .. و براءة الأطفال في عينيه "، فإن الواقع الذي تصوّرت أمريكا أنها تفرضه لصالحها، قد تحوّل إلى صالح الشعب بالتعددية التي كان ينشدها .. و هذا بصرف النظر عن أطراف هذه التعددية الجديدة، فهي بحكم طبيعة الأمور مؤقّتة، ستخلي مكانها لتعدديات أكثر تعبيرا عن مصالح شعب مصر .. و فيما يلي بعض الملاحظات و العظات المستفادة من دوامة تشكيل الوزارة الجديدة

الشاذلي حقق الهدف

رغم مشاركتي في السعادة الغامرة التي عمّت الشارع المصري بالاستغناء عنهما، إلاّ أنني أعفي الشاذلي و سليمان من كل ما ألصق بهما من ذنوب
كمال الشاذلي دخل الوزارة لسبب واضح، هو أن يقوم بكل ما قام به من أعمال نستهجنها ..و كان ذلك هو مبرر تعيينه وزيرا، باعتباره ـ على حد تعبير مسئول في النظام ـ قادر على القيام بكل المهمات الخاصّة التي لا يقدر عليه أحد ممن استكثروا عليه الوزارة . فهل نلومه بعد ذلك، أم نشكره و نكرّمه ؟ .. و لا أعلم من هو صاحب فكرة إسناد المجالس القومية المتخصصة إليه، فهي فكرة مسيئة للشاذلي، و للمجالس القومية، في نفس الوقت ..و هو أمر يعكس نظرة النظام إلى الثروة الفكرية المصرية
وقد ذكّرني مخزن المجالس القومية بمخازن قديمة، مررت بها . فعندما دخلت معركة الدفاع عن مؤسسة المسرح، في وجه محاولات د. حاتم لحلّها، و الاستغناء عنها بمسارح التلفزيون، أطلق إشاعة أنه سينقلني من مؤسسة المسرح إلى الدار القومية.. فأصبحت الدار القومية، و هي الدار الرسمية للنشر في الدولة هي المنفى
و حدث نفس الشيء بعد ذلك، عندما كنت رئيسا لتحرير الكواكب . فقد نقلني السادات مع مجموعة من خيرة الصحفيين و المثقفين إلى هيئة الاستعلامات، فأصبحت هي المنفى الخاص بالسادات
كيف هانت المجالس القومية المتخصصة على النظام الحاكم الحالي، بكل ما تضمّ من خيرة عقول مصر، لتصبح قيادتها في يد المعزولين، كنوع من التعويض السخيف؟
سليمان لم يخدع أحدا

و الرأي عندي أن د. إبراهيم سليمان لم يخدع أحدا .. لقد كان سلوكه معروفا تماما قبل أن يختاره النظام، كبديل للرجل المحترم الأمين حسب الله الكفراوي، الذي رفض أن يتنازل عن احترامه لموقعه و لنفسه، بعكس جميع المشتاقين.. الذين استوزرهم النظام
و الحكومة حرّة في أن تمنح من تشاء ما تراه من الأوسمة و النياشين، فهذه مسائل ليس لها قواعد أو نظم أبعد من مزاج الحاكم و مصالحه. لكنّي أعتقد أن هذه الأوسمة تفقد قيمتها في نظر الجميع عندما تمنح لشخصية أجمع الكثيرون على كراهيتها، و تخضع بطانتها لتحقيقات فساد لا نعلم مدى اتساعها بعد ذلك
و نفس الشيء ينسحب على وزير التعليم الأسبق د. حسين كامل بهاء الدين .. لقد ساهم في التدهور الشديد الحالي في أوضاع التعليم في مصر، و حاول دائما أن يتملّص من مسئولية أفعاله، بترديده الدائم للتعبير المعيب " بفضل توجيهات السيد الرئيس " .. و بدلا من تأنيبه على الانهيار المتواصل للتعليم طوال فترة تولّيه الوزارة، التي كافح بالدموع لإطالتها فترة إضافية .. بدلا من ذلك نعطيه نيشانا

طلائع البلوتوقراطية

نأتي بعد ذلك إلى المسألة التي توقّف عندها أغلب المعلّقين، و هي مسألة إسناد الوزارة لأصحاب رؤوس الأموال من رجال الأعمال . و أنا لست ضد الدماء الشابّة التي اقتحمت دائرة الحكم العليا، و هي بجميع المقاييس أفضل من ديناصورات الحكم التي عرفها و اعتاد عليها النظام الحالي .. و كذلك لست ضد الجهود اليائسة التي يبذلها جمال مبارك من أجل افتعال دور سياسي .. و هي يائسة لأنّه يفتقد الحد الأدنى من القبول الشعبي، و لا يدرك أن النظام الذي يريد أن يرثه، قد استنفذ صلاحيته
هل أصارحكم بسر تخوّفي من سيطرة الأثرياء من رجال الأعمال على الوزارة ؟ أشعر ـ و أرجو أن يكون شعوري كاذبا ـ أن جماعة أمانة السياسات بقيادة جمال مبارك، تمضي على خطي جماعة المحافظين الجد بقيادة ديك تشيني ! . و عندي اسبابي الموضوعية لهذا الشعور .. من بين ذلك عنصر " التقيّة " و التكتّم، الذي يعطي انطباع التآمر في كلّ من الحركتين .. ثم تبنّي نفس نهج قبيلة ديك تشيني. بإعداد مانيفستو يغطّي على الهدف الحقيقي، و محاولة فرضه على يد دعاة ينتهجون الحرفة الأمريكية في فرض الأفكار .. ثم محاولة زرع أعضاء القبيلة في المناصب الهامة و المؤثرة في الدولة، لتسهيل سيطرة القبيلة في مواجهة أي معارضة، عندما تحين لحظة الانقضاض
و أخيرا، يأتي هذا التوجّه لتسليم مقادير مصر لمجموعة من رجال الأعمال الأثرياء، الذين لا نعرف لهم رأيا أو سياسة، سوى قدرتهم على زيادة ثرواتهم الخاصّة .. و كان الأمر سيبدو مقبولا لو أن أمانة السياسات كانت لديها رؤية مستقبلية واضحة، تتيح لها أن تختار الأفراد وفقها، فينتمي إليها الذين يتحمّسون لتلك الرؤية ( أقول هذا و قد درست كافة أدبيات الأمانة الموجودة على الإنترنيت ) . أخشى ما أخشاه أن يمضي جهد الإصلاحيين الجدد إلى التشبّه بالمحافظين الجدد في أمريكا، فيتحول نظامنا السياسي إلى بلوتوقراطية، أي حكومة كبار الأثرياء، بدلا من السعي لإرساء الديموقراطية
أرجو أن أكون مخطئا في تحليلي هذا .. فنحن في أشد الحاجة إلى أمل حقيقي

الوزير المزمن
ماذا يبقى بعد ذلك كلّه ؟ .. قد يكون الوزير المزمن فاروق حسني . و قد أعلن الرئيس مبارك و حرمه خبر بقاء فاروق حسني، قبل إعلان خبر أي وزير آخر، و ربما قبل تحديد رئيس الوزراء أيضا.. و قد تمّ ذلك الإعلان على أوسع نطاق من خلال التوقيت المحكم لافتتاح قصر محمد على .. و ليس هذا بكثير على فاروق .. فإذا كان أنس الفقي ـ على حد قوله ـ قد تخرّج من مدرسة السيدة سوزان مبارك، ففاروق يعتبر معيدا، و ربّما مدرّسا، في تلك المدرسة
و إذا كان النظام يستفيد من جهود الوزير في مجال الآثار، لماذا إذا لا يخترع شيئا من اختراعاته الوزارية، يكون فيه فاروق حسني مسئولا عن الآثار، تاركا الثقافة و هموم الثقافة لأحد عشرات كبار المثقفين، ذوي الفهم و الفكر الأعمق، و القدرة الإدارية، والذين لا يضعون مستقبل الثقافة المصرية رهن المناورات الشخصية، و تكرار خبرات الأجهزة ؟
مجرّد اقتراح، ربما ينفع في الوزارة القادمة