Friday, February 12, 2010

مخزن المخلفات الهائل

عالم اليوم ـ 1997 ـ راجي عنايت


..
التباكي المرفوض
! على قيمنا و تراثنا و هويتنا

لن نصل إلى المعرفة العملية، التي تساعدنا على الخروج من حالة التخلّف، التي فرضها علينا نفوذ واستعمار الدول الصناعية الكبرى، إلاّ إذا التزمنا الترتيب الصحيح في النظر إلى الأحوال . يحدث هذا، عندمـا نبدأ بتفهّم الذي تغيّر، ثم ننظر فيما هو قائم على ضوء فهمنا لذلك التغيّر . هذه هي الآلية التي يلتزم بها البشر في كل ما يفعلون
عندما يهمّ المرء بالخروج من داره، يهمّه أن يعرف طبيعة التغيّر في حالة الطقس، لكي يتكيّف مع ذلك التغيّر، و يستعدّ له بالملابس المناسبة، أو حتّى يقرّر تأجيل الخروج . و هذا هو المفروض أن نقوم به إزاء المتغيّرات المتلاحقة التي يمرّ بها الجنس البشري بأكمله، هذه الأيام . المفروض أن نسعى إلى فهم هذه المتغيّرات، و إلى تأمّل العلاقات المتبادلة بينها، لكي نصـل إلى المنطق أو القانون الذي يحكمها، ثم نحاول من هذا كلّه التعرّف على المستقبل الذي تصنعه هذه التغيّرات
بعد ذلك - و بعد ذلك فقط - ننظر إلى واقعنا على ضوء ما وصلنا إليه . و أيضا، ننظر إلى ما نطلق عليه " قيمنا وتراثنا أو هويتنا "، لنرى مدى إتّفاقه إو تناقضه مع هذه التغيّرات المستقبلية . هنا .. نكون أحراراً في قبول ما نقبله من هذه الأحوال المستجدة، مستفيدين من دفعها و عزمها . أو في رفض ما نرفضه منها، ممّا يتناقض مع ما نتمسّك به، على أن نتحمّل بوعي مسئولية هذا الرفض

مخزن المخلّفات الهائل

ما نطلق عليه كلمة " التراث "، عبارة عن مخزن هائل للمخلّفات، بعضها ثمين، و بعضها لا يساوي عناء الإحتفاظ به . هذه المخزونات، تراكمت على مرّ عشرات الآلاف من السنين، منذ عصور الفراعنة، وعبر العصر القبطي و العصر الإسلامي، و على إمتداد مختلف عصور الإحتلال
و لا معنى للتباكي على ذلك التراث، دون أن نفهم السياق الذي نبع منه كل عنصر من عناصره . و إذا تأمّلنا ذلك التراث، وجدناه حافلا بالشيء و ضدّه، نتيجة لتراكمه على مرّ القرون، و لأنّه قد إستمدّ حصيلته من مختلف الموجات الحضارية التي مرّت علينا، بل - ربّما - ممّا هو سابق لهذه الموجات، بكلّ ما في ذلك الخليط من تناقض في القيم و المعايير
المطلوب منّا، أن نتأمّل تفاصيل ذلك التراث، و نطبّق عليه عمليات التفكير الناقد، للتعرف على السياق الذي خرج منه كلّ عنصر من عناصره، و التثبّت من أن ذلك السياق ما زال قائما، محتفظاً بصلاحيته

التفكير الناقــد

التصدّي لمهمة فرز "التراث"، يحتاج إلى توفّر مجموعة من المزايا العقلية، في عمليات التحليل والتركيب الفكري، إعتماداً على قواعد التفكير الناقد . و قد يكون من المفيد هنا، أن نستعرض بشيئ من الإيجاز آليات و خصائص و خطوات التفكير الناقد . أهمّ هذه المقوّمات هي
أولا ـ التعرّف على الإفتراضات و تحدّيها
من العناصر المحورية في التفكير الناقد، محاولة التعرّف على الإفتراضات التي تقوم عليها أفكارنا وعقائدنا و قيمنا و تصرّفاتنا، و التي نأخذها مأخذ الأمر الواقع . بعد إكتشاف هذه الإفتراضات، يكون على ممارس التفكير الناقد أن يمتحنها، و يتحقّق من مدى دقّتها و مصداقيتها .. عليه أن يتساءل بالنسبة لكلّ ما يأخذه كقضية مسلّمة، و ما يعتبره من البديهيّات، في كل ما يتّصل بفكره و عمله و علاقاته بالآخرين .
ثانيا ـ الإنتباه إلى السياق الذي تنبع منه الإفتراضات
عندما نعي الإفتراضات الخفيّة، و التي نتبنّاها دون أن نخضعها لأي تفكير، و ندرك أهمّيتها في تشكيل عاداتنا الإدراكية، و فهمنا للأمور، و تفسيرنا للعالم من حولنا، و التأثير على سلوكنا .. عندما يتحقّق هذا، نصبح أكثر إدراكاً لمدى تأثير السياق الذي تنبع منه أفكارنا و تصرّفاتنا
ثالثا ـ تصوّر، و إمتحان البدائل
من الأمور الأساسية في التفكير الناقد، القدرة على تخيّل و إمتحان بدائل ما يلتزم به الفرد في تفكيره وحياته . عندما يكتشف الفرد أن العديد من الأفكار و التصرّفات الخاصّة به تنبع من إفتراضات قد لا تكون مناسبة لحياته الراهنة، ينشغل دوماً باكتشاف و إمتحان طرق جديدة للتفكير في واقع حياته
رابعا ـ التشكّك التأمّلي
عندما نكتشف تعدّد البدائل، لما كنّا نفترض أنّه راسخ، من نظم الإعتقاد و السلوك التي تعوّدنا عليها، ومن البنيات الإجتماعية التي كنا نعتقد برسوخها، فإنّنا نصبح أكثر تشكّكاً، فيما كنّا ننظر إليه باعتباره الحقيقة النهائية، أو التفسير الكامل الذي لا يدخله الخلل من أيّ جوانبه .. إنّنا هنا، نمارس ما يمكن أن نطلق عليه : التشكّك التأمّلي
ممارس التفكير الناقد، يتشكّك فوراً في الذين يزعمون أن لديهم إجابات عن جميع مشاكل الحياة . وتتجلّى ممارسة التشكّك التأمّلي، عندما نرفض قبول أمر ما لمجرّد " أن هذا هو ما كان عليه الحال دائماً"، أو " لأنّ هذه هي طبيعة الأشياء " . ممارس التفكير الناقد لا يتجنّب الإلتزام بقضيّة أو عقيدة، لكنّه يفعل ذلك بعد أن يمارس إشتراطات التفكير الناقد، بالنسبة لهذه القضيّة أو العقيدة
و هذا هو ما يجب أن نطبّقه على ما نطلق عليه القيم أو التراث أو الهويّة أو الخصوصيّة

الحزام الإعلامي الوهمي

عندما وضحت الإمكانات الكبيرة لأقمار الإتّصالات، و بدأت نقلها للبرامج التلفزيونية إلى أنحاء العالم، ثار حوار محتدم، حول ما يجب أن نفعله في مواجهة هذه الظاهرة . و تصاعدت الصيحات، تحذّر من عواقب الغزو الفكري و الثقافي الكاسح، الذي تتعرّض له الشعوب . و شعار " التصدّي للغزو الفكري"، غالبا ما يستهدف تكريس تخلّفنا الفكري، و إقامة ساتر في وجه فيض المعلومات و المعارف، التي يمكن أن تقودنا إلى الفهم السليم لواقعنا
في إحدى الجرائد اليومية الكبرى، ظهر تحقيق يتضمّن عدّة أحاديث مع كبار المسئولين في مجال الإعلام، حول كيفية مواجهة الغزو الفكري و الثقافي القادم عبر الأثير . قال أحدهم، أنّه من الضروري إقامة حزام إعلامي حول الشعوب العربية، يحميها من ذلك الغزو ! .. و قال آخر أنّ الحلّ يكمن في إعداد برامج مضادّة، لمواجهة كلّ ما يتناقض مع تراثنا و هويتنا . مختصّ واحد، عاقل، من بين من أدلوا بآرائهم، هو الذي قال بعدم جدوى الحجب أو المنع أو التحصّن، فأقمار الإتصال تتطوّر يوما بعد يوم، بحيث يصبح بإمكان الشخص أن يستقبل أي إرسال عالمي، بمجرّد شراء جهاز التلفزيون الأحدث، و دون حاجة إلى ما نشهده من أطباق ضخمة، و أجهزة مركّبة
بدلاً من التباكي على التراث، و إطلاق صيحات الإستنفار بالنسبة لما تحمله لنا إقمار الإتّصال من معلومات و معارف، لماذا لا نسأل أنفسنا : كيف يمكن أن نربّي أجيالنا القادمة، بطريقة تتيح لها - دون تدخّل أو رقابة - أن تختار بين الغث و الثمين، ممّا تحمله إليهم موجات الأثير ؟ .. لماذا لا نعيد النظر في التعليم الحالي، الذي ما زال يقوم على الفرض و الإملاء و التلقين، رغم كلّ ما يدّعيه وزراء التعليم، عن رفضهم لتعليم التلقين، و نجاحهم في التحوّل إلى تعليم التفكير و الإبتكار ؟
و ما قلناه عن تعليم التلقين، ينسحب أيضا على إعلام التلقين و الفرض، الذي نأخذ به

التراث الهش، و عقدة عصر الصناعة

الملاحظ أنّنا نتحدّث عن تراثنا، و كأنّه شيئ هش، يتداعى إذا لمسناه، ممّا يعكس ضعف ثقتنا فيه . لقد أصبحنا نتعصّب لشيئ إسمه التراث، دون رغبة في مراجعة تفاصيله، و مدى مصداقيته . و هذا - في أغلب الظن - راجع إلى عقدة تولّدت في نفوسنا، في أعقاب ما فعلته بنا نمطيّة عصر الصناعة
فالنمطيّة أو القولبة أو التوحيد القياسي، كانت في صميم صالح المجتمع الصناعي، من النواحي الإقتصـادية و الإنتاجية و الإدارية و السياسية . و قد أشرنا من قبل إلى أن ثمن هذه النمـطية كان غاليا، عندما جرى تطبيقها على البشر . باعتبار أنّها تتناقض مع تفرّد و تباين البشر . و كانت الآثار السلبية لتطبيق النمطية على البشر مضاعفة، بالنسبة لشعوب الدول التي خضعت لإستعمار الدول الصناعية الكبرى

خصوصيّة الشعوب

عندما إستعمرت الدول الصناعية الكبرى شعوبنا العربية على مدى القرنين الماضيين، أعملت فيها مبدأ النمطيّة و القولبة، و حاولت فرض أنماط للحياة تتّفق مع مصالحها الإقتصادية، زاعمة أنّها تحمل قيم التقدّم و التطوّر . و كان التناقض أكثر عمقا، لأنّ الشعوب العربية لم تكن قد دخلت، من الناحية الإقتصادية والإنتاجية، إلى عمق الحياة الصناعية
و مع ذلك، فلا بدّ من الإعتراف بأن جهود قولبة البشر هذه لم تنجح، حتّي في الدول الصناعية ذاتها، باعتبارها متناقضة مع طبيعة الإنسان، بشكل عام . و خير دليل على ذلك، أنّنا ونحن عند نهايات عصر الصناعة، نرى مدي التمايز بين الإنسان الفرنسي و الأمريكي و الياباني و الروسي . مع كلّ جهود القولبة و التنميط، بقيت الخصائص الذاتية الأكثر أصالة لكلّ شعب
لقد ترسّخت في نفوسنا عقدة الخوف على خصوصيّتنا، حتّى بعد أن إنسحبت جيوش المستعمرين، وبعد أن إهتزّت دعائم المجتمع الصناعي الذي إستوجبها، و أصبحنا نحتضن في حساسية مرضيّة، كل ما نطلق عليه " قيمنا و تراثنا "، و يصيبنا الرعب لدى أيّة محاولة لتأمّل هذه القيم وفحصها ومراجعتها، أو لجرد و فحص ذلك التراث المتراكم لتخليصه من عناصر التخلّف فيه، التي تعوق تقدّمنا

القيم .. و المصالح الإقتصادية

من المفيد، أن تكون الآليّات التي تتشكّل بها القيم في أي مجتمع واضحة لنا . القيم لا تتحقّق و تسود على أرض الواقع، لمجرّد أنها عظيمة أو مرغوبة، أو نتيجة جهد من ينادون بترسيخها . فالقيم تسود أي مجتمع، عندما تتطلّبها المصالح الإقتصادية لذلك المجتمع، و ليس قبل هذا
و من ثم، فإن التحول من الواقع القيمي الراهن، إلى الواقع القيمي لعصر المعلومات، رهن بسيادة واقع مجتمع المعلومات، أي عندما يحتلّ إنتاج المعلومات و المعارف مركز الثقل في نشاطنا الإقتصادي

التوجّه الإبتكاري .. و التراث

إنّنا في إشدّ الحاجة، هذه الأيام، إلى إعادة النظر في قيمنا و تراثنا، حتّى نتعرّف على ما يؤدّي بنا إلى طريق السلامة، و ما يهوي بنا إلى قاع الندامة . علينا أن نعتمد على التفكير الناقد، الذي طرحنا عناصره بإختصار، و أن نلتزم بالتوجّه الإبتكاري الذي يتيح لنا أن نتحرّر من قبضة الركام الأثري على عقولنا
في هذا كلّه، نحتاج إلى الفهم و العزم . أن نفهم بوضوح عناصر التراث الأثرية، النابعة من إحتياجات مجتمعات منقضية . و أن نفهم سياق القيم التي نتمسّك بها، لكي نأخذ منها ما ينفعنا، و يتّفق مع المجتمع الجديد الذي نسعى لدخوله، و نسقط منها كل ما هو ضار ومتناقض مع عزمنا علي التقدّم وملاحقة ركب التطور، مهما طال أخذنا به تاريخيا
ولا بد من التأكيد على أن التوجّه الإبتكاري، و الإعتماد على آليّاته، يساعدنا على النظر إلى كلّ هذا بعين جديدة، و يوفّر لنا وضع أيدينا على البدائل الجديدة، الأكثر نفعاً لنا

No comments:

Post a Comment