Wednesday, December 29, 2010

الشعب .. و حكم مصر

نهضة مصر- الثلاثاء 27/12/2005

كيف يشارك الشعب
في حكم مصر ؟ ..
سر التخلف المنهجي و الفكري للحزب الوطني

حديثي عن ديموقراطية المشاركة، باعتبارها بديل عصر المعلومات لديموقراطية التمثيل النيابي، ذكّرتني بواقعة طريفة، حدثت على شاشة القناة الأولى للتلفزيون المصري، منذ سنوات عديدة .. و هي توضّح في الحقيقة مدى عزلة قياداتنا السياسية عن التغيرات التي تدور حولنا
بدأت الواقعة باستدعاء من وزير الإعلام السيد صفوت الشريف، و في حجرته وجدتني وسط مجموعة من مثقفي مصر، د. سعد الدين إبراهيم، و د. لبيب رزق يونان، و د. علي الدين هلال . طلب الوزير أن يختار كل واحد منّا يوما من أيام الأسبوع، ليقدّم حديثا على القناة الأولي، بعد نشرة أخبار التاسعة . و كان خامسنا الأستاذ الجامعي د. على راضي، الذي لم يحضر معنا ذلك الاجتماع . و قد أطلقت أوساط التلفزيون على هذه المجموعة تعبير " مجموعة التنوير " . و قد اخترت أن تجري أحـاديثي تحت عنوان " مستقبليات "، الذي كان اسم الباب الأسبوعي الذي أكتبه في مجلة المصوّر، قبل أن ينهي مكرم محمد أحمد ـ رئيس التحريرـ عملي بها، استجابة للنداءات الباكية من وزير التعليم الأسبق

!ديموقراطية .. و ديموقراطية

كنت أتحدّث عن طبيعة النظم الجديدة في مجتمع المعلومات، بالنسبة لكافة المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و كان حديثي في أحد الأسابيع عن " ديموقراطية المشاركة "، و قد حرصت على شرح الفرق بينها و بين ديموقراطية التمثيل النيابي التي ابتدعها المنظرون الأوائل لعصر الصناعة، نتيجة للتضخّم الهائل في عملية اتخاذ القرار، بعد أن تكفّلت الدولة بجميع المهام التي كانت تقوم بها الأسرة الزراعية، من تعليم و علاج و رعاية للكبار .. و أيضا بعد أن قام عصر الصناعة على الإنتاج على نطاق شديد الاتّساع، مستقلا عن الاستهلاك شديد الاتّساع، و قيام السوق بمعناها المعاصر للربط بين الجانبين . و كيف أن هذه الديموقراطية قد أحدثت شرخا في جدار السلطة، دخلت منه أعدادا كبيرة من الطبقة المتوسّطة إلى عملية اتخاذ القرار لأوّل مرّة .. إلى آخر ذلك
في نفس الأسبوع، خطر لي أن أري ما يتكلّم فيه الآخرون، و كان الحديث التالي للدكتور علي الدين هلال .. فوجدته يشرح بالتفصيل الممل، الديموقراطية النيابية، و الفصل بين السلطات التشريعية و التنفيذية و القضائية .. إلى آخر ما هو في مقرر في دروس التربية القومية بالإعدادية .. و في الأسبوع التالي، وجدته ما زال يتكلّم في نفس الموضوع ... فعرفت مدى ثقل المهمة التي تنتظرني
بالمناسبة، عندما سمعت أن د. علي الدين تم اختياره لرئاسة أمانة التثقيف بالحزب الوطني، تذكرت تلك الواقعة، و فهمت سر التخلف المنهجي و الفكري للحزب الوطني

المعلومات .. و تنوّع البشر

ما علينا .. دعونا نعود إلى الحديث عن الديموقراطية اللامركزية، أو ديموقراطية المشاركة و كما أحب أن أوضّح دائما : أنا لا أتكلّم عن أحلام أو أماني، نابعة من مدينة فاضلة .. أنا أقوم بعمل علمي حسابي، أقرأ مؤشرات التغيير
التي يمر بها العالم، و أتفهّم العلاقات المتبادلة بينها، ثم أجتهد في رسم صورة لمختلف مجالات النشاط البشري، وفقا للحياة الجديدة التي تقودنا إليها هذه المؤشرات

مثال ذلك، أسأل نفسي : و لماذا نتنازل عن نظم عصر الصناعة القائمة على المركزية ؟، و لماذا تحلّ اللامركزية محل المركزية ؟ .. فأكتشف أنّه : نتيجة لثورة المعلومات، و تطور تكنولوجيات المعلومات، تنوّع البشر، نتيجة لتنوّع ما أقبلوا عليه من ذلك التدفّق المعلوماتي . تنوّع البشر . لم يعودوا متماثلين متطابقين تقريبا، يكفي أن تتفهّم واحدا منهم حتّى تفهم باقيهم
نفهم ذلك جيدا، إذا تأملنا مجموعة من البشر في قرية من القرى، خلال عصر الزراعة، أو في بدايات عصر الصناعة .. سنجد تقاربا شديدا في أفكار و توجهات و عادات الأفراد، نتيجة لقلة المعلومات المستجدة، و ندرة التغيرات و تباعدها زمنيا . و كان يكفي أن تقابل واحدا منهم حتّى تعرف الكثير عن باقيهم ..لكن، عندما يتنوّع البشر، يتغيّر الوضع .. و تنهار معظم النظم التي اعتمدها عصر الصناعة

المشاركة .. ثقافة عصر

التنوّع الذي طرأ على البشر أسقط أحد أهم مبدأ من مبادئ عصر الصناعة، و هو مبدأ النمطية، الذي يجعلنا ننظر إلى البشر كآحاد متطابقة .. و هو المبدأ الذي جعل من المركزية ممارسة عظيمة، و فن كبير، و مكسب ضخم، طوال عصر الصناعة .. و هو الذي أشاع كلّ ما هو جماهيري، أي كلّ ما يستهدف تنظيم خدمة الآحاد المتطابقة من البشر .. الإنتاج الجماهيري النمطي على نطاق واسع، و الاستهلاك الجماهيري للسلع و الخدمات النمطية، التي تقبل عليها الجماهير النمطية .. و الإعلام الجماهيري الذي يتوجّه لجماهير نمطية، ساعيا إلى مزيد من قولبتها .. و أيضا الديموقراطية النيابية الجماهيرية، و التي تلخّص إرادة و توجّهات و مصالح أبناء الدائرة في نسق نمطي، يعبّر عنه بالتوكيل شخص واحد، هو النائب البرلماني
عندما تنوّع البشر، و اختلفت مشاربهم، سقط مبدأ النمطية و التوحيد القياسي للبشر، فاهتزّت النظم المركزية، و انهارت جميع المؤسسات الجماهيرية .. و كان من بين هذا التعثّر الحالي لديموقراطية التمثيل النيابي عالميا .. و بدأت تظهر بدائل للممارسة السياسية، كان من بينها ديموقراطية المشاركة
و الحقيقة، أن المشاركة لا تقتصر تطبيقاتها على الممارسة الديموقراطية، فهي ثقافة أساسية في جميع مجالات النشاط البشري في مجتمع المعلومات .. فالمشاركة هي ثقافة عصر .. عصر المعلومات

إدارة القطاع الخاص

لقد ظهرت التغيرات الأولى، عند التحوّل من نظم الصناعة إلى نظم المعلومات، في مجال التنظيم الإداري، و بشكل محدد في مجالات النشاط الاقتصادي الخاص . فالقطاع الخاص، أكثر حساسية، في جميع بلاد العالم، من القطاع العام أو الحكومي
لقد شعر مدير الشركة أن النظم التقليدية في إدارة العمل، و التي نجحت كثيرا في عصر الصناعة، لم تعد تعطي نفس النتائج، بل أصبحت تشكّل عائقا أمام نجاح العمل . و اكتشف المدير السر وراء ذلك .. أنّه التغيّر الذي طرأ على الإنسان الذي يعمل في الشركة، لقد أصبح أكثر علما، و أوسع معرفة، و أكثر اختلافا عن غيره من العاملين .. و الأهم من كل هذا أنه أصبح عاملا عقليا معرفيا، لا تحصل منه على أفضل نتيجة إلاّ إذا احترمت إنسانيته، و جعلته شريكا في قرارات العمل .. فظهرت نظم الإدارة الجديدة للغاية، و التي تقوم على المشاركة، و احترام عقل ومزاج الإنسان

هل هي ممكنة عندنا ؟

قد نسمع من يسأل : و هل نحن في وضع يسمح لنا بتطـبيق ديموقراطية المشـاركة عندنا ؟ .. هل وصل وعي
المواطن المصري عند القواعد إلى حد قدرته على اتخاذ القرار السليم ؟ هذا هو ما سنناقشـه فيما يلي من حديث تفصيلي عن ديموقراطية المشاركة .. لكن الأكيد هو أننا سنواجه في القريب بضرورة تصحيح مسار الممارسة الديموقراطية عندنا، بما ينسجم مع التحولات الكبرى التي يمر بها الجنس البشري ..و في هذا المجال، كما في المجال الاجتماعي و الاقتصادي، يفضل أن نبادر نحن بإصلاح مسارنا، بدلا من أن تتدخّل قوى أخرى، و تفرضه علينا، لحسابهم أكثر مما هو لحسابنا

تطبيق ديموقراطية المشاركة عندنا، يعتمد على التالي
أولا : الاستقرار الديناميكي
صدق نية النظام الحالي، النابعة من فهمه أن المشاركة هي سبيل " الاستقرار الديناميكي "، و هو غير استقرار الجمود الذي يتمسّك به
ثانيا : حكم محلي حقيقي
قبول النظام الحاكم لفكرة حكم محلّي حقيقي، و الهبوط بنسبة عالية من مسئولية اتخاذ القرار رأسيا، من القمّة، إلى ما يليها من مستويات، حتّى القاعدة، و أفقيا من دوائر الحكم إلى فئات و تشـكيلات المواطنين النوعية . لتصحيح وضع الديموقراطية النيابية التي أقيمت على الأساس الجغرافي، نتيجة لتأثير المجتمع الزراعي، السابق لمجتمع الصناعة، مخترع تلك الديموقراطية
ثالثا : تجاوز التخلف التعليمي
تجاوز التخلّف الشديد في أدوات التعليم و نظم اكتساب المعارف في مصر .. لا تصدّقوا من يقول لكم أن لدينا الحد الأدنى من النظم التعليمية الضرورية حتّى لو صدر هذا عن وزير، أو رئيس وزراء، أو حتّى رئيس جمهورية ! .. فالتعليم عندنا متخلّف عن الحد الأدنى للتعليم التقليدي الذي ساد عصر الصناعة، و عرفته في طفولتي و صباي.. و هو مناقض لأهم أساسيات التعليم القائم على التفكير و الابتكار و إعمال العقل، و الاعتزاز بالاختلاف عن الآخرين، ممّا يتيح لنا أن نلحق بمسيرة عصر المعلومات
رابعا : مجتمع مدني حرّ
السماح بنشاط حرّ لجمعيات المجتمع المدني، في القواعد، و في التجمعات المهنية و الحرفية
خامسا : تعميم ثقافة المشاركة
تعميم ثقافة المشاركة في الإدارة، في المدارس و الجامعات, و المؤسسات الاجتماعية

* * *

لمن يريد أن يعرف المزيد عن ديموقراطية المشاركة، أو الديموقراطية المتفقة مع احتياجات و طبيعة مجتمع المعلومات، يمكن الاتصال بي شخصيا لأرسل المادة المطلوبة على عنوان الميل الخاص بالمتصل
راجي عنايت
renayat@gmail.com

Friday, December 17, 2010

في مواجهة مأساة 2010

نهصة مصر – عام 2004

ـــــــــــــــــ
خطاب موجّه إلى القوى الوطنية
الباحثة عن مخرج من المأزق الحالي
ومن ثم ليس موجها إلى
الحزب الوطني الديموقراطي و دعاته
ــــــــــــــــ


رفع الشعارات
هربا من البحث عن منهج


عندما تتزايد الضغوط على العقل المصري : الضغوط الداخلية متمثلة في تدهور الوضع الاقتصادي و السياسي الذي أصبح انشغالا عاما، يشيع القلـق في نفوس عامة المصريين ( أقصد بالعامة غير المستفيدين من ذلك التدهور )، و الضغوط الخارجية متمثلة في التدخّل الأمريكي المتصاعد، و الوباء الإسرائيلي المستفحل .. أقول كلّما تزايدت هذه الضغـوط تذكّر الجميع أننا في حاجة إلى شيء، وبدأنا البحث عن ذلك الشيء
و للأسف يتمخّض هذا الشيء، كما هو حادث هذه الأيام، عن شعارات نستنبطها من جوف التاريخ الخاص و العام، تشكّل احتياجات مشروعة، و يكون لها بريقها، لكنّها لا تصلح منفردة أو مجتمعة أساسا لمواجهة التخلّف الحضاري الذي نعيشه . شعارات يبدو بعضها جديدا، نزعت عنه بطاقة المنشأ حديثا، مثل شعار المواطنة، و الجودة و التميّز.. و يبدو البعض الآخر خارجا من جوف المدارس الفكرية القديمة، مثل الليبرالية، و حقوق الإنسان، و تداول السلطة، و الشفافية، و أخيرا النهضة
و أسـجّل هنا أن هذه الشعارات جميعا يشكّل كلّ منها مطلبا إيجابيا مشروعا . لكنّها جميعا ـ أكررّ جميعا ـ لا تصلح أساسا لتجاوز الهوّة الحضارية بيننا و بين الدول التي سبقتنا بخطوات واسعة و نجحت في تطبيق احتياجات مجتمع المعلومات
عيب هذه الشعارات ـ الوحيد ـ هو أنّها تشكّل مهربا مشروعا من محاولة البحث عن منهج فكري، يتيح لنا أن نضع رؤية مستقبلية شاملة لمصر . رؤية تحقّق لنا
أولا : فهم التغيّرات الجذرية الكبرى التي يمر بها المجتمع البشري حاليا
ثانيا : فهم العلاقات متبادلة التأثير بين هذه المتغيرات
ثالثا : فهم أسس إعادة البناء في مختلف المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية، و الأولويات التي يجب أن نلتزم بها في دخولنا مجتمع المعلومات لكي نستفيد من دفع الزمان، وفقا للواقع الصادق الأمين لمصر حاليا

* * *

و لكن، ما هي العقبات التي تقف في وجه التوصّل إلى المنهج المناسب لوضع الرؤية المستقبلية الشاملة لمصر ؟، و هل هي عقبات في مقدورنا ـ كمصريين ـ تخطيها ؟
المنهج الذي أدعو إلى اكتشافه و الاعتماد عليه، لا ينبت من جهد فردي لأذكى الأذكياء، و لا تقدر عليه بيروقراطيات الحكومة المصرية بكلّ ما تضمّه من كفاءات، و لا يمتّ بصلة لاجتهادات المستويات المختلفة للأحزاب المصرية .. و هو بالقطع يخرج عن جهد و نيّة جميع المستفيدين ـ اقتصاديا ـ من الأوضاع الحالية، من الحكومة أو القطاع العام أو الخاص
* * *
منذ أكثر من عشرين سنة، ظهر لي كتاب " أفيقوا يرحمكم الله .."، يتضمّن بالتفصيل المنهج الذي يتيح للإنسان العربي أن يفكّر في مسـتقبل مصر ضمن المستقبل العام للبشرية في إطار التحوّل إلى مجتمع المعلومات . و قد تضمّن محاولات لرسم صورة الحياة خلال عصر المعلومات في : التعليم، و الإدارة، و الاقتصاد، و الممارسة الديموقراطية، و الإعلام . حاولت في ذلك الكتاب أن أطرح منهجا للتفكير في التحوّلات الحاضرة التي يشهدها الجنس البشري، و في مستقبل هذه التحوّلات
و الآن، بعد مرور كلّ هذه السنوات، أجد أن مسار التفكير في مستقبل مصر لم يتقدّم خطوة واحدة عمّا كان عليه الحال في ذلك الوقت . معظم المفكّرين و الكتّاب و رجال السياسة في مصر، و في العالم العربي أيضا، مازالوا يتصوّرون أن بإمكانهم الاعتماد على دراساتهم و خبراتهم القديمة في التصدّي لفهم الواقع الجديد و التعامل معه، و في التوصّل إلى حلول للمشاكل الحالية المتفاقمة . إنّهم لا يتصورون إن المساطر القديمة التي كانوا يقيسون عليها الأمور قد سقطت، و أن دراساتهم العالية لأصول و مقتضيات الحياة في عصر الصناعة، و خبراتهم الطويلة في التعامل مع المجتمع الصناعي، لن تفيدهم في التعامل مع المشاكل الحالية الناشئة عن التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات
هل كان من الممكن لمفكّر أو خبير في عصر الزراعة، و في أوضاع و أحلام و مشاكل المجتمع الزراعي، أن يتعامل مع حقائق عصر الصناعة، التي فرضت انقلابا تاما في الأوضاع و الاجتماعية و السياسية ؟ ! .. هل كان ذلك من الممكن، لو لم يبدأ ذلك المفكّر في دراسة مرحلة التحوّل التي قادت إلى قيام المجتمع الصناعي، و الأسس و المبادئ و العقائد الجديدة لهذا المجتمع ؟
نحن الآن في نفس الموقف، لا يمكننا أن نتعامل مع حقائق و مشاكل و مستجدّات مجتمع المعلومات، اعتمادا على خبراتنا المستمدّة من عصر الصناعة، و دون أن نفهم مرحلة التحول الحالية، و الأسس و المبادئ و العقائد الجديدة لمجتمع المعلومات، و التي تختلف ـ بل تتناقض ـ مع تلك الخاصّة بالمجتمع الصناعي
إحجامنا عن هذا الجهد الفكري لاستنباط المنهج المناسب، هو الذي يلجئنا إلى الشعارات
راجي عنايــت

Sunday, December 12, 2010

مناورات التلاعب بالمعلومات

عالم اليوم ـ 1997 ـ راجي عنايت
! .. أسطورة : حقّ الجمهور في أن يعرف

أعيد نشر هذا الموضوع بمناسبة الضجّة التي يثيرها
موقع ويكيليكس


ما الذي يجري ؟ .. هذا السؤال البسيط، يعتبر حقّا شرعيا لأي مواطن، خاصّة إذا كان في دولة تزعم أنها تتمسّك بالديموقراطية. لكن الواقع، على مستوى العالم أجمع، يقول أن معرفة حقيقة ما يجري ليس أمراً سهلاً في عالم اليوم، رغم أننا نعيش عصر وسائل الإعلام السريعة، أو الفورية إذا شئنا الدقّة . والسرّ في هذا ، هو ما يتم من مناورات و تكتيكات التلاعب بالمعلومات . حول هذا الموضوع، يقول الكاتب المستقبلي آلفن توفلر، في كتابه تحوّل القوّة : .. و مع احتلال المعرفة، بكل أشكالها، مكانة أكثر محورية في صراع القوّة، ومع تراكم البيانات و المعلومات و المعارف، و تدفّقها من أجهزة الكمبيوتر، تصبح(التكتيكات المعلوماتية) ذات دلالة متزايدة في حياتنا السياسية
و إلى أن نعيد النظر في أكثر إفتراضاتنا جوهرية حول الديمقراطية النيابية الجماهيرية، التي ابتدعها المجتمع الصناعي، و التي تعتمد على التمثيل السياسي و الأحزاب، و تسمح بممارسة هذه التكتيكات المعلوماتية.. سيظل الحديث عن" الحكومة الأمينة الصريحة"، و حول" المواطن القادر على الوصول إلى المعلومات"، وحول" حقّ الجمهور في أن يعرف"، سيظل هذا الحديث مجرّد لغو لا علاقة له بما يجري في الواقع

وثيقة ليندون جونسون

في 4يوليو من عام 1967، وقّع الرئيس الأمريكي ليندون جونسون، في البيت الأبيض، وثيقة حول حرّية تداول المعلومات . و في حفل التوقيع، قال: تعتبر حرّية المعلومات شديدة الحيويّة، إلى حدّ أن التحفّظ عليها يجب ألاّ يتم إلاّ فيما يتّصل بالأمن القومي، و ليس لمجرّد رغبة الموظفين العموميين، أو بعض الأفراد من المواطنين
ما أن أنهى جونسون حديثه، حتّى سأله أحد المراسلين عمّا إذا كان بالإمكان حصوله على نسخة من النصّ الأصلي الذي إعتمد عليه في حديثه، و في ملاحظاته التي أبداها حول حرّية المعلومات . كان ذلك أوّل طلب يتلقّاه جونسون، إمتحانا لصدق أقواله حول حرّية المعلومات الجديدة، فلم يفعل سوى أن أبدى إستهجانه و تسخيفه لهذا الطلب
لقد مارس جونسون هنا تكتيك السرّية، و هو من أكثر التكتيكات شيوعا، في جميع الحكومات . أسهل شيئ على الحكومة، أي حكومة، أن تصف كلّ شيئ بأنّه(سرّي للغاية)، و أنّه من الأسرار العليا للدولة . وهذه السرّية هي السبيل لممارسة الحكم الغاشم و الفساد . و عملية التلاعب بالمعلومات و البيانات تتم على أربعة مستويات : مرسل الرسالة - القناة التي تسلكها- مستقبل الرسالة - مضمون الرسالة

المصدر غير المكشوف
وتوجيهات الرئيس

أوّل مجال لتدخّل اللاعب في صراع السلطة، هو مرسل الرسالة، أو المصدر . عندما يصل خطاب بالبريد، أوّل ما نطّلع عليه عادة هو مرسل الخطاب . ذلك لأن هويّة مرسل الخطاب تشكّل في واقع الأمر جانباً حيوياً من أيّ رسالة . فمعرفة المصدر، تساعدنا-على الأقل- في تقدير مدى المصداقية التي نوليها لهذه الرسالة . و هذا هو السرّ في كثرة استخدام الحكومات لما يطلق عليه : تكتيك المصدر غيرالمكشوف
و تغطية المصدر الحقيقي للرسالة قد يتخذ أشكالا عديدة . و يلعب المسئولون في مجالات العمل والحكومة تنويعات على هذه اللعبة . مثال ذلك، استخدام الشخص، صاحب الرتبة الأقل، إسم رئيسه لكي يحقّق مكسبا، و يضيف قوّة إلى كلامه . كأن يحرص المسئول على القول في كل مناسبة أن ما يفعله هو بتوجيهات من الرئيس .. و خير مثال لكثرة ترديد هذه الحيلة، هو ما كان يفعله وزير التعليم الأسبق حسين كامل بهاء الدين، فكان يختم حديثه دائما بعبارة : بفضل توجيهات السيد الرئيس

القنوات الخلفيّة و الحرب الثالثة

كلّ الرسائل تتحرّك عبر قنوات، إلاّ أن بعض هذه القنوات يختلف عن باقيها . و كلّ مسئول أو مدير يعرف أن القناة التي تحمل رسالته، هي التي تحدّد الشخص الذي سيتسلّمها، و من ثمّ يعتمد نفوذه في الحكومة أو المؤسّسة على ذلك . و من المعروف، أن عزل المسئول أو الموظّف عن القنوات، هو السبيل لإضعاف سلطته و نفوذه . و في كثير من الأحيان، يتعرّض لهذا العزل الشخص الذي يتربّع على قمّة الحكومة أو المؤسّسة
و من أشهر وقائع الإعتماد على تكتيك القنوات الخلفية، تلك الواقعة التي منعت قيام الحرب العالمية الثالثة . تمّ ذلك خلال أزمة الصواريخ الكوبية . كانت الرسائل تنطلق جيئة و ذهابا، بين الرئيس كينيدي وخروتشوف، بينما العالم يمسك أنفاسه، مترقّبا في خوف
كانت الصواريخ الروسـية في كوبا موجّهة إلى الأرض الأمريكية، فأمر كينيدي بحصار بحري لكوبا . في لحظة التوتر الشديد هذه، أرسل خروتشوف رئيس جهاز مخابراته إلى واشنطن، ليتّصل بالصحفي الأمريكي جون سكالي، الذي كان رجل المخابرات السوفييتي على معرفة سابقة به
في اليوم الرابع للأزمة، مع تصاعد الخطر لحظة بلحظة، سأل الروسي ذلك الصحفي الأمريكي، عن رأيه فيما إذا كانت الولايات المتّحدة الأمريكية ستوافق على عدم غزو كوبا، إذا ما سحب السوفييت صواريخهم و قواعدها من كوبا . هذه الرسالة التي أوصلها الصحفي إلى البيت الأبيض، ثبت أنّها كانت مفتاح نقطة التحوّل في الأزمة
و من الأساليب الأكثر تعقيدا، ما يمكن أن نطلق عليه،"تكتيك القناة المزدوجة"، الذي يتضمّن إرسال رسالتين مختلفتين، قد تكونان متناقضتين، عبر قناتين مختلفتين ، لاختبار ردود الفعل، أو لبث الإرتباك بين مستقبلي هاتين الرسالتين . و أحدث مثال لهذا، ما يفعله بنيامين نتنياهو في مفاوضاته مع الفلسطينيين

التلاعب في استقبال الرسالة

بعد التلاعب في المعلومات على مستوى المصدر و القناة، نصل إلى التكتيكات المتّصلة بالشخص الذي يستقبل الرسالة، أو الطرف الآخر في عملية الإتّصال " تكتيك النفاذ "، هو أكثرها شيوعا
يحاول فيه الشخص أن ينفذ إلى رئيسه، مستهدفا التحكّم في المعلومات التي يستمدّها من ذلك الرئيس . و هي حيلة يعرفها و يمارسها كبار المديرين، كما يمارسها صغار القائمين على أعمال السكرتارية
أمّا "تكتيك تخصيص المعلومات أو المعارف"، فهو الذي يشيع في أوساط أجهزة المخابرات، والحركات السرّية الإرهابية . و فيه يجري تخصيص مجموعة من البيانات و المعلومات و المعارف، و حجبها عن الجميع، باستثناء عدد محدود من المستقبلين، يتاح لهم التوصّل اليها
و هذا هو بالضبط عكس "تكتيك تخصيص عدم المعرفة"، و يفيد عدم وصول المعلومات إلى شخص معيّن، أو جهة معيّنة . و يشيع استخدام هذا التكتيك على يد الرجل الثاني في أي موقع، لحماية رئيسه، الذي يمكن أن ينكر معرفته بالموضوع، إذا ما ساءت الأمور
و من نفس الفصيلة، "تكتيك الإرغام على المعرفة"، أو حماية الظهر . و فيه يسعى الباحث عن القوّة أو السلطة إلى التأكّد من أن الشخص الآخر قد أعلم بالموضوع، بحيث يشركه في اللوم، إذا ما ساءت العواقب

! تنويعات الخداع، و خداع الذات

الكمّ الهائل من المعلومات الذي يتدفّق عبر العقول المفكرة في الحكومة أو المؤسسة يومياً، يخضع لما لا نهاية له من تنويعات الخداع، و خداع الذات، التي تستهدف جوهر الرسالة المنقولة و مضمونها . و قد أجرى آلفن توفلر حصرا طريفا لهذه التكتيكات، كالتالي
تكتيك الحذف : لأن الأمور السياسية غالبا ما تكون نقاشية و ذات أوجه، يجري إختيار الرسائل بطريقة واعية، مع الإعتماد على العديد من الثغرات، التي تتيح للشخص أن يطبّق هذا التكتيك، حاذفا الحقائق المضادة، أو التي تهدّد أهدافه
تكتيك التعميم : بإخفاء التفاصيل التي يمكن أن تقود إلى خلق معارضة سياسية أو بيروقراطية . والعلاقات الدبلوماسية حافلة باستخدامات هذا التكتيك
تكتيك التوقيت : بتأجيل تسليم الرسالة، حتّي يكون الوقت متأخرا لفعل أي شيئ من جانب المستقبل . وخير مثال لهذا ما تفعله الحكومة من تقديم مشاريع القوانين إلى مجلس الشعب في آخر جلسة من الدورة البرلمانية، لضمان تفويتها
تكتيك التنقيط : هنا يتمّ الإفراج عن البيانات قطرة بقطرة، على أوقات متباعدة، بدلا من جمعها في مستند واحد، بهدف تفتيت نسق الأحداث، و بحيث لا تبدو الأمور بالوضوح المطلوب لدى المستقبل
تكتيك الإغراق : عندما يشكو المسئول من أنه محروم من المعلومات المطلوبة لعمله، يعمد اللاعب الماكر إلى إغراقه بطوفان من الأوراق، يتوه فيها، و يصعب عليه استخلاص الحقائق من بينها
تكتيك الدخان : فيه يتمّ إطلاق سحابة من دخان الشائعات، تتضمّن بعض الحقائق، بحيث يصعب على المستقبل أن يميّز الحقيقي من الزائف
تكتيك الضربة المرتدّة : هنا، يتم زرع قصّة زائفة في دولة بعيدة أو مكان بعيد، بحيث يمكن إلتقاطها من هناك، و إعادة نشرها في الصحافة المحلّية . و هذا التكتيك تعتمد عليه كثيرا أجهزة المخابرات و وكالات الدعاية
تكتيك الكذبة الكبيرة : إكتسب هذا التكتيك شهرة واسعة على يدي جوزيف جوبلز، وزير دعاية أدولف هتلر. الفكرة في هذا التكتيك أن الكذبة إذا كانت كبيرة بدرجة كافية، يصبح الناس أميل إلى تقبّلها، بعكس حـالة العديد من الأكاذيب الصغيرة . من ذلك، التقرير الذي نشرته موسكو عام 1987، و الذي يتضمّن أن وباء الإيدز العالمي أطلقته من عقاله وكالة المخابرات الأمريكية، خلال تجاربها التي تجري في ميريلاند للحرب البيولوجية . و عندما تمّ كشف زيف هذه القصّة، سارع العلماء السوفييت إلى إستنكارها
تكتيك العكس : و يتمّ فيه عكس الرسالة لتعطي ما هو مضادّ لمضمونها الأصلي . و خير مثال لهذا، ما حدث في إسرائيل في وقت وزارة إسحق شامير، الذي كان الحب مفقوداً بينه و بين وزير خارجيته شيمون بيريز . ذات يوم أصدر شامير تعليماته إلى وزارة الخارجية، لكي تبلّغ سفاراتها في أنحاء العالم أن بيريز ليست له سلطة تنشيط جهود عقد مؤتمر دولي للسلام . تلقّي مكتب بيريز الرسالة، فألقيت ببساطة في سلّة المهملات، و جرى إرسال برقيّات إلى السفارات، تحمل عكس هذا التوجّه . عنما إستنكر أحد المسئولين بالخارجية هذا الإجراء، كانت إجابة مكتب بيريز: كيف تطرح مثل هذا؟ ..ألا تدري ؟، إنّها حرب

صراعات القوّة، و مذبحة الحقائق

الذي يمكن أن نأخذه مأخذ الجد من التصريحات و الرسائل، أو"الحقائق"، في الحياة الحكومية أو السياسية، هو أقل القليل . بل لا يكاد يوجد في هذا المجال ما هو خال من تأثيرات صراع القوّة
معظم البيانات و المعلومات و المعارف، التي تتدفّق في أروقة الحكومة و مكاتبها، تخضع لدرجة عالية من المعالجة السياسية . لو تساءلنا : لمصلحة من تتمّ هذه المعالجة و هذا التحوير و التبديل ؟، فإننا لن نصـل إلى الإجابة الصحيحة عن هذا التساؤل، سنظل غير قادرين على الغوص إلى الحقائق الكامنة خلفها
بالطبع، يحدث هذا قبل ان تبدأ وسائل الإعلام عملياتها التالية، في إعادة صياغة "الحقائق المحرّفة"، بحيث تتّفق مع متطلّباتها . فالرسالة الإعلامية، في جميع وسائل الإعلام المقروء و المسموع و المرئي، تحمل المزيد من :تحريف الحقائق

الذي لا يعرفه المسئولون

عواقب هذا الذي تحدثنا عنه، تنصبّ على جوهر العلاقة بين الديمقراطية و المعرفة
فالشرط المسبق للممارسة الديموقراطية، هو أن يكون الجمهورعارفاً، مزوّداً بالمعلومات و الحقائق . وما تقوم به الحكومة و الأحزاب من مناورات و تكتيكات معلوماتية، يجعل الجمهور غير قادر على ممارسة الديموقراطية الحقّة
إن ما استعرضناه في هذا المجال، لا يشكّل سوى القليل من الحيل و الخدع التي يمارسها السياسيون والمسئولون في جميع عواصم العالم . فالأذكياء من السياسيين و البيروقراطيين، يعلمون أن البيانات والمعـلومات والمعارف عبارة عن أسلحة قتالية، مشحونة بالذخيرة، متأهّبة للإنطلاق، على أرض صراعات القوّة، التي تشكّل جوهر الحياة السياسية
لكن، الذي لا يعرفه معظم المسئولين و السياسيين، هو أن كلّ هذه الألاعيب و الحيل، لاتخرج حاليا عن كونها عبث أطفال . فالصراع على القوّة و النفوذ تتغيّر طبيعته و آليّاته بدخولنا إلى مجتمع المعلومات، حيث السبيل الرئيسي للقوّة، الوصول إلى معارف عن المعارف الشائعة

Saturday, December 4, 2010

مسيرة التدهور و الضياع

نهضة مصر – الثلاثاء 8 / 11 / 2005

! ما أشبه الليلة بالبارحة
.. في مثل هذه الأيام منذ خمس سنوات كتبت هذه الكلمات
و ما زلنا نمضي ـ بخطوات أوسع بكثير ـ في نفس مسيرة التدهور و الضياع
.. فما أشبه الليلة بالبارحة

..مولد الانتخابات
و الشعب الذي تاه يا أولاد الحلال

مولد الانتخابات اقترب من ليلته الأخيرة، و توزّعت الخيام على الساحة، و وقف صاحب كل خيمة على بابها يتغنّى ببضاعته، و يدعو الجميع إلى عجيبته التي ينفرد بها عن الآخرين .. البعض حليق الرأس، و البعض الآخر يعتمر العمامة، أو القبعة العالية، أو الحطّة و العقال .. حشود من المهرّجين و البهلوانات و نافثي النيران . و عندما تقترب الليلة من نهايتها، تخفت الأصوات، إلاّ من غناء كالأنين ينادي على الشعب التائه، الذي ضاعت مصالحه في صخب ذلك المولد
ليس هذا مجرّد تشبيه، بل هو وصف دقيق لما يحدث في الانتخابات البرلمانية الحالية، المرشّحون يعلنون عن برامج ليس لها صله بصالح مستقبل هذا الشعب، و لكنّهم يسعون إلى صوته ـ الصلة الوحيدة التي تربطهم به ـ بكل الوسائل الممكنة، بالأحلام الوردية الساذجة، و الوعود الكاذبة .. و أحيانا بالضغط و القهر و التهديد، و أحيانا أخرى بالتزوير و التدليس

! تدليع الانتهازية

و ليس في هذا من جديد، فهو تكرار دقيق للسيناريو المعمول به في جميع الانتخابات البرلمانية المصرية، قبل الثورة و بعدها
الجديد في الأمر أن شباب أمانة السياسات بقيادة جمال مبارك يقومون بنفس المناورات الانتخابية الانتهازية، غير المبدئية، التي تعودّنا عليها من شيوخ الحرس القديم، بقيادة أستاذ اللعبة كمال الشاذلي .. الفارق الوحيد هو أن شباب جامعة هوبكنز، و تلامذة فوكوياما، و صبيان الحملات الانتخابية للمرشّحين الأمريكيين، يطلقون على هذه الانتهازية لفظ " البراجماسية " أو " البراجماتية "، و هو كما يبدو أقل جرحا للكرامة .. بل أدعى للاعتزاز باعتبار أن البرجماسية، أو الذرائعية، هي فلسفة الشعب الأمريكي الرائد (!)، و كان قد صاغها ديوي لتنسجم مع طبيعة تشكيل ذلك الشعب فاقد الأصول و الركائز، لتكون دستورا مناسبا لذلك التجمّع البشري الوافد من كل مكان .. و فلسفة الذرائعية ـ لمن لا يعرف ـ تعتبر كل ما هو نافع و مفيد خيرا، و كل ما ينتقص الفوائد و المنافع شرّا .. و هي لتي تقول أن الله يكون موجودا لو كان نافعا .. و هي أصل التعبير الشائع عند الساسة السذّج " محور الشر "، ليطلق على كل من يقف في وجه المصالح الأمريكية
هل تعرفون السر في هذا الارتماء السريع من جانب جمال مبارك و شبابه في أحضان الممارسات السياسية للحرس القديم ؟ .. إنّه غياب الفكر و المنهج و الرؤية المستقبلية لمصر عند القديم و الجديد معا .. ذلك الغياب الذي لا تنفيه عشرات المؤتمرات التي تعقدها أمانة السياسات، و لا مئات الصفحات التي تطرح برامجها.. والتي ثبت أنها نفس برامج الحزب الوطني التقليدية، مع المزيد من تقنين النهب الاقتصادي لمصر

الأحلام و الأماني، لا تكفي

برامج الحزب الوطني، و أمانة السياسات أيضا، عبارة عن تجميع أحلام و أماني، و طرح نتائج جرد لكل التوصيات التاريخية، التي يعرفها جيدا من يوكل إليهم تدبيج تلك البرامج في المناسبات المختلفة، من فلول مدرسة "منظمة الشباب"، التي استولت على مقاليد و وزارات مصر على مدى العديد من العقود، رغم وقائع الفشل المتكررة التي ارتبطت بجهدهم، و رغم الأفكار الفاشية لمعظمهم
أعود و أكرر، للمرّة الألف، أن أي برنامج يوضع لمستقبل مصر، يجب أن يقوم على أمرين
أولا : فهم لطبيعة التحوّل من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات . و إدراك للنظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي يقوم عليها مجتمع المعلومات
ثانيا : فهم للخريطة الحضارية الراهنة لمصر.. إلى أي مدى تسود أهلها قيم عصر الزراعة، و إلى أي مدى تسود قيم عصر الصناعة، و إلى أي مدي قد اقتربوا من واقع مجتمع المعلومات
ثم علينا أن نفهم جيدا أثر التكنولوجيات الابتكارية الكبرى، كالآلة البخارية في عصر الصناعة، و الكمبيوتر في عصر المعلومات .. أثرها على النظم و القيم الجديدة التي تأتي بها لتحل محل النظم و القيم النابعة من المجتمع السابق
للمزيد من الوضوح أطرح مثالا واضحا ـ لا خلاف عليه ـ من تاريخ البشر

العبودية و الرقّ

لقد كانت العبودية، بمعنى ملكية إنسان للحم و دم و عظام إنسان آخر، أمرا مقبولا و مأخوذا به، و متوافقا مع احتياجات العمل و الاقتصاد الزراعي، على مدى عشرة آلاف سنة .. كانت طبيعة العمل و العلاقات في المجتمع الزراعي قابلة للرقّ، و لا يستنكره سوى قلّة من المفكرين و الأدباء والشعراء، و رافعي لواء حرّية الإنسان
لقد تمرّد العبيد على حياتهم البائسة أكثر من مرّة على مدى التاريخ، و ساندهم في هذا العديد من الحالمين بالحرية .. و ظهر المتمرّد الأكبر سبارتاكوس ليقود ثورة للعبيد، التي ما لبثت أن خمدت، وبقي نظام العبودية أو الرق أو السخرة الكاملة كممارسة طبيعية في المجتمع الزراعي
و الملاحظ، أن الأديان السماوية الثلاثة، اليهودية و المسيحية و الإسلام، لم تحرّم امتلاك العبيد ! ,, ربّما تكون قد طلبت الرحمة بهم، و حاولت تذكير مالك العبد أنّه يتعامل مع إنسان، غير أنّها أقرّت العبودية باعتبارها احتياجا اقتصاديا لعصر الزراعة، الذي ظهرت خلاله الأديان الثلاثة

الحرب الأهلية الأمريكية

و أمريكا .. حلم البشر التي هاجر إليها المغامرون و المضطهدون و الحالمون و المجرمون و الخارجون على القانون، القادمون من مختلف أنحاء العالم، و اعتبروها أرض الميعاد بالنسبة إليهم .. سرعان ما قامت فيها أكبر أسواق النخاسة في العالم، يتدفّق إليها زنوج أفريقيا، مكبّلون بالسلاسل بعد اختطافهم، ليعانوا من السخرة في حقول القطن .. شاعت العبودية في أمريكا، و بخاصّة في الشقّ الجنوبي منها
ظلّ هذا هو قدر العبيد، إلى أن تم اختراع الآلة البخارية، المقدمة الأولى لعصر الصناعة، و السبيل لانتشار المصانع المعتمدة على هذه التكنولوجيا، و ما تطوّر عنها من تكنولوجيات كهروميكانيكية، أكثر تطوّرا
في البدايات الأولى لأمريكا، تركّزت الصناعة في الشمال، و بقي الجنوب زراعيا في معظمه.. يعتمد في اقتصاده على القوّة العضلية للزنوج الذين كانوا يجلبون قسرا من أفريقيا، ليعملوا كعبيد في المزارع . و هذا يعني تناقضا أساسيا في بنية الدولة الأمريكية، و تمزّقا بين النظم الزراعية و النظم الصناعية، مع كل التناقض بينهما
و من هنا قامت الحرب الأهلية الأمريكية، في حقيقة أمرها، بين الشمال الصناعي و الجنوب الزراعي .. قامت لتجيب على سؤال حول مستقبل أمريكا : هل ستبقى أمريكا زراعية أم ستصبح صناعية ؟
و عندما انتصر الشمال الصناعي، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية دولة صناعية، تمضي في صناعتها و زراعتها وفق أسس و مبادئ و تقاليد المجتمع الصناعي .. هنا فقط، بدأ اسـتغناء أمريكا عن نظام العبـودية .. متى ؟، عندما لم يعد العمل و الاقتصاد الصناعي في حاجة لامتلاك العبيد .. أو بمعنى أكثر دقّة، لم يعد يحتاج إلى هذا النوع من امتلاك الجسد، فقد كانت لعصر الصناعة أساليبه الخاصّة في استعباد العامل على خطوط التجميع

الآلة البخارية .. كرمز

و كما كانت الآلة البخارية هي رمز عصر الصناعة، ظهر الكمبيوتر ليصبح رمزا لعصر المعلومات
و أعود إلى ما سبق أن قلته من قبل .. التكنولوجيات الابتكارية الكبرى، مثل الآلة البخارية و الكمبيوتر، تبدأ بأن تحل محل الجهد البشري للإنسان فيما يقوم به، ثم تتطوّر لتتجاوز ما يقوم به الإنسان، أم ما يمكن أن يقوم به مستقبلا، و أخيرا يحدث الأهم ـ و الذي يهمنا أن نتذكّره ـ و هو أن تطوّر هذه التكنولوجيا الابتكارية يقود إلى تغيير النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية القائمة، و تحويلها إلى نظم جديدة تماما
و عندما أقول أن الآلة البخارية ـ و ليس سبارتاكوس ـ هي التي حررت العبيد و أنهت الرق في حياة البشر، فأنا لا أقصد الآلة البخارية ذاتها، و لكن أعني النظم التي فرضتها من خلال النظام الصناعي الذي استند إليها، و جاءت مختلفة تماما عن نظم مجتمع الزراعة، التي كانت ترى أن حاجتها الاقتصادية تبرر نظام الرقّ

.. باختصار

أولا : جميع البرامج المطروحة في هذا المولد الانتخابي، لا تنبع من رؤية مستقبلية حقيقية لمصر .. بل أن جانب كبير منها متناقض مع مصالح مصر على المدى القريب و البعيد
ثانيا : الفساد السياسي و الإداري و الأخلاقي الذي يسود هذه الانتخابات، و ينخرط فيه معظم المرشّحين، يهدم أساس و جوهر الممارسة الديموقراطية
ثالثا : كما جاء النظام الصناعي لينسخ نظام العبودية و الرق، جاء مجتمع المعلومات لينسخ هذا الشكل الأثري للممارسة الديموقراطية، الذي اخترعه رواد الصناعة تحت اسم ( ديموقراطية التمثيل النيابي )، و ليطرح شكلا جديدا للممارسة الديموقراطية، بتناسب مع معلومات و ثقافة إنسان عصر المعلومات .. أعني بذلك الديموقراطية الأمل .. ديموقراطية المشاركة