Thursday, February 25, 2010

إدارة جديدة لمجتمع المعلومات

عالم اليوم ـ 1989 ـ راجي عنايت

.. الإدارة في مجتمع المعلومات
! من الجيش، إلى الأوركسترا

مجرّد إعتماد المؤسّسة على التكنولوجيا المعلوماتية المتطوّرة، لا يعني إنها أصبحت قادرة على مواجهة التغيّرات التي طرأت على مجال العمل . مع التغيرات الشاملة التي سادت حياة البشر، على مدى العقود الأخيرة، لم يعد بإمكان المؤسّسة ـ و خاصة الكبيرة ـ في مجال الأعمال و التنظيمات الحكومية، أن تواصل نشاطها بشكل ناجح دون أن تعيد بناء ذاتها بشكل كامل على أسس معلوماتية
و في هذا يقول الكاتب المستقبلي و خبير الإدارة المتطوّرة بيتر دراكر : يتحرّك مركز الثقل في العمالة بشكل سريع، من العمالة اليدويّة و المكتبية، إلى عمالة معرفيّة تقاوم نموذج العمل بالتحكّم والإنضباط والأوامر من أعلى، الذي إستمدّه النشاط الإقتصادي من النموذج العسـكري، منذ سنوات عديدة
و هو يوضّح هذا بقوله أن رجال الأعمال - في بداية إزدهار المجتمع الصناعي - لم يجدوا حولهم في مجال التنظيم و الإدارة سوى التنظيم الكبير الدائم للجيش . لذلك لم يكن مستغرباً أن يصبح نظام التحكّم و الأوامر النموذج الأمثل للقيادات التي تكفّلت بإنشاء شبكات السكك الحديدية، و مصانع الصلب، و البنوك الحديثة، و المتاجر الكبرى . و نموذج التحكّم بالأوامرهذا، الذي يقوم على قلّة صغيرة للغاية في القمّة تصدر الأوامر لأعداد ضخمة للغاية عند القاعدة تطيع هذه الأوامر، بقي مأخوذا به على مدى ما يزيد عن مائة سنة

وظيفة إجتماعيّة جديدة

و فيما بعد الحرب العالمية الثانية، بدانا ندرك أن الإدارة ليست مجرّد إدارة النشاط الإقتصادي، وأنّها تتجاوز هذا إلى كلّ مجهود بشري يضم مجموعة متباينة المعارف والمهارات في مؤسّسة واحدة . فكان أن إتّسع نطاق الإدارة ليتجاوز المؤسّسات الحكومية و الإقتصادية، لكي يتضمّن المستشفيات و الجامعات وغير ذلك من المنظّمات الثقافية و الفنّية و الدينية و الإجتماعية، التي تجاوزت في نموّها و إنتشارها المؤسّسات الإقتصادية و الحكومية بعد الحرب العالمية الثانية . حتّى بالنسبة لجماعات النشاط التطوّعي، أصبح نشاطها يخضع لإصول الإدارة، و التي من بينها تحديد الإستراتيجية و الأهداف السليمة، وتطوير أداء البشر من العاملين، و قياس مستويات الأداء، و تسويق خدمات المؤسّسة
على مستوى العالم، أصبحت الإدارة وظيفة إجتماعية جديدة

أهميّة التحليل والتشخيص

و مع تعاظم سيادة التكنولوجيّات المتطوّرة، أصبح على المؤسّسات أن تهتم بعمليات التحليل والتشخيص، أي بالوصول إلى المعلومات، فبغير هذا تغرق هذه المؤسّسات في طوفان البيانات التي تتدفّق من داخل تلك التكنولوجيّات . و الغريب، أن معظم مستخدمي الكمبيوتر ما زالوا يستخدمون هذه التكنولوجيا الجديدة لمجرّد تسريع نفس العمليات التي كانوا يقومون بها من قبل
الواضح هو أن مجرّد إتّخاذ المؤسّسة أولى خطواتها، يتجاوز إستهداف البيانات إلى البحث منها عن المعلومات، تطرأ تغيرات على عمليات إتّخاذ القرار فيها، و على بنيتها الإدارية، و على الطريقة التي يتم بها إنجاز العمل داخلها . هذه التحوّلات قد بدأت إندفاعها السريع على إمتداد العالم، و بصفة خاصة بالنسبة للشركات الضخمة ذات النشاط الدولي
في المؤسّسة القائمة على المعلومات، تشيع المعرفة أساساً عند القاعدة، داخل عقول المختصّين الذين يقومون بمختلف الأعمال، و الذين يقودون أنفسهم . و نحن نمضي في إتّجاه إنجاز العمل، بشكل واسع، بواسطة الجماعات أو الفرق ذات المهام المحدّدة . و فريق المهمّة المحدّدة - بطبيعته - ينهي التتابع التقليدي للعمل في المؤسّسة : البحث و التطوير و الإنتاج ثم التسويق . فالعمل يصبح متزامنا، عندما يعمل الإخصائيّون في مختلف التخصّصات مع بعضهم البعض، داخل الفريق أو المجموعة

قائد واحد للأوركسترا الكبير

يساعدنا على فهم آليّات العمل في المؤسّسة المعرفية الجديدة، تأمّل الأوركسترا السيمفوني الكبير
في الفرق السيمفونية الكبيرة الحديثة، يشترك في العزف مئات العازفين فوق المسرح . و وفقا للنظريات التقليدية في الإدارة، كان المفترض أن يكون على رأس كل مجموعة من الآلات نائب قائد مختصّ بعمل هذه المجموعة . إلاّ أن الواقع العملي يفيد وجود قائد واحد، يعزف له كل واحد من الموسيقيّين، الذين يكون كلّ واحد منهم قمّة في تخصّصه، دون وسيط بين العازف و القائد
على أساس هذا يمكن أن نفهم متطلّبات المؤسّسة القائمة على المعرفة . لقد أمكن أن يعمل مئات العازفين مع قائدهم، لأن كل منهم يكون على مستوى مرتفع من المعرفة في تخصّصه . هذا المستوى من المعرفة هو الذي يحدّد لعازف الفلوت أو الكمان أو الإيقاع أو قائد الأوركسترا مهمّته، و ما يجب عليه أن يفعله خلال تقديم العرض
و في المستشفي، يشترك جميع الإخصائيّين في مهمّة واحدة، رعاية وعلاج المريض . و"النوته" التي يعملون وفقها هي "تشخيص" حالة المريض، ممّا يملي إجراءات معـيّنة على العاملين في معمـل الأشعة السينية، و على إخصائيّي التغذية، أو العلاج الطبيعي، و كل أفراد فريق العمل في المستشفى

هدف بسيط واضح عام

و من هذا نرى أن المؤسّسة القائمة على أسس معرفية, تحتاج إلى وجود أهداف واضحة و بسيطة و عامّة، يمكن ترجمتها إلى تحرك أو فعل محدّد . و لأن "العازفين" في المؤسّسة المعلوماتية يكونون من الإخصائيّين، فإنّه يكون من غير المجدي أن يخبرهم أحد كيف يقومون بعملهم
لهذا، يجب أن يتركّز بناء المؤسّسة القائمة على المعرفة حول أهداف، تحدّد بوضوح توقّعات إدارتها فيما يتصّل بأداء العاملين فيها . و يجب أن يعتمد نظامها على التغذية المرتدّة(فيد باك)، التي تساعد على المقارنة بين النتائج و التوقّعات، حتّى يمكن لكل فرد أن يمارس التحكّم الذاتي
و من بين مقتضيات المؤسّسة المعرفية، أن تكون لكل عامل بها مسئوليته المعلوماتية . و مفتاح الوصول إلى مثل هذا النظام، هو أن يسأل كل واحد نفسه : من في هذه المؤسّسة يعتمد على ما لدي من المعلومات ؟، و بالنسبة لأيّ معلومات ؟، و أيضا، من الذي أعتمد على معلوماته من العاملين فيها ؟
و يشير بيتر دراكر إلى نقطة معيّنة تقتضي الإلتفات، فيقول أن مسئولية الفرد المعلوماتية تجاه الآخرين في مؤسّسته يجري تفهّمها بشكل متزايد، و بصفة خاصة في الشركات متوسّطة الحجم . لكن مسئولية الفرد المعلوماتية تجاه نفسه مازالت تلقى تجاهلاً إلى حدّ بعيد . ما زال الكثيرون يعتقدون أنه بحصولهم على المزيد من البيانات، يمكنهم الوصول إلى المزيد من المعلومات . و يرى دراكر أن هذا كان إفتراضاً وارداً فيما مضى، عندما كانت البيانات قليلة أو محدودة . و اليوم، مع تدفّق البيانات، يصل بنا هذا إلى تضاعف حمولة البيانات بأكثر ممّا نحتمل، ممّا يقود إلى إفتقاد المعلومات المطلوبة

الأسئلة المطلوبة

على المديرين التنفيذيّين و الإخصائيّين المحترفين أن يفكّروا من خلال تساؤلات مطلوبة حول ما تعنيه المعلومات بالنسبة لكلّ منهم، و البيانات اللازمة لذلك . عليهم أن يعرفوا ما الذي يفعلونه في المؤسّسة، ثم عليهم أن يكونوا قادرين على إتّخاذ قرار بشأن الذي يجب عليهم أن يفعلوه، و أخيراً أن يتمكّنوا من تقييم ما يفعلونه و يحدّدون مدى جودته
على ضوء هذا كلّه ، يكون على الهيئات الحكومية، و المؤسّسات الإقتصادية، و إتّحادات العمّال، وعلى الهيئة العسكرية، بل و على المدارس و الجمعيات غير الحكومية، عليها جمبعا أن تغيّر من عاداتها القديمة، و أن تصل إلى العادات الجديدة التي تتّفق مع ما أوردناه
و لكن، لا بد من الإشارة هنا إلى حقيقة هامة، هي أنّه بقدر نجاح المؤسّسة في ظل الظروف السابقة تكون مصاعب وآلام عملية التحوّل هذه . فإن مثل هذه الإجراءات تهدّد وظيفة و وضع و فرص العديد من العاملين في المؤسّسة . و بصفة خاصة أصحاب مدد الخدمة الطويلة، من متوسطي العمر الذين في مواقع الإدارة الوسيطة، الأميل إلى أن يكونوا الأقل قدرة على الحركة، و الأكثر إحساساً باستقرارهم في أعمالهم، و في مراكزهم الوظيفية، و في علاقاتهم و سلوكهم

* * *

رغم أهمّية السعي الجاد إلى إعادة بناء المؤسّسات على الأسس الجديدة، إلاّ أنّه لا يجب أن نغفل عن المشاكل الإدارية التي تواكب التحوّل إلى المؤسّسة المعرفية . و من بينها خلق رؤية موحّدة في مؤسّسة تتكوّن من الإخصائيّين، و إبتكار نظم لمكافأة تطور العامل و نظم الفرص المتاحة للإخصائيّين، و إستنباط بنية إدارية لمؤسّسة تعتمد على مجموعات أو فرق المهمات المحدّدة، وتدبير طرق الوصول إلى العناصر القيادية، و إعدادها، و إختبارها

Thursday, February 18, 2010

زراعة و صناعة في مجتمع المعلومات

عالم اليوم ـ إبريل 1997 ـ راجي عنايت

بالمعلومات وحدها
هل يمكن أن يحيا الإنسان ؟

قال بنبرة مهذّبة، يخفّف بها إستنكاره البادي " أتابع باهتمام ما تكتبه عن المستقبل في عالم اليوم، و لكن لم أستطع أبداً أن أهضم مسألة التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات، التي تشير إليها دائما في كتاباتك "، ثم إستطرد بلهجة أكثر حدّة قائلاً : كيف تريدني أن أتصوّر مجتمعا بلا صناعة و مصنوعات ؟! .. هل سنأكل و نرتدي و نستخدم في إتّصالنا و إنتقالنا (المعلومات) ؟
قلت له أنّه محقّ في تساؤله هذا . و أن اللوم فيه يقع على شخصي، نتيجة لكثرة ما كتبت عن المستقبل طوال ما يزيد عن 15 سنة . أكتب أحياناً، متصوّرا أن يكون القارئ قد إطّلع على بعض ماكنت قد كتبته، من شهور أو سنين ! . و قد يخفّف من لومي، أنّني اكتب احيانا متصوّرا القارئ و قد سبق له أن قرأ بعض كتبي عن المستقبل .. بعد هذه المقدّمة الإعتذارية، دعونا ندخل إلى لبّ الإجابة عن سؤال القارئ الصديق

صناعة و معلومات مجتمع الزراعة

عندما نتكلّم عن مجتمع الزراعة أو الصناعة أو المعلومات، فنحن نعني المجتمع الذي تحتلّ فيه مركز الثقل، في الإنتاج و الإقتصاد و العمل: الزراعة أو الصناعة أو المعلومات
في المجتمع الزراعي، كانت الزراعة هي محور الإنتاج و الإقتصاد . و كانت التكنولوجيّات الزراعية المتواضعة ملبّية لإحتياجات ذلك المجتمع . و كانت أسواق المقايضة البسيطة كافية لنشاطه الإقتصادي . وهذا لا يعني أنّ المجتمع الزراعي كان خالياً من الصناعات و المعلومات
كانت الصناعات في عصر الزراعة، تقوم على النشاط الحرفي، و في أغلب الأحيان كانت تتمّ وفقا للطلب المحدّد للمستهلك . الحدّاد يصنع سلاح المحراث للفلاّح الذي يطلبه . و في أحوال قليلة كان الحرفي ينتج عدداً محدودا من السلع التي يصنعها، فيمضي بها إلى سوق القرية ليقايض عليها بما يحتاجه من مأكل أو ملبس . كانت هذه بالتقريب صورة صناعة المجتمع الزراعي
و نتيجة لأن الحياة كانت بسيطة، و كذلك الإنتاج، فإن أبناء المجتمع الزراعي لم يكونوا محتاجين إلاّ لقدر محدود للغاية من المعلومات . خاصة و أن أنماط الحياة كانت مستقرّة و ثابتة، لأجيال و أجيال، وكان تطوير الحياة و العمل غاية في البطء، و التدرّج طويل المدى، بالنسبة لعامة الزارعين

ثورة الآلة البخاريّة

و فجأة، و بعد عشرة آلاف سنة من الإستقرار النسبي، ظهرت الآلة البخارية، أساس الإنتاج الميكانيكي، و ما تلاه من إنتاج كهروميكانيكي . و على أساس هذه الخطوة التكنولوجية، تغيّر كل شيئ في حياة البشر
و دون الدخول في التفاصيل الدقيقة، حدثت التغيّرات التالية في حياة الإنسان . أصبح النشاط الصناعي محتلاّ لمركز الثقل في إنتاج و إقتصاد البشر . و تحوّلوا من الإنتاج الحرفي، قطعة بقطعة، وفقاً للطلب، إلى إنتاج السلع المتطابقة على أوسع نطاق، الأمر الذي وفّرته آلات المصانع . و تحول ملايين البشر من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي . و قد ترتّب على هذا التوزيع و الإستهلاك على نطاق واسع، وأصبح العامل غير مدرك للمستهلك الذي يستفيد من إنتاجه، و في أي بلد أو قارة يقيم
و قد قاد هذا إلى عدّة أشياء جوهرية، لا مجال هنا لتفصيلها، و نحن نجيب على سؤال القارئ الصديق : نشأت الأسواق، بمعناها الجديد الذي نعرفه، أسواق السلع و المال و العمالة و الإستثمار . و تغيّر شكل الدولة، و تغيّرت ممارساتها، و طرقها في إتّخاذ القرار . ساد التغيير في التعليم و الأسرة و الإدارة و القيم
هل كانت هناك زراعة في المجتمع الصناعي؟، طبعاً نعم، لكنّها كانت مميكنة، و تدار أمورها وفقاً لنظم التعامل مع الإنتاج الصناعي . شكل جديد للإنتاج الزراعي، لا يحتلّ مركز الثقل في الحياة الإقتصادية، ويدار وفقا لتنظيمات المجتمع الصناعي، لكنّها - في جميع الحوال - كانت زراعة أكثر تطوّراً من السابق
و هل كانت هناك معلومات في المجتمع الصناعي ؟ طبعاً و بشدّة، فقد كان تطوير أوضاع الصناعة، وباقي إحتياجات المجتمع الصناعي، بما في ذلك الحروب الإستعمارية بين الدول الصناعية، تقتضي السعي الدائب لتوليد المعلومات و المعارف . إلاّ أن المعلومات و المعارف و مؤسّساتها في عصر الصناعة، كانت تخضع لنفس تنظيمات إنتاج السلع الصناعية، و تخدم أهداف المجتمع الصناعي

و ماذا عن مجتمع المعلومات ؟

نصل أخيراً إلى مجتمع المعلومات
نفس الذي حدث في بداية عصر الصناعة، حدث في بداية عصر المعلومات . تكنولوجيات إبتكارية جديدة، هي الكمبيوتر و أقمار الاتصالات (في مقابل الآلة البخارية)، تغيّر كلّ شيئ في حياة البشر، و تقود إلى ثورة المعلومات، التي جعلتها تحتلّ مركز الثقل في الحياة
و هنا أيضاً، قاد هذا إلى تغيّرات عديدة جوهرية في حياة البشر، نجملها هنا، من بينها : التحوّل من الإنتاج للسلع النمطية على نطاق واسع، إلى الإنتاج وفقا للطلب، بفضل الكمبيوتر الذي يسمح بتنوّع الإنتاج في حدود نفس التكلفة، لتغطية التنوع الهائل في الإحتياجات الحالية للمستهلكين . و التغيّـرفي الأساس الإقتصادي و الإداري . و كذلك التغير في معنى العمالة، و تحوّلها من العمالة العضلية إلى العمالة العقـليّة . ومنطق العملية التعليمية، و شكل الأسرة، و معنى الحكومة و طبيعة عملية إتّخاذ القرار، و في معنى السيادة و العلاقات الدوليّة، و في القيم السائدة بشكل عام

الصناعة في عصر المعلومات

و نصل الآن إلى لبّ السؤال المطروح : هل هناك زراعة و صناعة في مجتمع المعلومات ؟
و الإجابة أيضاً : نعم . رغم المعلومات يكون لها الثقل الإقتصادي الأكبر في مجتمع المعلومات، بحيث تحتلّ الصناعة و الزراعة مركزاً إقتصاديّاً أقل ثقلاً، إلاّ أن هذا لا يمنع وجود صناعة و زراعة في عصر المعلومات . تماما كما كانت هناك زراعة، في عصر الصناعة
إلاّ أن صناعة عصر المعلومات تتميّز بالخصائص التالية
أولا : صناعة قائمة على التكنولوجيات الإلكترونية، و الإدارة الرقمية إعتماداً على الكمبيوتر، و الروبوت أو الإنسان الآلي، الذي يتكفّل بمعظم الأعمال الروتينية التي كان يقوم بها عامل عصر الصناعة
ثانيا : تستخدم الأقل من المواد الخام و الطاقة، و تعتمد على مصادر الطاقة الجديدة و المتجدّدة كالطاقة الشمسية . و من ثمّ، فهي غير ملوّثة للبيئة
ثالثا : تستطيع أن تنتج تنوّعا من السلعة الواحدة، دون زيادة في التكلفة، تلبية للتنوّع المتزايد في البشر
رابعا : صناعات المعلومات لا يعتمد رواجها على الضخامة، بل تستفيد أكثر بالحجم الصغير
خامسا : لا تأخـذ بالإدارة البيروقراطية الهرمية، التي سيطرت على كلّ شيء في عصر الصناعة، و تعتمد على تنوّع من النظم الإدارية، مثل التنظيم الشبكي الذي ينسجم مع طبيعة العمل في مجتمع المعلومات
سادسا : عمالة صناعة المعلومات عمالة عقليّة، تتعامل مع الكمبيوتر و الأجهزة الإلكترونية، و تكون قادرة على التفكير الإبتكارى، و على حلّ المشاكل الطارئة
سابعا : تعترف بتنامي قطاع الإنتاج من أجل الإستهلاك الشخصي،(إصنعها بنفسك)، و تطوّر كل ما يحتاجه هذا الإنتاج من أجهزة و أدوات

زراعة عصر المعلومات

و كما كانت للزراعة أسس جديدة و منطق جديد في عصر الصناعة، فإن زراعة عصر المعلومات تجئ مختلفة عن هذا و ذاك
زراعة عصر المعلومات لا تقف عن حدّ الميكنة، بل تعتمد في تنمية الثروة الزراعية و الحيوانية على تكنولوجيات جديدة، و علوم جديدة، مثل العلم البازغ "الهندسة الوراثية" . و لهذا، تكون قادرة على تلبيــة الإحتياجات المتزايدة من الطعام، للتكاثر المطّرد في تعداد البشر
و زراعة المعلومات، تعتمد على تكنولوجيات المعلومات المتطوّرة، في الوصول إلى أفضل النتائج بمتابعة أحوال الطقس مسبقاً، و في تعظيم الإنتاج، و في التسويق، و في إدارة المزرعة ككلّ
و هذا يعني أن مجتمع المعلومات به زراعة، لكنّها زراعة أكثر تطوّراً و عائداً من أشكال الإنتاج الزراعي التي عرفها عصر الزراعة أو عصر الصناعة

* * *
أرجو أن يكون ما قلته هنا، كافيا لإقناع القارئ الصديق، أنّه لن يكون مضطّراً لأكل و شرب المعلومات، أو إرتداء و ركوب المعارف

Friday, February 12, 2010

مخزن المخلفات الهائل

عالم اليوم ـ 1997 ـ راجي عنايت


..
التباكي المرفوض
! على قيمنا و تراثنا و هويتنا

لن نصل إلى المعرفة العملية، التي تساعدنا على الخروج من حالة التخلّف، التي فرضها علينا نفوذ واستعمار الدول الصناعية الكبرى، إلاّ إذا التزمنا الترتيب الصحيح في النظر إلى الأحوال . يحدث هذا، عندمـا نبدأ بتفهّم الذي تغيّر، ثم ننظر فيما هو قائم على ضوء فهمنا لذلك التغيّر . هذه هي الآلية التي يلتزم بها البشر في كل ما يفعلون
عندما يهمّ المرء بالخروج من داره، يهمّه أن يعرف طبيعة التغيّر في حالة الطقس، لكي يتكيّف مع ذلك التغيّر، و يستعدّ له بالملابس المناسبة، أو حتّى يقرّر تأجيل الخروج . و هذا هو المفروض أن نقوم به إزاء المتغيّرات المتلاحقة التي يمرّ بها الجنس البشري بأكمله، هذه الأيام . المفروض أن نسعى إلى فهم هذه المتغيّرات، و إلى تأمّل العلاقات المتبادلة بينها، لكي نصـل إلى المنطق أو القانون الذي يحكمها، ثم نحاول من هذا كلّه التعرّف على المستقبل الذي تصنعه هذه التغيّرات
بعد ذلك - و بعد ذلك فقط - ننظر إلى واقعنا على ضوء ما وصلنا إليه . و أيضا، ننظر إلى ما نطلق عليه " قيمنا وتراثنا أو هويتنا "، لنرى مدى إتّفاقه إو تناقضه مع هذه التغيّرات المستقبلية . هنا .. نكون أحراراً في قبول ما نقبله من هذه الأحوال المستجدة، مستفيدين من دفعها و عزمها . أو في رفض ما نرفضه منها، ممّا يتناقض مع ما نتمسّك به، على أن نتحمّل بوعي مسئولية هذا الرفض

مخزن المخلّفات الهائل

ما نطلق عليه كلمة " التراث "، عبارة عن مخزن هائل للمخلّفات، بعضها ثمين، و بعضها لا يساوي عناء الإحتفاظ به . هذه المخزونات، تراكمت على مرّ عشرات الآلاف من السنين، منذ عصور الفراعنة، وعبر العصر القبطي و العصر الإسلامي، و على إمتداد مختلف عصور الإحتلال
و لا معنى للتباكي على ذلك التراث، دون أن نفهم السياق الذي نبع منه كل عنصر من عناصره . و إذا تأمّلنا ذلك التراث، وجدناه حافلا بالشيء و ضدّه، نتيجة لتراكمه على مرّ القرون، و لأنّه قد إستمدّ حصيلته من مختلف الموجات الحضارية التي مرّت علينا، بل - ربّما - ممّا هو سابق لهذه الموجات، بكلّ ما في ذلك الخليط من تناقض في القيم و المعايير
المطلوب منّا، أن نتأمّل تفاصيل ذلك التراث، و نطبّق عليه عمليات التفكير الناقد، للتعرف على السياق الذي خرج منه كلّ عنصر من عناصره، و التثبّت من أن ذلك السياق ما زال قائما، محتفظاً بصلاحيته

التفكير الناقــد

التصدّي لمهمة فرز "التراث"، يحتاج إلى توفّر مجموعة من المزايا العقلية، في عمليات التحليل والتركيب الفكري، إعتماداً على قواعد التفكير الناقد . و قد يكون من المفيد هنا، أن نستعرض بشيئ من الإيجاز آليات و خصائص و خطوات التفكير الناقد . أهمّ هذه المقوّمات هي
أولا ـ التعرّف على الإفتراضات و تحدّيها
من العناصر المحورية في التفكير الناقد، محاولة التعرّف على الإفتراضات التي تقوم عليها أفكارنا وعقائدنا و قيمنا و تصرّفاتنا، و التي نأخذها مأخذ الأمر الواقع . بعد إكتشاف هذه الإفتراضات، يكون على ممارس التفكير الناقد أن يمتحنها، و يتحقّق من مدى دقّتها و مصداقيتها .. عليه أن يتساءل بالنسبة لكلّ ما يأخذه كقضية مسلّمة، و ما يعتبره من البديهيّات، في كل ما يتّصل بفكره و عمله و علاقاته بالآخرين .
ثانيا ـ الإنتباه إلى السياق الذي تنبع منه الإفتراضات
عندما نعي الإفتراضات الخفيّة، و التي نتبنّاها دون أن نخضعها لأي تفكير، و ندرك أهمّيتها في تشكيل عاداتنا الإدراكية، و فهمنا للأمور، و تفسيرنا للعالم من حولنا، و التأثير على سلوكنا .. عندما يتحقّق هذا، نصبح أكثر إدراكاً لمدى تأثير السياق الذي تنبع منه أفكارنا و تصرّفاتنا
ثالثا ـ تصوّر، و إمتحان البدائل
من الأمور الأساسية في التفكير الناقد، القدرة على تخيّل و إمتحان بدائل ما يلتزم به الفرد في تفكيره وحياته . عندما يكتشف الفرد أن العديد من الأفكار و التصرّفات الخاصّة به تنبع من إفتراضات قد لا تكون مناسبة لحياته الراهنة، ينشغل دوماً باكتشاف و إمتحان طرق جديدة للتفكير في واقع حياته
رابعا ـ التشكّك التأمّلي
عندما نكتشف تعدّد البدائل، لما كنّا نفترض أنّه راسخ، من نظم الإعتقاد و السلوك التي تعوّدنا عليها، ومن البنيات الإجتماعية التي كنا نعتقد برسوخها، فإنّنا نصبح أكثر تشكّكاً، فيما كنّا ننظر إليه باعتباره الحقيقة النهائية، أو التفسير الكامل الذي لا يدخله الخلل من أيّ جوانبه .. إنّنا هنا، نمارس ما يمكن أن نطلق عليه : التشكّك التأمّلي
ممارس التفكير الناقد، يتشكّك فوراً في الذين يزعمون أن لديهم إجابات عن جميع مشاكل الحياة . وتتجلّى ممارسة التشكّك التأمّلي، عندما نرفض قبول أمر ما لمجرّد " أن هذا هو ما كان عليه الحال دائماً"، أو " لأنّ هذه هي طبيعة الأشياء " . ممارس التفكير الناقد لا يتجنّب الإلتزام بقضيّة أو عقيدة، لكنّه يفعل ذلك بعد أن يمارس إشتراطات التفكير الناقد، بالنسبة لهذه القضيّة أو العقيدة
و هذا هو ما يجب أن نطبّقه على ما نطلق عليه القيم أو التراث أو الهويّة أو الخصوصيّة

الحزام الإعلامي الوهمي

عندما وضحت الإمكانات الكبيرة لأقمار الإتّصالات، و بدأت نقلها للبرامج التلفزيونية إلى أنحاء العالم، ثار حوار محتدم، حول ما يجب أن نفعله في مواجهة هذه الظاهرة . و تصاعدت الصيحات، تحذّر من عواقب الغزو الفكري و الثقافي الكاسح، الذي تتعرّض له الشعوب . و شعار " التصدّي للغزو الفكري"، غالبا ما يستهدف تكريس تخلّفنا الفكري، و إقامة ساتر في وجه فيض المعلومات و المعارف، التي يمكن أن تقودنا إلى الفهم السليم لواقعنا
في إحدى الجرائد اليومية الكبرى، ظهر تحقيق يتضمّن عدّة أحاديث مع كبار المسئولين في مجال الإعلام، حول كيفية مواجهة الغزو الفكري و الثقافي القادم عبر الأثير . قال أحدهم، أنّه من الضروري إقامة حزام إعلامي حول الشعوب العربية، يحميها من ذلك الغزو ! .. و قال آخر أنّ الحلّ يكمن في إعداد برامج مضادّة، لمواجهة كلّ ما يتناقض مع تراثنا و هويتنا . مختصّ واحد، عاقل، من بين من أدلوا بآرائهم، هو الذي قال بعدم جدوى الحجب أو المنع أو التحصّن، فأقمار الإتصال تتطوّر يوما بعد يوم، بحيث يصبح بإمكان الشخص أن يستقبل أي إرسال عالمي، بمجرّد شراء جهاز التلفزيون الأحدث، و دون حاجة إلى ما نشهده من أطباق ضخمة، و أجهزة مركّبة
بدلاً من التباكي على التراث، و إطلاق صيحات الإستنفار بالنسبة لما تحمله لنا إقمار الإتّصال من معلومات و معارف، لماذا لا نسأل أنفسنا : كيف يمكن أن نربّي أجيالنا القادمة، بطريقة تتيح لها - دون تدخّل أو رقابة - أن تختار بين الغث و الثمين، ممّا تحمله إليهم موجات الأثير ؟ .. لماذا لا نعيد النظر في التعليم الحالي، الذي ما زال يقوم على الفرض و الإملاء و التلقين، رغم كلّ ما يدّعيه وزراء التعليم، عن رفضهم لتعليم التلقين، و نجاحهم في التحوّل إلى تعليم التفكير و الإبتكار ؟
و ما قلناه عن تعليم التلقين، ينسحب أيضا على إعلام التلقين و الفرض، الذي نأخذ به

التراث الهش، و عقدة عصر الصناعة

الملاحظ أنّنا نتحدّث عن تراثنا، و كأنّه شيئ هش، يتداعى إذا لمسناه، ممّا يعكس ضعف ثقتنا فيه . لقد أصبحنا نتعصّب لشيئ إسمه التراث، دون رغبة في مراجعة تفاصيله، و مدى مصداقيته . و هذا - في أغلب الظن - راجع إلى عقدة تولّدت في نفوسنا، في أعقاب ما فعلته بنا نمطيّة عصر الصناعة
فالنمطيّة أو القولبة أو التوحيد القياسي، كانت في صميم صالح المجتمع الصناعي، من النواحي الإقتصـادية و الإنتاجية و الإدارية و السياسية . و قد أشرنا من قبل إلى أن ثمن هذه النمـطية كان غاليا، عندما جرى تطبيقها على البشر . باعتبار أنّها تتناقض مع تفرّد و تباين البشر . و كانت الآثار السلبية لتطبيق النمطية على البشر مضاعفة، بالنسبة لشعوب الدول التي خضعت لإستعمار الدول الصناعية الكبرى

خصوصيّة الشعوب

عندما إستعمرت الدول الصناعية الكبرى شعوبنا العربية على مدى القرنين الماضيين، أعملت فيها مبدأ النمطيّة و القولبة، و حاولت فرض أنماط للحياة تتّفق مع مصالحها الإقتصادية، زاعمة أنّها تحمل قيم التقدّم و التطوّر . و كان التناقض أكثر عمقا، لأنّ الشعوب العربية لم تكن قد دخلت، من الناحية الإقتصادية والإنتاجية، إلى عمق الحياة الصناعية
و مع ذلك، فلا بدّ من الإعتراف بأن جهود قولبة البشر هذه لم تنجح، حتّي في الدول الصناعية ذاتها، باعتبارها متناقضة مع طبيعة الإنسان، بشكل عام . و خير دليل على ذلك، أنّنا ونحن عند نهايات عصر الصناعة، نرى مدي التمايز بين الإنسان الفرنسي و الأمريكي و الياباني و الروسي . مع كلّ جهود القولبة و التنميط، بقيت الخصائص الذاتية الأكثر أصالة لكلّ شعب
لقد ترسّخت في نفوسنا عقدة الخوف على خصوصيّتنا، حتّى بعد أن إنسحبت جيوش المستعمرين، وبعد أن إهتزّت دعائم المجتمع الصناعي الذي إستوجبها، و أصبحنا نحتضن في حساسية مرضيّة، كل ما نطلق عليه " قيمنا و تراثنا "، و يصيبنا الرعب لدى أيّة محاولة لتأمّل هذه القيم وفحصها ومراجعتها، أو لجرد و فحص ذلك التراث المتراكم لتخليصه من عناصر التخلّف فيه، التي تعوق تقدّمنا

القيم .. و المصالح الإقتصادية

من المفيد، أن تكون الآليّات التي تتشكّل بها القيم في أي مجتمع واضحة لنا . القيم لا تتحقّق و تسود على أرض الواقع، لمجرّد أنها عظيمة أو مرغوبة، أو نتيجة جهد من ينادون بترسيخها . فالقيم تسود أي مجتمع، عندما تتطلّبها المصالح الإقتصادية لذلك المجتمع، و ليس قبل هذا
و من ثم، فإن التحول من الواقع القيمي الراهن، إلى الواقع القيمي لعصر المعلومات، رهن بسيادة واقع مجتمع المعلومات، أي عندما يحتلّ إنتاج المعلومات و المعارف مركز الثقل في نشاطنا الإقتصادي

التوجّه الإبتكاري .. و التراث

إنّنا في إشدّ الحاجة، هذه الأيام، إلى إعادة النظر في قيمنا و تراثنا، حتّى نتعرّف على ما يؤدّي بنا إلى طريق السلامة، و ما يهوي بنا إلى قاع الندامة . علينا أن نعتمد على التفكير الناقد، الذي طرحنا عناصره بإختصار، و أن نلتزم بالتوجّه الإبتكاري الذي يتيح لنا أن نتحرّر من قبضة الركام الأثري على عقولنا
في هذا كلّه، نحتاج إلى الفهم و العزم . أن نفهم بوضوح عناصر التراث الأثرية، النابعة من إحتياجات مجتمعات منقضية . و أن نفهم سياق القيم التي نتمسّك بها، لكي نأخذ منها ما ينفعنا، و يتّفق مع المجتمع الجديد الذي نسعى لدخوله، و نسقط منها كل ما هو ضار ومتناقض مع عزمنا علي التقدّم وملاحقة ركب التطور، مهما طال أخذنا به تاريخيا
ولا بد من التأكيد على أن التوجّه الإبتكاري، و الإعتماد على آليّاته، يساعدنا على النظر إلى كلّ هذا بعين جديدة، و يوفّر لنا وضع أيدينا على البدائل الجديدة، الأكثر نفعاً لنا

Friday, February 5, 2010

عجائب العائلة الجمهورية

نهضة مصر ـ سبتمبر 2005 ـ راجي عنايت

.. عناصر أمانة السياسات
استنساخ دقيق
! لعناصر الحزب الوطني المزمنة

أخشى ما أخشاه أن يكون النظام الحاكم غير مصدّق لما جرى و يجري على أرض مصر .. و أشعر أن أركان الحكم التقليدية ما زالت تواصل نفس التفكير السابق و الحيل البالية القديمة، التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، و التي يمكن أن تقودنا في الظروف الحالية إلى كارثة . الجميع يتوقّع من الرئيس مبارك، و هو على أعتاب الولاية الخامسة، أن يلتزم بما قاله، أثناء و بعد حملته الانتخابية، و أن يقدّم المؤشرات التي تجعلنا نصدّق نيّته على الوفاء بما وعد .. لماذا أشعر أنّه محاصر من جميع أطراف الصراع بين القديم و الجديد، رغم عدم اختلاف الجديد عن القديم في شيء ؟
واقعة استقالة فاروق حسني وزير الثقافة، بسبب جريمة الإهمال البيّن في مأساة قصر ثقافة بني سويف.. ثم عدم قبولها، دون تقديم أي بديل، أو تفسير .. تؤكّد أن الضغوط الداخلية المتناقضة في أروقة الحكم بلغت حدّا، أصاب النظام الحاكم بنوع من الشلل، و عدم القدرة على إدراك خطورة القرارات التي يتّخذها . و هذه واحدة من الوقائع العديدة التي تؤكّد مخاوفي
مصدر مخاوفي أننا لم نعد نعلم من الذي يحكم ؟.. و لمن يكون ولاء الوزراء الحقيقي ؟
و من أهم عناصر هذه الفوضى، الكيان مجهول الهوية، فاقد شهادة الميلاد، الذي قام جمال مبارك بزرعه في جسم الحزب الوطني سرا، حتّى انفجر أمام أعيننا فجأة، كما يفعل عشّ الغراب ! . كيان مجهول المنشأ، ملتبس العناصر، تآمري الطبيعة
!!الوليد المعوّق

رغم رفضي للطريقة التآمرية التي اتسم بها اختراق جمال مبارك للحياة السياسية، فقد كنت أتصوّر أنّه بشبابه و شباب من جلبهم، سيفيد في تخليصنا من العناصر الانتهازية و الفاسدة المزمنة التي تتحكّم في مقدرات الحزب . و نتيجة للسرّية التي أحاطت بنشاط جمال مبارك، سواء في مناورات وراثة الحكم أو في تشكيل أمانة السياسات، لم يتح لأحد أن يتعرّف على أفراد هذا التشكيل السرّي الماسوني
إلى أن بدأت حملة الانتخابات الرئاسية، و بدأت التعرّف على عدد كبير من أفراد هذا الحزب الخاص، على صفحات الصحف و شاشات التلفزيون . كما توصلت إلى أوراق لجنة السياسات عن طريق الإنترنيت، و التي يفترض أن تحمل فكر هؤلاء الشباب، بالنسبة للنظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي يسعون إلى تطبيقها على الواقع المصري فأصبت بخيبة أمل كبرى لقد اكتشفت أن هذا الوليد الجديد المعوّق، ناتج عن نوع من الاستنساخ الدقيق لكبار المعوّقين من الحرس القديم، و لكن بلكنة أمريكية، و دون رباط عنق
شباب يبحث عن مستقبل

في أكثر من حديث صحفي، و أذكر بالتحديد في حديث خاص لمكرم محمد أحمد بمجلة المصور، تباسط الرئيس مبارك، و تحدّث عن عدّة مسائل شخصية شائكة، و كان من بينها نشاط نجليه . و أعتقد أن المعني بالسؤال في ذلك الحديث، كان علاء مبارك، و عملياته المالية التي أثارت الكثير من اللغط . قال مبارك ما معناه أنهما كأي شباب مصري يبحثان عن مستقبلهما
كان جمال مبارك في ذلك الوقت في بريطانيا، بعيدا عن الأضواء المصرية، يشتري ديون مصر
كان يساوم الدائنين حول ديون مصر شبه الميّتة، نتيجة للوضع الاقتصادي المصري الصعب في ذلك الوقت، و هو عمل مشكور، لولا أن وضع جمال كنجل للرئيس يحول دون تجرّؤ جهات المراجعة و المحاسبة على مناقشة تفاصيل الشراء، و الأرقام المتصلة بذلك
لم نسمع بعد ذلك عن جمال مبارك إلاّ عندما طفت موجة توريث الحكم لأبناء رؤساء الجمهوريات، في سوريا، و مصر و ليبيا و اليمن . و كان نجاح المحاولة السورية هو الذي أثار الخوف من التفكير في تطبيقها عندنا . و الحق يقال أن الرئيس مبارك لم يبد عليه الحماس لمثل هذه الفكرة، و استبعدها أكثر من مرّة علانية .. بقوة أحيانا، و بتردد أحيانا أخرى، عندما يشتد ضغط الأسرة الجمهورية ( على وزن الأسرة المالكة )، فيعود إلى القول بأنه إذا أراد جمال أن يرشّح نفسه فهذا حقّه كمواطن مصري

الظهور من جوف الحزب

ثم كان الظهور المفاجئ من جوف الحزب الوطني ..لقد استفاد جمال مبارك من تجربة ديك تشيني في تأسيس حركة المحافظين الجدد، و أمضي فترة كمون داخل الحزب يجمع الأنصار، و يقيم بعض المشروعات التي تتيح له الوصول إلى التنظيمات القاعدية للحزب، في غفلة من قيادات الحزب التقليدية، التي تصورت ـ و على فمها ابتسامة عريضة ـ أن الشاب النشيط يتسلّى
و بدأ الظهور الرسمي، عند الإعلان عن أمانة السياسات، بكل ما أحاطها من غموض، ضاعف من إحساس الناس بالمؤامرة . و كما أعلن المحافظون الجدد عن مشروع الأمريكي للقرن، بعد تولّي بوش الابن، أعلن جمال مبارك عن،
سياسة الحزب الوطني في التوجّه نحو مجتمع المعرفة، و عن استشراف المستقبل
عندما قرأت العناوين لأول مرّة، أحسست أننا بصدد شيء شبابي جيد، منسجم مع مقتضيات العصر و مفاهيمه، يمكن أن يخرجنا من الأمّية السياسية السائدة في أدبيات أحزابنا السياسية، و في مقدمتها الحزب الوطني الديموقراطي .. لم يكن بإمكان قيادات الحزب الوطني، الذي قام ـ منذ بدايته أيام السادات ـ باعتباره تجمّعا للمستفيدين و أصحاب المصالح، أن تشغل بالها، أو تتفوّه، بعبارات استشراف المستقبل، و التوجّه نحو مجتمع المعرفة . لكن صدمتي كانت كبيرة عندما قرأت أوراق اللجنة و برامجها بدقّة .. و قررت أن أناقشـها بالتفصيل لأوضّح سطحيتها، و افتقادها للرؤية الشاملة التي يمكن أن تستند إليها
ثم جاءت الحملة الانتخابية للرئيس مبارك .. و انشغل الجميع بها، و كان الانشغال الأكبر من نصيب أمانة السياسات، التي بدأ ظهور نفوذها، و مستوى عناصرها، و حجمها السياسي الحقيقي، و قدرتها على إعادة ترتيب كل شيء وفقا لمصالح مجموعتها الصغيرة، بالضبط كما تفعل جماعة المحافظين الجدد في أمريكا
!! سوسولوف الأمانة

أراد جمال مبارك أن يصنع من حملة إعادة انتخاب الرئيس مبارك نصرا مؤزرا، يتيح للتنظيم السرّي أن يطفو إلى السطح، في إعلان مسموع يتيح له أن يعيد توزيع مفاتيح السلطة، بحيث يقتصر تولّيها على أفراده المقرّبين من الزعيم الجديد .. فماذا كانت النتيجة ؟
لقد كشفت هذه الحملة ـ مبكرا ـ ضعف العناصر التي دفعتها الأمانة إلى شاشات التلفزيون ..و على سبيل المثل و ليس الحصر، الورقة الرابحة التي طرحها جمال مبارك لتواجه المواقف المناهضة، ( سوسولوف ) أو ( فوكوياما ) أمانة السياسات د. محمد كمال، الذي بدا متخاذلا .. و رسب في أول اختبار، عندما قالت له المذيعة أن الناس تتساءل كيف سيحقق مبارك و عوده، و لماذا لم يحقق أي منها على مدى 24 سنة ؟، ارتبك فوكوياما، و تكلّم في أي شيء إلاّ الرد على السؤال المطروح .. ثم ظهر في برامج آخر، تفضحه لغة الجسد، يخفى المناورة و تفادي الحقائق بالنظر إلى أسفل أثناء الحديث
و تتابعت عمليات سقوط عناصر الأمانة .. منصور عامر الذي ظهر ليدافع عن الحزب الوطني، انكشفت أفعاله المدانة على الملأ، في مشروع بورتو مارينا .. دكتور مصطفى علوي، الذي كاد أن يتهاوى على الشاشة من فرط ظهوره المتكرر كالجوكر في العديد من الندوات، و الذي بحّ صوته و هو يدافع عن انتخابات الرئيس و عن الحزب الوطني و عن أمانة السياسات، بلع لسانه، و أطاع التوجيهات، فاختفى عن الأنظار في أعقاب جريمة حريق صفوة الحركة المسرحية للثقافة الجماهيرية، التي يرأسها
لم يفعل هؤلاء الشباب ما يزيد عمّا فعلته القيادات القديمة للحزب، ممّا رجّح فكرة الاستنساخ .. و لعل خير ما يدعم هذه الفكرة، ظهور مندوبا لجنة السياسات على القنوات التلفزيونية، جهاد عودة، و عبد الله كمال، كعناصر مستنسخة من القيادات القديمة للحزب الوطني

المضحك المبكي

بعد جميع ضروب القصور و الفشل هذه، حدث ما أصفه بالمضحك المبكي .. و أنا سأنقل بالنص ما نشرته جريدة " المصري اليوم " على صفحتها الأولى، يوم 14 سبتمبر، تحت عنوان " أمانة السياسات تطالب بمشاركة الحكومة في تنفيذ برامج مبارك "، جاء التالي
.. و في الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة التزامها بتنفيذ كل ما ورد في البرنامج الانتخابي للرئيس مبارك، بدأت بالفعل منذ أمس الأول في عقد اجتماعاتها الوزارية لوضع آليات التنفيذ ... و طلبت أمانة السياسات بالحزب الوطني، أن تكون الخطط و البرامج و الآليات التنفيذية عن طريقها هي و بمعرفتها، ثم تقدمها بعد ذلك للحكـومة للتنفيذ. كما طالبت بأن يشـارك ممثلـون عنها في الاجتماعات الوزارية التي تناقش آليات التنفيذ للبرنامج الانتخابي للرئيس بصفة
دائمة، حيث من المقرر أن يشارك رئيسها جمال مبارك في الاجتماعات المقبلة " (!!!)
.. كلام غريب
و هذا يعني أن جمال مبارك لم يكتف باختيار معظم عناصر هذه الوزارة، وهو هنا يعبّر عن عدم اطمئنانه لحسن فهمهم و جودة أدائهم فقرر أن يفرض عليها وصاية شخصية دائمة، لم تتوفّر للسير مايلز لامبسون في زمن الاحتلال البريطاني .. بموجب أي شرع أو تقليد ؟ .. أم أن هذا نصّ وارد في إعلام الوراثة الذي لم نطّلع عليه ؟
نظرة يا ســت