Saturday, July 17, 2010

الحكومة و التعددية الجديدة

عالم اليوم ـ يوليو 1997ـ راجي عنايت

مجتمع التعدّدية الجديد
و دور الحكومة فيه


الثابت أن المجتمع و السياسة في الدول قد خضعا للتعدّدية .. خضع كلّ منهما بطريقة جديدة غير مسبوقة، و بطريقة تختلف في المجتمع عن السياسة . و على عكس التصوّر السائد من أن هناك مركز قوّة منظّم واحد، نعني الحكومة، فإن المجتمع و السياسة في الدول المتطوّرة يذخران الآن بمراكز القوة، المنفصلة عن الحكومة و الخارجة عنها
و لنبدأ بالتعدّدية الجديدة في المجتمع، و التي يكون تركيزها على الوظيفة و الأداء . إنّها تعدّدية تنظيمات الغرض الوحيد، كلّ منها تهتمّ بمهمّة إجتماعية واحدة : خلق الـثروة، أو التعلـيم، أو الرعاية الصحّية، أو تشكيل قيم و عادات الصغار . و من أهم ما يميّز هذه التعـدّدية الإجتماعيّة أنها غير سياسية بالمرّة
أمّا التعدّدية الجديدة في مجال السياسة، فتركيزها-على العكس من الأخرى- يكون على القوّة والسلطة والنفوذ . و هي تعدّدية جماعات القضيّة الوحيدة أو الإهتمام الوحيد، "حركات جماهيرية " من الأقلّيات صغيرة و على أعلى المستويات التنظيميّة . و كل منها تحاول الحصول من خلال القوّة على ما لا تستطيع الوصول إليه من خلال عدد أفرادها، أو إلحاحها . و كل منها سياسية تماماً
كل من هاتين التعدّديتين الجديدتين تعتبر تحدّياً للعملية السياسية، و للقيادة السياسية

المجتمع التعدّدي في عصر الصناعة

خلال عصر الزراعة الطويل، كانت المهام الإجتماعية إمّا ألاّ تجد من يقوم بها، أو كانت تقوم بها الأسرة أساساً، سواء في تعليم الصغار أو رعاية المريض و المسنّ . و ما أن إنتقلنا إلى عصر الصناعة، حتّى تكفّلت بهذه المهام تنظيمات و مؤسّسات : مشروعات النشاط الإقتصادي، و إتّحادات العمّال، و المستشفيات و نظم الرعاية الصحّية، و مراكز رعاية الطفل، و المدارس و الجامعات
كان لكل مؤسّسة من هذه المؤسّات غرضها الوحيد، و لم تكن سياسيّة بطبيعتها . و كلّما حاولت إحدى هذه المؤسّسات أن تتجاوز مجال إهتمامها الخاصّ، فقدت فعّاليتها على الفور . أساس هذه المؤسّسات كان: الوظيفة، و ليس القوّة
و في الوقت الذي بلغت فيه "سيادة" الدولة أوجها، خلال عصر الصناعة، بزغت قوّة جديدة حقيقيّة، نعني بذلك النشاط الإقتصادي الحر الحديث
و كان مركز القوّة الجديد المتمثّل في النشاط الإقتصادي الحرّ، هو العنصر الأوّل في زحف التعدّدية، و بدأ الناس يتناقشون حول العلاقة بينه و بين الحكومة، و بين القوّة العاملة ، أو المجتمع
و كانت الخدمات المدنيّة الحديثة هي الكيان التعدّدي الثاني، الذي ظهر في أعقاب كيان النشاط الإقتصادي، و راح ينمو في قوّته و حجمه

التعدّدية المعاصرة تختلف

و رغم أن التعدّدية ليست شيئا جديدا، إلاّ أن هناك إختلافات حاسمة بين ما كان قائما منها و ما يحدث الآن
جميع أشكال التعدّدية التقليدية كانت قائمة على "القوّة"، أمّا الجديدة فتقوم على "الوظيفة" . في التعدّدية القديمة، كان كل كيان يخضع لقوّة المستوى الأعلى، و يمارس قوّته على المستوى الأدنى منه، و كانت القوّة هي الأساس على مختلف المستويات . و على العكس من هذا، لا تهتم المنظمات التعدّدية الجديدة في المجتمع بالحكومة أو الحكم، إنّها مجرّد "عضو" في المجتمع، و نتائج جهدها تتمّ خارج الحكومة . "إنتاج" المشروع الإقتصادي يستهدف إرضاء المستهلك . و"إنتاج" المستشفى يستهدف علاج المرضى . و"إنتاج" المدرسة يستهدف الطالب، الذي سيسهم بعد عشرسنوات في مجال العمل، معتمداً على ما حصّله في المدرسة

خصائص التعدّدية الجديدة

التعدّدية الجديدة أكثر مرونة، و أقل إحداثاً للشقاق و الخلاف، من سابقتها . و المؤسّسات الجديدة لا تتعدّى على السلطة السياسيّة، أو تنتقص منها، كما كان الحال سابقا مع مؤسّسات التعدّدية القديمة، سواء جاء ذلك من جانب كنيسة العصور الوسطى أو بارونات الإقطاع . و على عكس ما كان حادثاً، لا تشترك المؤسّسات الجديدة في إهتماماتها، أو في رؤيتها للحياة
كل واحدة من مؤسّسات التعدّدية الجديدة تتمسّك بهدفها الخاص باعتباره أساساً لنشاطها، و قيمة نهائية لها، و الأمر الذي يهم أكثر من غيره . كل مؤسّسة جديدة من مؤسّسات التعدّدية، تتكلّم بلغتها، وتتمسّك بمعارفها الخاصّة، و سلّمها الوظيفي الخاص، و قبل هذا و ذاك قيمها الخاصّة . لا ترى أي منها نفسها مسئولة عن المجتمع ككل
ّ
الوضع الجديد للفرد

شبيه بهذا وضع الفرد . و هو بالمثل لا يتوافق مع مازالت تراه النظرية السياسية و الإجتماعية: الوضع العادي
يقول بيتر دراكر " خلال القرن التاسع عشر، كان هناك نموذجان متنافسان للمجتمع . الأول يرى المجتمع مكوّناً من من صغار المستقلّين : الفلاّح بقطعة أرضه و ماشـيته، وصاحب المتجـر الصغير و الحرفي . ومن الممكن أن
يتساوى هؤلاء . لا يحتكم أي منهم على نفوذ أو ثروة، و إن كان لا يعاني من الفقر المدقع أو الإعتماد على الغير . و قد صاغ توماس جيفرسون، في الولايات المتّحدة، هذا المفهوم بأكبر قدر من الوضوح، رغم وجود نظائر له في كل دولة أوروبية . و عندما توفي جيفرسون، عام1826، كان من الواضح للجميع أن المجتمع لا يمضي وفقاً لتصوّره ذلك .
و في النموذج الثاني، قامت المدينة الفاضـلة المضادّة، و التي وجدت التعبير النهائي و الأوضح لها على يد النبوءة الماركسية، حول مجتمـع يتكوّن من كتلة جماهيرية هائلة، من البلوريتاريّين المتساوين في فقرهم، و في خضوعهم للإستغلال، و في إعتمادهم على الحكومة

تعدّدية العمالة المعـرفيّة

لكن الذي حدث بعد ذلك جاء مغايراً، فلم تتحقّق أيّ من النبوءتين، نبوءة جيفرسون و نبوءة ماركس
. و الحق، أنّه لم بكن بإمكان أي أحد، قبل خمسينيّات و ستينيّات هذا القرن، أن يتخيّل مجتمعا من "العمّال المعرفيّين"، الذين لا يستغلّهم أحد، و لا هم يستغلّون أحد . الذين هم ليسوا رأسماليين كأفراد، لكنّهم كمجموعة يمتلكون أدوات إنتاجهم من خلال موارد معاشاتهم، و من مواردهم المتبادلة، و من إدخاراتهم . و هم يخضعون لتنظيم عملهم، و لكنّهم أيضا غالباً ما يكونوا رؤساء أنفسهم . هؤلاء العمّال، أو الموظّفين، يكونون مستقلين ، ومعتمدين على غيرهم في نفس الوقت . لديهم صلاحيات الحركة الحرّة، و لكنّهم أيضا يحتاجون إلى الدخول في تنظيم- بإعتبارهم (مستشارين) إن لم يكونوا موظّفين- لكي يكون لهم تأثيرهم

تحديات التعدّدية الجديدة

غالبا ما تتجاوز التعدّدية الجديدة الحدود الجغرافيّة
كان النشاط الإقتصادي الحر، هو الأول من بين تنظيمات التعدّدية الجديدة في تحقيقه ذلك . لقد إكتسب صفة "تعدد الجنسيات" منذ وقت مبكّر، في ستّينيّات و سبعينيّات القرن التاسع عشر . لكن العديد من المؤسّسات الأخرى بدأت تسلك نفس النهج، بشكل سريع . لقد فعلت ذلك مؤسّسات المحاسبة و المؤسّسات القانونية، و بالمثل المؤسّسات الإستشارية . حتّى الجامعات تصبح الآن " عابرة للجنسيّات". و هذا كلّه لا يتوافق مع النظريات السياسيّة التي ما زالت تسيطر على تفكيرنا، و على تعليمنا، و على تناولاتنا القانونية
و إذا ما إتّخذنا التاريخ هاديا لنا، فقد يقتضينا الأمر قرنا من الزمان، أو ما هو قريب من ذلك، قبل أن نصل إلى المبادئ القانونية و السياسية، التي تتّفق مع حقائق التعدّدية الجديدة . لكنّنا لا نستطيع الإنتظار حتّى ينتهي الفلاسفة من التفسير النظري لما حدث بالفعل . لقد أصبح من الضروري أن يبدأ السياسـيّون و المحاكم و رجال الأعمال و مديرو التنظيمات الجديدة عملهم و حركتهم..لكن هذا سيتم في مواجهة العديد من التحدّيات
لقد بدأت تظهر تحدّيات التعدّدية الجديدة في خمسة مجالات
أولا : المسئولية الإجتماعية لمؤسّسات التعدّدية
ثانيا : مسئولية المجتمع
ثالثا : المسئولية السياسيّة
رابعا : حقوق و مسئوليّات الفرد
خامسا : دور و وظيفة الحكومة في مجتمع التعدّدية

و إلى الرسالة التالية، لنستعرض المسئوليات الاجتماعبة و السياسية لهذه المؤسسات التعددية

Friday, July 2, 2010

أوهام ترسّخ تخلّفنا

ثمانية أوهام
تعوق جهود سعينا للتقدّم

من خلال اللقاءات و الحوارات حول المستقبل و الرؤية المستقبلية، مع مختلف المفكّرين و أصحاب الاهتمام العام و الساسة، اكتشفت أن سر فشلنا في الوصول إلى حلول مستدامة لمشاكلنا، لا تتولّد عنها مشاكل جديدة في المستقبل، هو أننا ما زلنا نتمسّك ببعض الأوهام الشائعة التي تعتبر السبب الأول في تخلّفنا، و عدم قدرتنا على تجاوز ذلك التخلّف و اللحاق بركب التطوّر العالمي .
كنت أسأل نفسي دائما
أولا : لماذا مع كلّ الجهد و الإخلاص و رصد الأموال، لا نصل إلى حلول باقية لمشاكلنا ؟
ثانيا : لماذا ما نكاد ننتهي من مواجهة مشكلة ... حتّى نكتشف أن هذه المواجهة قد ولّدت مشاكل مستجدة، غير مسبوقة ؟
ثالثا : لماذا لا تتراكم الحلول، لكي تدفع بنا خطوة في سبيل التقدّم ؟
رابعا : و أخيرا، من أين نبدأ في مواجهة هذا الوضع المأساوي، الذي يذكّرنا بأسطورة " سيزييف "، الذي ما كان يتصوّر أنّه قد نجح في حمل الحجر إلى قمّة الجبل، حتّى يجده قد تدحرج إلى أصل الجبل، و أن عليه أن يكرّر المحاولة المرّة بعد الأخرى ؟

ثمانية أوهام كبرى
يبدأ الحلّ ـ في رأيي ـ بالتخلّص من بعض الأوهام الكبرى الراسخة في تفكيرنا جميعا . و سنورد فيما يلي ثمانية منها، نرى أنّها الأكثر أهمية و خطورة، و هي :
وهم إمكان حلّ المشاكل المختلفة، كلّ على حدة في زمن التغيير الشامل .
وهم إمكان الاعتماد حاليا على الخبرات السابقة .
وهم الاعتقاد بثبات معنى الاصطلاحات و الأشياء .
وهم إمكان الانطلاق من عقيدة أو أيديولوجية سابقة .
وهم إمكان الوصول إلى حلول حقيقية في غياب رؤية مستقبلية .
وهم صياغة رؤية مستقبلية لا تقوم على أساس فهم جوهر التغيّرات العالمية الحالية .
وهم إمكان التعامل مع المتغيّرات العالمية، دون التعرّف على جذورها، و علاقاتها المتبادلة .
وهم إمكان صياغة رؤية مستقبلية على يد الصفوة عند القمّة
و كنت قد تقدّمت بورقة حول هذه الأوهام، من خلال جلسات المؤتمر العام لجمعية مستقبل العالم، الذي يعقد بواشنطن كلّ أربعة أعوام . و قد قامت المجلة الفصلية التابعة للجمعية، مجلة الأبحاث المستقبلية، بنشر تلك الورقة، التي أطرح هنا ترجمة مختصرة لها

أولا : وهم التصدّي المنفرد للمشكلة

وهم إمكان التوصّل إلى حلول باقية للمشكلة بالتناول المباشر، دون التعرّف على أبعادها و ارتباطاتها، من الأوهام الشائعة التي نلمسها يوميا في تصريحات المسئولين و رجال الأحزاب، في الجرائد و المجلاّت و التلفزيون و الإذاعة، و الندوات و المؤتمرات .. و دعونا ننظر إلى نموذج متكرّر لهذا الوهم، في مجال مشاكل المرور، و ما يترتّب عليها من ضياع للجهد و الوقت و الطاقة، بالإضافة إلى المزيد من تلويث البيئة . و دعونا نتأمّل كيف يجري التفكير في محاولات حلّ هذه المشكلة، بإقامة الكباري العلوية و حفر الأنفاق، لنكتشف بعد قليل أن ذلك الحل قاد إلى تدفّق المزيد من السيارات على الطرق، و أنّها قد فتحت شهيّة الجمهور إلى اقتناء المزيد من السيارات .
مثل هذه الحلول الجزئية المباشرة لا يمكن أن تعالج جذور المشكلة، ذلك لأن حلّ هذه المشكلة يرتبط بعديد من الجوانب التي قد لا نتصوّر علاقة بينها و بين مشاكل المرور .. و التي منها
المركزيّة الممعنة
في مصر، ما زلنا نأخذ بالنظام البيروقراطي المركزي، و بالتسلسل الهرمي للرئاسات، في جميع مؤسّساتنا الحكومية و العامة، و في العديد من الخاصّة أيضا . و هكذا تركّزت قيادات ضروب النشاط الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي في القاهرة . صاحب المصلحة ـ أيا كانت تلك المصلحة ـ لا يستطيع أن يبتعد عن قلب القاهرة، حيث تتركّز مراكز اتّخاذ القرار، لكي يكون مطمئنا على متابعة إنجاز أعماله، و حيث تتركّز الخدمات الأساسية و وسائل الترفيه الأكثر جذبا .
محاولاتنا في مجال الحكم المحلّي، و الإدارة المحلّية، لم تصادف نجاحا ملموسا نتيجة لتلك المركزية الممعنة، التي تأبى أن تعيد النظر في نفسها، حتّى بعد أن تخلّت معظم الدول و المؤسّسات المتطوّرة عن النظام المركزي، لتناقضه مع طبيعة و احتياجات مجتمع المعلومات
اتصل، و لا تنتقل
مع تطوّر تكنولوجيات الاتّصال و المعلومات، ظهر شعار " اتّصل و لا تنتقل " . إذا كان بإمكانك أن تنجز عمل ما، و أنت جالس في مكتبك أو منزلك، بالاعتماد على وسائل الاتّصال المختلفة من تليفون إلى فاكس إلى كمبيوتر و إنترنيت، فما الذي يجبرك على الخروج إلى الطريق بسيارتك ؟ .
لقد أثبتت الدراسات أنّ 30% من الأعمال، يمكن أن يقوم بها العاملون في منازلهم، دون الحاجة إلى الانتقال إلى مقرّ العمل، إلا في مواعيد متباعدة . و هذا يعفينا من البحث عن سكن في قلب العاصمة، أو قريب من قلبها، أو في ضواحيها اللصيقة، فنختار للسكن مكانا يبعد عشرات الكيلومترات عن مقرّ العمل، أو قيادته، يغلب أن يكون أفضل من الناحية الاقتصادية و الصحّية . وبديهي أن تحقّق هذا رهن بتوفير وسائل الاتّصال المتطوّرة، التي تخفّف الضغط على الانتقالات، و على طرق العاصمة بالتبعية
وسائل الانتقال العامة
ومشكلة المرور، تتّصل أيضا بمدى كفاءة وسائل الانتقال العامة، التي تخفّف الضغط على استخدام السيارات الخاصّة . و خير مثال على ذلك التوسّع في شبكات مترو الأنفاق، التي تحدّ من استخدام السيارات الخاصّة و العامّة على الطرق
سياسات الإسكان
نتيجة لأزمة المساكن، يضطر المواطن إلى استئجار أي مسكن جديد متاح، بصرف النظر عن مدى قربه من مجال عمله، أو عمل زوجته، أو مدارس أولاده . مع أن الأصل في إقامة المجتمعات السكنية الكبيرة، التي تقيمها وزارة الإسكان، أن يشغلها أولئك الذين يرتبطون بأعمال قريبة منها، لكي لا يضّطرون إلى قطع المدينة من شمالها إلى جنوبها، مماّ يضاعف الضغط على الطرق

بتأمّل هذه العوامل المختلفة، نرى أن حلّ هذه المشكلة، لا يمكن أن نلتزم فيه بالمأخذ الأحادي الجزئي، فالمشكلة تتصل بمسألة المركزية، و سياسة إقامة المشروعات الإنتاجية الضخمة، و سياسات الإسكان عندنا، و بمدى كفاءة وسائل الانتقال العامة، و بمدى تطوّر وسائل الاتصال المتاحة للأفراد
و نفس الشيء ينسحب على تفكيرنا في حل باقي مشاكلنا، في التعليم متواصل الهبوط رغم دعايات المسئولين، و الصناعة التي ما زالت لا تتّفق مع حقائق الأوضاع التجارة العالمية التي ستطبق علينا، كذلك الإدارة و الطاقة و الديموقراطية.. وغير هذا من المشاكل التي لا يفيدنا أن نبحث عن حلول لها معزولة عن الواقع العام الذي تنشأ فيه، و دون أن نفهم العلاقات متبادلة التأثير بين الأشياء و بين النشاطات


ثانيا : وهم إمكان الاعتماد على الخبرات السابقة

الوهم الثاني، هو وهم الاعتماد على الخبرات السابقة في حلّ مشاكلنا الحالية . و معظم التخبّط الذي يعيشه العالم العربي، يعود إلى عدم القدرة على التمييز بين أوراق الماضي الذي انقضى، و بين أحوال المرحلة الانتقالية الحاضرة التي نعيشها، و بين مؤشّرات المستقبل الذي نمضي إليه
الحدّ الأدنى في هذا المجال، أن يفهم المفكّر العربي خصائص كلّ من مجتمع الزراعة الذي عشنا واقعه لآلاف السنين و ما زلنا نقع في أسره بالنسبة للكثير من قيمنا و أفكارنا و عاداتنا . و خصائص مجتمع الصناعة الذي سادت قوانينه على مدى ما يزيد من قرنين معظم دول العالم، سواء التي تحوّلت من الزراعة إلى الصناعة أو التي خضعت لاستعمار الدول الصناعية . و أخيرا، التمييز بين ذلك كلّه، و بين واقع مجتمع المعلومات الذي بدأ يفرض نفسه على حياة البشر، منذ ما يقرب من نصف قرن .. بدون هذا التمييز، لن يتمكّن المفكّر العربي من قراءة الأحداث الجارية، و فهم مغزاها .
و حتّى القلّة التي تعترف بزحف حقائق مجتمع المعلومات على حياتنا، كثيرا ما تقع في استخلاصات خاطئة، نتيجة لتطبيق أفكار و مبادئ و عقائد و فلسفات عصري الزراعة و الصناعة المنصرمين، على مجتمع المعلومات الذي يسود البشر حاليا
!تحيّة العلم، و طابور الصباح
أذكر أن أحد وزراء التعليم، من الذين يحلو لهم التحدّث عن مجتمع المعلومات و تكنولوجيا المعلومات، أدلى بتصريح عند بداية تولّيه للوزارة، جاء نموذجا للخلط بين القديم و الجديد
تكلّم الوزير عن أهميّة إصلاح التعليم، و تخليصه من التلقين، و تنقية الكتب المدرسية من الحشو الزائد عن الحدّ .. ثم قال بعد ذلك، ربّما متأثّرا بفاشستية منظمة الشباب التي ترعرع فيها معظم طاقم الوزراء عندنا، أنّه ينوي إعادة الانضباط إلى المدرسة المصرية، موضّحا كيف سيعيد إلى المدارس تحيّة العلم و طابور الصباح و النشيد الجماعي
لم يستطع الوزير أن يميّز بين تعليم عصر الصناعة، و بين التعليم المنشود لعصر المعلومات . و قد خلط بين التوجّهات السليمة للتعليم في عصر المعلومات، كتخليصه من التلقين الذي تقتضيه طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات، و الذي يستهدف تعويد التلميذ على إعمال العقل، لكي يكون مؤهّلا لدخول مجال العمل العقلي الذي يسود عمالة مجتمع المعلومات . خلط بين هذا و بين سمات التربية و التعليم في عصر الصناعة، التي عرفنا فيها تحيّة العلم و طابور الصباح و النشيد الجماعي، و هي مع غيرها من مقوّمات عصر الصناعة تستهدف زرع النمطية التي يستلزمها الإنتاج في المجتمع الصناعي، و تقوم على فهم العمل باعتباره مجموعة من المهام الروتينية البسيطة المتكرّرة، التي لا تستدعي إعمال العقل و تشغيله .
!صرح الصناعات الثقيلة
و في مؤتمر شاركت فيه عن مستقبل الإدارة في القرن الحادي و العشرين، وقف وزير الصناعة متحدّثا عن ضرورة اللحاق بركب الدول الصناعية المتطوّرة، ثم أعلن عزمه على البدء في إقامة صرح للصناعات الثقيلة، باعتبار أن هذا هو هدف مصر الصناعي في القرن الحادي و العشرين
كنت أتصوّر أنّه سيتحدّث عن خطط وزارته و استراتيجيتها للبدء في إدخال الصناعات المعلوماتية الجديدة، التي ستحلّ محل الصناعات الثقيلة التي أخذ بها المجتمع الصناعي، رغم غلظتها و استنزافها للمواد الخام و الطاقة و تلويثها للبيئة . توقّعت منه أن يتحدّث عن تشجيع الصناعات الصغيرة القائمة على التكنولوجيا الإلكترونية المتطوّرة، و نشر هذه الصناعات على أنحاء البلاد و إنهاء تكدّس المدن في المناطق و التجمّعات الصناعية، على أساس الاستفادة من مصادر الطاقة الجديدة و المتجدّدة أينما وجدت . انتظرت أن يحدّثنا عن خططه للتدريب التحويلي، الذي يجب أن نخضع له العمالة الحالية، لكي تتحوّل من عمالة عضلية إلى عمالة عقلية، تحسّبا لمواجهة البطالة البنيوية الشاملة، التي تأتي بها التحوّلات الحالية في مجالات العمل و الإنتاج و الاقتصاد
لقد خلط الوزير بين أوراق الماضي و المستقبل
خلط في شعارات الوحدة و الديموقراطية
و نتيجة لخلط أوراق و أفكار و عقائد الماضي بالمستقبل، نجد من يخلط بين مقتضيات قيام المجتمع الصناعي التاريخية، و ما استوجبته من توحيد للكيانات السياسية الصغيرة في كيان كبير، لخدمة اقتصاد عصر الصناعة، و بين بقايا أحلام بعض العرب بقيام وحدة اندماجية سياسية و اقتصادية بين الدول العربية، لمواجهة أعداء الأمّة العربية، على نسق ما جرى في إيطاليا على يد غريبالدي، و في ألمانيا على يد بسمارك، و في بعض الدول الصناعية الأخرى، في الشرق و الغرب .. و يتواضع البعض الآخر ليطالب بنوع من الاتحاد، يشبه الاتّحاد الأوروبي المعاصر
هذه الأحلام و المطالبات تكشف عن خلط بين أوراق الماضي و المستقبل
الفاهم لطبيعة التحوّل السياسي في مجتمع المعلومات، يدرك أن أيّ تجمّع حالي بين كيانات اجتماعية أو سياسية، لا يمكن أن يتم على النسق الهرمي الذي التزم به المجتمع الصناعي كأساس تنظيمي للدولة القومية . بل على العكس من هذا، تفرض طبيعة مجتمع المعلومات أن تقوم الكيانات الأكبر على أساس التنظيم الشبكي، وفقا للمصالح المتبادلة بين الأطراف، و طالما استمرت تلك المصالح قائمة
سينجح الجهد الحالي لإقامة الوحدة الأوروبية، بقدر ما يسود هذا الفهم بين الدول و الشعوب الأوروبية .. فنحن لسنا بصدد إقامة نظام ولايات أوروبية متحدة، على نمط الولايات الأمريكية المتحدة

ثالثا : وهم ثبات معاني المصطلحات

الكثير من الخلط و سوء الفهم الذي يسود حواراتنا يرجع إلى تصوّر البعض ثبات معاني الكلمات و المصطلحات و الأشياء .. و حقيقة الأمر أن معاني الأشياء تتغيّر بتغيّر النظام المجتمعي السائد في الحياة . إنّنا لا نصل إلى حلول لمشـاكلنا الحالية، لأنّنا نتعامل مع الكلمات و المصطلحات و الأشياء بمعناها القديم، أو بمعنى أدق المعنى النابع من ظروف مجتمعية سابقة غير الظروف السائدة
عدم فهم المعنى المعاصر للكلمة، و عدم الانتباه لتغيّر معناها السابق بتغيّر الواقع المجتمعي، يقود إلى الكثير من الخلط و التضارب فيما نقوله، و يفقد حواراتنا جدواها . إنّنا نتناقش حول الاقتصاد و الديموقراطية و التعليم و الأسرة و الإدارة و القيم و الأخلاق، فلا نصل إلى الحد الأدنى من الفهم المشترك، الذي يسمح لنا بمواجهة مشاكلنا بشكل عملي، في كل مجال من هذه المجالات .. و السبب في هذا أن الكلمات و المصطلحات كائنات عضوية، تتغيّر بتغيّر النظم المجتمعية السائدة
مثال ذلك ما يحدث عندما نتكلّم عن أمور الأسرة و مشاكلها، فنرى كل واحد ينطلق من قاموسه الخاص، و معنى الأسرة الذي يعنيه، فلا نصل إلى نتيجة ما . مصطلح " الأسرة "، يكون له معناه الخاص، وفقا لنوع المجتمع السائد : زراعي، أم صناعي، أم معلوماتي
في المجتمع الزراعي، الذي ما زالت الكثير من رواسبه باقية في حياتنا، ربّما في بعض أعماق الريف، كانت الأسـرة كبيرة الحجم تضمّ عدّة أجـال من الأبناء و الأحفـد و الأقارب، وتعمل كوحدة إنتاجيــة استهلاكية . كانت الأسرة تتكفّل بجميع احتياجات أفرادها، التي كانت محدودة و تنحصر في توفير المسكن و الطعام و التعليم و الرعاية الطبّية، و تنظيم العلاقة بين أفرادها وفقا للقيم السائدة
عندما بدأ زحف عصر الصناعة منذ حوالي قرنين و نصف، شعرت الأسرة بضغوط التغيير، و تلقّت السلطة الأبوية ضربة محسوسة، و تغيّرت العلاقة بين الآباء و الأبناء . و مع تحوّل الإنتاج الاقتصادي الأساسي من الحقل إلى المصنع، لم تعد الأسرة الممتدّة كبيرة العدد صالحة للحياة الجديدة . لقد تطلّب المجتمع الصناعي من العامل في المصنع أن يكون قادرا على الانتقال من مكان لآخر، وفقا لحاجة العمل الصناعي، و مع الانتقال إلى المدن تحت وطأة الاضطرابات الاقتصادية المصاحبة للتغيير، تخلّصت الأسرةمن الأقارب، و وصل بنا الأمر إلى " الأسرة النـووية "، و التي تتكوّن من الأب و الأم و عدد قليل من الأبناء
و لكي يتفرّغ العامل لعمله في المصنع، نشأت مؤسّسات متخصّصة للقيام بالمهام التي كانت توكل تقليديا للأسرة، فأوكل تعليم الأطفال و الصغار إلى المدارس، و الرعاية الصحّية للمستشفيات، و الاهتمام بكبار السن و رعايتهم إلى الملاجئ و بيوت العجزة . مع كل هذه التغيّرات، كان لابد أن تتغيّر القيم الأسرية التي كانت سائدة في عصر الزراعة، لتحلّ محلّها قيم جديدة نابعة من احتياجات و عقائد عصر الصناعة
و اليوم، و نحن ننتقل من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات، يتأسّس شكل جديد للأسرة، غير الذي عرفناه في عصر الزراعة أو الصناعة . فيصبح للأسرة شكلها الجديد و قيمها الجديدة، الأمر الذي سيكتمل، عندما يتم التحوّل إلى مجتمع المعلومات
المهم، عندما نتكلّم و نتناقش حول الأسرة، يكون علينا أن نحدّد عن أيّة أسرة نتكلّم
انقضاء أجل ديموقراطية التمثيل النيابي
و نحن أيضا نتناقش و نتحاور حول الديموقراطية، دون أن نحدّد أيّة ديموقراطية نعني ..فعلى مدى التاريخ تغيّر مضمون و شكل الممارسة السياسية مع تغيّر الأسس المجتمعية السائدة
البعض يقول ديموقراطية، و هو يعني الشكل الديموقراطي الناقص الذي كان سائدا طوال عصور الزراعة، و الذي لم يكن يتجاوز " الشورى "، مع بقاء صلاحيات صناعة القرار عند الحاكم أو الوالي أو الشيخ .. و التي عبّرت عنها قصص ألف ليلة بعبارة " دبّرني يا وزير .." ! . لقد كانت الشورى هي الحدّ الأقصى للديموقراطية على مدى عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة
و البعض الآخر، عندما يقول ديموقراطية، فهو يعني الشكل السائد حاليا في عديد من الدول، ديموقراطية التمثيل النيابي، التي ابتكرها المجتمع الصناعي، لسدّ جانب من احتياجات اتّخاذ القرار التي تضخّمت مع دخولنا إلى الحياة الصناعية . ديموقراطية تقوم على تجميع الجماهير في أحزاب، و قيام الفرد بتوكيل من ينوب عنه في عملية المشاركة في اتّخاذ القرار، هذه الديموقراطية البرلمانية التي لم تعد تحقّق أحلام البشر، في الدول النامية و المتطوّرة معا
و يندر أن تجد من يفهم المعنى المعاصر للديموقراطية، النابع من احتياجات و طبيعة الحياة في مجتمع المعلومات .. يندر أن تجد من يتحدّث عن ديموقراطية المشاركة، أو الديموقراطية التوقّعية، ممّا نوضّح معانيه و طبيعته فيما يلي من حديث
المهم، أن الحديث عن الديموقراطية يجري في اللقاءات دون الاتفاق على الحد الأدنى من الفهم، نتيجة عدم الانتباه للتغيّرات التي تطرأ على مفهوم الديموقراطية، من عصر إلى عصر
من المدير .. إلى القائد
نفس الخلط يحدث في مجال حيوي آخر، هو الإدارة . و رغم أن الإدارة تعتبر عنصرا هاما في مجال النشاط الاقتصادي، فما زلنا نرى العديد من خبراء الإدارة و الاقتصاد عندنا، الذين يقفون عند مفهوم الإدارة الذي كان شائعا على مدى عصر الصناعة، دون أن ينتبهوا إلى عواقب إهمال التغيّرات التي طرأت على هذا المجال بالدخول إلى عصر المعلومات
غاية ما نسمعه في الندوات و الموائـد المسـتديرة، حديث عن التجويد، و استعارة لبعض المصطلحات الشائعة، دون إدراك السياق الذي تنبع منه . لقد كان الكثير من المختصّين في مجال الإدارة، يبدون انزعاجا كلّما قلت أن التغيّرات التي يأتي بها مجتمع المعلومات تحتاج إلى إعادة بناء شامل للمؤسّسة أو الشركة أو الهيئة، العامة أو الخاصّة . و أن هرم تسلسل الرئاسات الذي كنا نأخذ به، قد أخلى السبيل لتنظيمات شبكية جديدة، لا تشبه في شيء التنظيمات التي عرفناها على مدى 200 سنة مضت . و أن رئاسة العمل تنتزع من يد المدير الآمر المحتكر لسلطة اتّخاذ القرار، لتوضع في يد قائد العمل المشارك الذي تكون مهمته الأولى تسهيل و تيسير عمل من يشاركونه
المصطلحات كائنات حيّـة
ما قلناه عن الأسرة و الديموقراطية و الإدارة، ينسحب أيضا على الاقتصاد و التعليم و كافة مجالات النشاط البشري الأخرى
وهم الاعتقاد بإمكان ثبات و استقرار مفهوم الكلمات و المصطلحات، يعوق أيّ تفكير نقوم به لاستشراف المستقبل، و يحيل حديثنا إلى حوار طرشان
بل أن مفاهيم الزمان و المكان تتغيّر أيضا مع تغيّر الأسس المجتمعـية التي تقوم عليها حياتنا . في هذا يقول جون جريبين، عالم الطبيعة الفلكية، و الكاتب العلمي " .. لم يعد الزمان شيئا ينساب إلى الأمام بلا رجعة، وفقا لإيقاع ساعاتنا و تقاويمنا، فقد ثبت علميا أنّه بطبعه يدور و ينكمش و ينبسط ! .."، و هو ما قال به أينشتين في نظرية النسـبية . دخولنا إلى مجتمع المعلومـات، يدخلنا في علاقـات جديدة، في كلّ مجال، و أيضا مع الزمان و المكان
خلاصة القول، أن المصطلحات كائنات حيّة، يتغيّر معناها و يتطوّر مضمونها مع الزمن .. لهذا، فإن الاتّفاق على التعريف المعاصر للمصطلح، أمر ضروري للوصول إلى تفكير أو حوار مثمر

رابعا : إمكان الانطلاق من عقيدة سابقة

قد يعترض البعض على وصف الانطلاق من عقيدة أو أيديولوجية بالوهـم، و قد يقول البعض الآخر أنه من الصعب تصوّر حياة الإنسان، بدون عقيدة أو أيديولوجية، فأعظم إنجـازات البشرية كانت تقوم على عقيدة معيّنة أو فلسفة خاصّة أو أيديولوجية محدّدة . غير أن الوهـم الذي أتحدّث عنه، هو وهم تصوّر إمكان تطبيق عقيدة أو أيديولوجية، نابعة من مواصفات مجتمـعية معيّنة، على ظروف مستجدّة نابعة من مواصفات مجتمعية مختلفة
نحن في حاجة شديدة لمراجعة العقائد و الأيديولوجيات التي شاعت في عصر الزراعة، و أيضا في عصر الصناعة، لنرى مدى توافق السياق الذي خرجت منه مع أوضاعنا المجتمعية الراهنة و القادمة، بكلّ ما تتّسم به من تغيّرات جذرية متسارعة غير مسبوقة
و نحن نعلم مدى صعوبة تنازل الفرد عن عقيدة آمن بها لسنوات سابقة . و خير مثال على هذا، عقيدة أن الأرض منبسطة ساكنة و أن الشمس تدور من حولها، ما زالت بعد مئات من سنوات التنوير التي كشف فيها علم الفلك طبيعة العلاقة بين الأجرام السماوية، و بعد أن التقطت مراكب الفضاء صورا و أفلاما تظهر الأرض ككرة، تجد من يتمسّك بها في بعض المجتمعات المتخلّفة . و السر في هذا هو أن اقتلاع العقيدة الخاطئة أو التي قد ولّى زمنها يحتاج إلى نوعين من الجهد، في الوعي و اللاوعي معا
العيب في التطبيق
و من الأمثلة القريبة الواضحة على هذا، الوهم الذي يقع فيه من يقولون بأن الماركسية كعقيدة ما زالت صالحة كأساس للمجتمع البشري، و أن ما حدث من انهيار في الدول الاشتراكية يرجع إلى عيوب و أخطاء في تطبيقها .. و كذلك الوهم الذي بقع فيه من يعتقدون أن سقوط الاشتراكية معناه الانتصار النهائي للنظام الرأسمالي . إلى هذه الأوهام يعود الكثير من المشاكل و المآسي التي يعاني منها المجتمع البشري حاليا
الذي قلته ـ أكثر من مرّة ـ في كتاباتي عن المستقبل، هو أن الاشتراكية و الرأسمالية معـا، وجهان لعملة واحدة، هي مجتمع الصناعة، بأسسه و مبادئه و عقائده .. و أن تلك العملة قد بدأت تفقد قيمتها و تختفي من التعاملات الحديثة . العمّال الذين تتحدّث عنهم الماركسية، هم عمّال عصر الصناعة : يعتمدون على العمل العضلي البسيط المتكرّر، الذي لا يحتاج إلى تفكير أو إعمال للعقل، و هي نفس صفات عمّال المجتمع الرأسمالي . و المجتمع الذي ترسمه الماركسية هو مجتمع الصناعة الجماهيري، الذي يقوم على التوحيد القياسي و النمطية، و يدار من أعلى وفقا لتسلسل الرئاسات الهرمي المركزي، الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي
فالماركسية بهذا، قامت أساسا لتتعامل مع المجتمع الصناعي، و تلتزم بخصائصه في العمل و الإنتاج و التنظيم الإداري و التركيب الاقتصادي . و هو نفس ما قامت عليه رأسمالية آدم سميث و ريكاردو . لهذا،بصرف النظر عن سلبيات و إيجابيات هذا أو ذاك، فإن انقضاء عصر الصناعة و الدخول إلى عصر المعلومات، بأسسه و مبادئه المناقضة غالبا مع أسس و مبادئ عصر الصناعة، يجعل تصوّر استمرار الاعتماد على أي من الأيدلوجيتين، في التفكير و التنظيم و التخطيط، وهما كبيرا
خلاصة القول، لا توجد عقيدة أو أيديولوجية صالحة لكل زمان و مكان . و أكثر أوهام التفكير ضررا، تصوّرنا إمكان حلّ مشاكلنا، و إعادة بناء حياتنا، على أيديولوجية أو عقيدة نابعة من نظام مجتمعي سابق، لم يعد يسود حياتنا


خامسا : التناول الأحادي في زمن التغيير

في أوضاع الاستقرار، و الثبات النسبي، و التغيّرات المحدودة، يسهل تصوّر أي جانب من جوانب النشاط البشري، دون الوقوع في أخطاء فادحة
منذ مئات السنين، كان في إمكان صانع القرار، في مجتمع معيّن، أن يصل إلى حلّ مشكلة معيّنة، أو يخطّط لنشاط ما، دون اعتبار كبير للتغيّر في العلاقات بين ذلك النشاط و غيره من النشاطات الأخرى .. كل ما كان عليه، هو أن يرسم خطّا مستقيما في الرسم البياني الذي يسجّل تطوّر ذلك النشاط، و يمدّه على استقامته لكي يتعرّف على مستقبل تطوره عند زمن معيّن، تحدّده نقطة على ذلك الخط المستقيم
و ما زال بعض صنّاع القرار عندنا، و عند غيرنا من الدول غير المتطوّرة، يتّبعون نفس المنهج القديم، ربّما يكون مرجع ذلك إلى التعوّد، أو افتقاد البدائل الأسلم . و عندما يتكرّر فشلهم، المرّة تلو الأخرى، غالبا ما يرجعون ذلك الفشل إلى العديد من الأسباب و الاعتبارات، والتي لا يكون من بينها السبب الحقيقي أو الاعتبار الأساسي للفشل، ألا وهو التناول الأحادي في زمن التغيير الجذري الشامل
الذي يجب أن نأخذه في اعتبارنا عند محاولة فهم أو مناقشة أيّة مشكلة و السعي إلى حلّها، هو أن الوضع حاليّا لا يمكن وصفه بالاستقرار أو الثبات النسبي .إذا ما استطعنا أن نخرج أنفسنا من محنة حياتنا اليومية و ما يكتنفها من مصاعب و مشاكل، و تأمّلنا بتركيز مسيرة الحياة، تحت أقدامنا، و من حولنا، على مدى العقود الأخيرة، تحقّقنا من أنّنا نمرّ عبر عصر غير مسبوق في التاريخ .. ما نحن بصدده ليس مجرّد تغيّرات كبرى، أو تطوير في هذا المجال أو ذاك، إننا بصدد تغيرات ثورية حقيقية
هذه التغيّرات المتسارعة، تؤثّر على جميع مظاهر الحياة بلا استثناء، في البيت و المدرسة و المصنع و المكتب، و تعيد بناء نظم الطاقة و المواد الخام و الاتّصال و الانتقال و الاقتصاد .. بل وتعيد تشكيل نظم الممارسة الديموقراطية، و معنى السيادة الدولية . هذه التغيرات الثورية تعمّ المجتمعات البشرية جميعها بلا استثناء، من أمريكا إلى اليابان، و من إنجلترا إلى جنوب أفريقيا و استراليا
الرؤية المستقبلية
بفضل جهد بعض المفكّرين و الباحثين المستقبليين، أمكن التوصّل إلى بعض المؤشّرات الأساسية للتغيّر، التي يتزايد تأثيرها مع مرور السنين على مدى العقود الأخيرة، و التي تعكس التحوّل إلى مجتمع المعلومات . من دراسة علاقات
التأثير المتبادل بين هذه المؤشّرات، أمكن الوصول إلى رؤية مستقبلية شاملة لأوضاع البشر في مجتمع المعلومات . هذه الرؤية المستقبلية لا غنى عنها في أي محاولة لطرح حلول لمشاكلنا الراهنة، أو لعمليات إعادة البناء المطلوبة للتوافق مع متطلّبات مجتمع المعلومات
الاعتماد على الرؤية المستقبلية الشاملة، و ليس فقط على أحد مؤشّرات التغيير، يفيدنا في الوصول إلى حلول باقية، أو مستدامة، لمشاكلنا، لا تقود إلى توليد مشاكل مستجدة في المستقبل، و يساعدنا في تصوّر مستقبل أي نشاط أو نظام بشري، و تفاصيل حياتنا خلال تحوّلنا من مجتمع الزراعة و الصناعة، إلى مجتمع المعلومات
الرؤية المستقبلية الشاملة، هي سبيلنا لوضع الاستراتيجية العامّة لبناء حياتنا الجديدة في عصر المعلومات، و إرساء الاستراتيجيات الخاصّة في كل مجال من مجالات النشاط البشري، بحيث نضمن عدم ظهور التناقض بين هذه الاستراتيجيات و بعضها البعض، أو مع الاستراتيجية العامة لإعادة البناء
بدون الرؤية المستقبلية الشاملة، سنفقد التكامل بين عمليات إعادة البناء المختلفة في مختلف مجالات حياتنا، و بين خطط التطوير المختلفة التي نأخذ بها
الرؤية المستقبلية، هي المرجع الأساسي الذي نعتمد عليه في عمليات التحوّل السلمي الناجح إلى الحياة الجديدة في مجتمع المعلومات


سادسا : وهم إغفال المتغيّرات العالمية

من بين الأوهام الشائعة، و هم إمكان صياغة رؤية مستقبلية لمصر لا تقوم على أساس التغيّرات العالمية الحالية، و كذلك وهم إمكان التعامل مع التغيّرات العالمية دون البحث عن جذورها و أصولها و جوهرها و العلاقات المتبادلة بينها، و أخيرا.. وهم التخطيط لرؤية مستقبلية على يد الصفوة عند القمّة
عندما أناقش مؤشّرات التغيير العالمية، و التي تشكّل مستقبل الجنس البشري، خلال محاضراتي، غالبا ما يواجهني نفس السؤال : ما تقوله قد ينطبق على أمريكا أو روسيا أو اليابان، لكن أين نقف نحن من هذا في مصر ؟ .. ما هو مستقبلنا نحن ؟
و كانت إجابتي دائما هي " الرؤية المستقبلية لمصر يجب أن تقوم على أساسين : أوّلهما، جوهر مؤشّرات التغيّر للجنس البشـري بصفة عامّة . و ثانيهما، التعرّف الصادق و المخلص للواقع المصري الحالي . و كنت أوضّح هذا قائلا أنّ مهمّتي رجل التنبّؤات الجوّية، الذي يقرأ نتائج أجهزة القياس الخاصّة بالرصد الجوّي، و يمتحن صور الأقمار الصناعية، ثم يعلن في نهاية الأمر درجة الحرارة المتوقّعة، و غير ذلك من العناصر الجوّية كالأمطار و الرياح . و يكون على كلّ فرد أن يتفهّم احتياجاته المباشرة، و ما يمكن للرؤية الجوّية المطروحة أن تؤثّر به على سعيه.. كيف يستفيد من ذلك التنبّؤ، أو يتجنّب سلبياته
و قد لا نحتاج إلى الإشارة أن التكنولوجيات الإلكترونية المعلوماتية المتطوّرة قد أسقطت الحواجز بين الدول و الأقاليم و القارات، فأضحت مؤشّرات التغيير عالمية في تأثيرها .. و أصبحت مشكلة أيّ إنسان فرد في أي مكان على سطح كوكب الأرض، هي مشكلة جميع البشر، في كلّ مكان من الأرض، لهذا، فأيّ رؤية لحل مشاكل مصر، الراهنة و المستقبلة، يجب أن تبدأ بفهم جوهر التغيّرات العالمية الجارية، و المفروضة علينا، شئنا أم أبينا

سابعا : علاقات متبادلة بين المتغيّرات

بعض المهتمّين بالدراسات المستقبلية، يعتمدون في دراساتهم على رصد تغيّر واحد أو مجموعة تغيّرات، دون السعي إلى فهم العلاقات متبادلة التأثير بين هذه المتغيّرات . و هذا التخوّف من النظرة الأعمق يعتبر نوعا من الكسل الذهني المعيب . و السعي إلى تصوّر رؤية مستقبلية لمصر، يقتضي المضي إلى ما هو أعمق من مجرّد مراقبة و متابعة المؤشّرات العالمية للتغيير . و الحقّ يقال، أن هذا الوهم لا يقتصر على المفكّرين المصريين أو العرب، بل يشمل العديد من المفكّرين في أنحاء العالم
و خير مثال كلاسيكي لهذا الوهم الخاطئ، نجده في حصيلة اجتماعات نادي روما عام 1970، التي جرت تحت لافتة " مأزق البشرية "، الذي صدر عنه الكتاب الشهير " حدود للنمو " . و نادي روما، هو تجمّع لعدد مختار من صفوة العلماء و المفكّرين من دول مختلفة، و من مختلف التخصّصات، تدعمه ميزانيات كريمة من المؤسسات الاقتصادية الكبرى . في اجتماع النادي الذي تمّ في صيف 1970، بحث الأعضاء خمسة عوامل أساسية تحدّد مستويات النمو على كوكبنا : عدد السكان، و الإنتاج الزراعي، و الموارد الطبيعية، و الإنتاج الصناعي، و تلوّث البيئة . و قد اعتمد الباحثون في دراستهم لمستقبل كل عامل من هذه العوامل على الربط بين الكمّ الهائل من المعلومات حول هذا الجانب، و بين الإمكانات المعلوماتية الحديثة، كالمنهج العلمي، و تحليل النظم، و أحدث نظم الكمبيوتر
رغم المكانة العالية للباحثين الذين ساهموا في وضع ذلك التقرير، و رغم علمية و دقة الأدوات التي اعتمدوا عليها في الرصد و استنباط مستقبل الظاهرة بمد الخطوط الخاصّة بنموّها، فإن النتائج المتشائمة التي توصّل لها هذا التقرير ترجع إلى دراسة كل عامل من العوامل، بمعزل عن العوامل الأخرى
و مع أن التقرير يتحدّث عن العلاقات المتبادلة بين مختلف العناصر، إلاّ أنّه اعتمد أساسا على عملية مد الخطوط البيانية رياضيا، ممّا خلق تلك النظرة المتشائمة للتقرير . فالثابت أنّنا لا نستطيع أن نفهم مستقبل أيّة ظاهرة من الظواهر، دون أن نربط بينها و بين باقي الظواهر المؤثّرة، و دون معرفة التأثير المتبادل بينها
آثار تكنولوجيا المعلومات
لكي يتّضح معنى ما أتحدّث عنه، يمكن أن نعطي مثالا على التأثير المتبادل، للعلاقة بين التكنولوجيا المعلوماتية، و العمل، و الأسرة، و التعليم، و تخطيط المدن، و وسائل الانتقال .. إلى آخر ذلك
تطوير الكمبيوتر خلال نصف القرن السابق، قاد إلى تغيير مستقبل عدّة مجالات في حياتنا، و تأثّر هو أيضا بهذه التغيّرات . تطوير الكمبيوتر، قاد إلى تطوير الإنسان الآلي ( أو الروبوت )، و هذا قاد إلى تغيير طبيعة العمل في المصنع و المكتب، و واجهت العمالة التقليدية لعصر الصناعة أزمة بطالة حادّة بشيوع العمل العقلي أو المعرفي مكان العمل
هذا التحوّل في طبيعة العمل، مع التطوّر المتلاحق في التكنولوجيات المعلوماتية، مع القدرات التي أتاحتها وسائل الاتّصال المتطوّرة عن طريق أقمار الاتّصال الاصطناعية، كل هذا جعل من الممكن أن يمارس العديد من العاملين عملهم، دون الاضطرار إلى التواجد جسديا في المقرّ المركزي للعمل، و خلق فرصاإيجابية جديدة للأسرة و المرأة و الطفل، و استوجب إعادة النظر في الإسكان و في وسائل الانتقال . و قاد هذا أيضا إلى ضرورة تغيير الأسس التي قام عليها التعليم التقليدي طوال عصر الصناعة
لهذا، نخطئ إذا ما تصورّنا أن بإمكاننا أن نرسم صورة لمستقبل النشاط الإسكاني ـ عل سبيل المثال ـ دون أن ندخل في اعتبارنا طبيعة العمل في المستقبل، و نوع التعليم الذي سيسود مستقبلا
رسم الرؤية المستقبلية، لأيّ نشاط، يجب أن يقوم على أمرين : فهم العوامل المؤثر’ و التغيّرات التي تطرأ على ذلك النشاط، ثمّ فهم العلاقات متبادلة التأثير بين هذه العوامل و المتغيّرات


ثامنا : مهرجان ديموقراطي جماهيري

من الأوهام الشائعة، و التي تسندها طبيعة ديموقراطية التمثيل أو التوكيل التي شاعت في عصر الصناعة، إمكان أن تنوب الصفوة عند القمّة عن الشعب في وضع الرؤية المستقبلية لذلك الشعب
تعتمد الرؤية المستقبلية لمصر على أمرين
فهم مؤشّرات التغيير العالمية السائدة، و تصوّر مستقبلها من واقع علاقات التأثير المتبادلة بينها
فهم الخريطة الحالية للمجتمع المصري، بكل ما يمكن من دقّة و صدق و أمانة .. أي فهم الأرض التي نتحرّك فوقها، و النقاط الواقعية التي سنتحرّك منها إلى المستقبل .. و الخريطة المجتمعية المطلوبة، يجب أن تحدّد بكلّ دقّة التوزيعات المجتمعية على أرض مصر، و مدى تأثير قيم و مبادئ و عقائد المجتمع الزراعي، و المجتمع الصناعي، و مجتمع المعلومات، على البشر في مصر
و إذا كنّا حتّى الآن نأخذ بشكل ديموقراطية التمثيل النيابي، بقدر ما تسمح به ظروف الحكم و صراعات القوى، و التي تعني توكيل بعض البشر عن جماهير الشعب في اتّخاذ القرارات التي تؤثّر على صميم حياة هذه الجماهير .. إذا كنّا نرضى بهذا في مجريات أمورنا اليومية، فليس من الجائز أن نسمح به عند وضع الرؤية المستقبلية لمصر، التي يفترض أنّها ستعيد صياغة مصير الأجيال الحالية و القادمة
الرؤية المستقبلية لمصر، يجب أن تقوم على الأحلام الواقعية لجماهير الشعب، بمختلف فئاته و طبقاته وعقائده .. و هذا يعني أن بداية جهد وضع الرؤية المستقبلية لمصر يجب أن يتزامن مع جهد التحوّل من ديموقراطية التوكيل إلى ديموقراطية المشاركة، و ربما إلى الديموقراطية التوقّعية .. المهم، أن تتحوّل عملية رسم أبعاد الرؤية المستقبلية لمصر، إلى مهرجان ديموقراطي جماهيري، و لا يقتصر وضعها على الصفوة عند قمّة الهرم المركزي