Saturday, November 21, 2009

ديموقراطية جديدة لمجتمع المعلومات

العالم اليوم السبت 31 مايو 1997

الديموقراطيّة النيابية
و أزمتها الحالية ...


لكي نفهم أبعاد أزمة الممارسة الديموقراطة الشائعة ، علينا أن نتأمّل تاريخ تطوّر مسئوليّة إتّخاذ القرار، التي أوصلتنا إلى ما تمارسه معظم دول العالم من ديموقراطيّة برلمانيّة، تقوم على التوكيل أو التمثيل النيابي
على مدى عشرة آلاف سنة، هي عمر عصر الزراعة، كانت الحياة بسيطة للغاية إذا قورنت بحياتنا المعاصرة . و كانت عمليّة إتّخاذ القرار - بالتبعيّة - سهلة و بسيطة، يستطيع الحاكم أن يقوم بها بمفرده، دون حاجة إلى العون من أحد
غاية ما يفعله الحاكم، عندما يلتبس عليه الأمر، هو إن يتّجه إلى وزيره قائلاً : دبّرني ياوزير . و كان رأي الوزير أو تدبيره إستشاريّاً، غير ملزم للحاكم، بأخذ به أو يهمله . و مع مرور الزمن، عمد بعض الحكّام إلى تكوين مجلس من حكماء البلد، يستشيره عند الضرورة، و يتنوّر بآرائه .. و هكذا، ولد أول شكل من أشكال الديموقراطيّة، نظام مجلس الشورى . غير أن رأي هذا المجلس كان، كما في حالة الوزير، إستشاريّاً ..ظلّ هذا على مرّ القرون، الحدّ الأقصى للمارسة الديموقراطيّة . و حتّى عنما قامت ديموقراطيّة روما النيابية، كانت ديموفراطيّة السادة، لا يسمح فيها لجماهير الشعب من العبيد بأيّ نوع من المشاركة

شرخ في جدار السلطة

و مع إندفاع عصر الصناعة، تعقدّت الحياة . حدث الأنفصال بين الإنتاج و الإستهلاك، ممّا قاد إلى ظهور السوق بمعناها المعاصر . و تشكّلت الحكومات البيروقراطيّة الكبرى، و مؤسّساتها الضخمة، فأصبح من الصعب على الحاكم، وعلى الصفوة التي تساعده في الحكم، القيام بمهمّة إتّخاذ القرار . و قاد هذا إلى ضرورة إحداث شـرخ في جسم السلطة لإدخال عناصر جديدة إلى عمليّة صناعة القرار ، و من ثمّ ظهرت المجالس النيابية، التي ينوب أفرادها عن الشعب في إتّخاذ القرار
وجري تصميم هذه الآلة الديموقراطيّة على نسق المصنع، الذي كان أعجوبة العصر، و محلّ إعجاب القيادات الأولى لعصر الصناعة . فأنشئت الأحزاب، المناظرة لخطوط التجميع في المصنع، تجمع أصوات المواطنين، أو المادّة الخام للعمليّة الديموقراطيّة . و تجمّعت الأحزاب داخل البرلمان أو المجلس النيابي، بقدر ما حصلت عليه من أصوات . و أصبح هذا المجلس، من الناحية النظريّة، الجهة التي تتخذ القرارفي كل ما تعرضه الحكومة من تخصيصات للميزانية، أو قوانين
في هذا النوع المستحدث من الديموقراطيّة، يعطي المواطن صوته، ليوكّل عنه شخص آخر في إتّخاذ القرارات، ويتراوح المدى الزمني لهذا التوكيل بين ثلاث و خمس سنوات في العادة . خلال هذا الزمن تنقطع صلة المواطن بعمليّة إتّخاذ القرار، و حتّى موعد الإنتخابات التالية
كانت خطوة ثوريّة

في كتابه "الموجة الثالثة"، يقول آلفين توفلر أن الحكومة القائمة على التمثيل و الإنتخاب، و التي ولدت من الأحلام التحرّريّة لثوار الموجة الثانية(يقصد عصر الصناعة)، كانت تقدّماً مدهشاً بالنسبة لنظم السلطة الأسبق، كانت نصراً تكنولوجيّاً أكثر إثارة من الآلة البخاريّة أو الطائرة . لقد أتاحت هذه الحكومة تتابعاً منظّماً، يختلف كثيراً عن حكم السلالة الوراثي، و فتحت قنوات الإتّصال في المجتمع بين القاعدة و القمّة، ووفّرت طقساً يتيح التعامل مع الخلافات بين الجماعات و الفئات المختلفة على أساس سلمي
و بفضل تمسّك هذه الحكومة، القائمة على التمثيل الإنتخابي، بمبدأ حكم الأغلبيّة، و بحقّ كلّ إنسان في إعطاء صوته، ساعدت بعض الفقراء و الضعفاء، في إستدرار بعض المنافع من إخصائيي السلطة الذين يديرون آلة التكامل في المجتمع . فظهرت الحكومة بمظهر الثورة الإنسانيّة
و مع ذلك، و منذ البداية الأولى، عجزت الحكومة دائماً عن الوفاء بالتزاماتها . لم تستطع، في أيّ مكان، أن تغيّر البناء التحتيّ للسلطة في الدول الصناعيّة ... بناء الصفوة و الصفوة العليا . و هكذا، تحوّل الإنتخاب، بصرف النظر عمّن يكسب فيه، إلى أداة ثقـافيّة قويّة في يد الصفوة
تبدّد الأحلام الورديّة

و على مرّ السنين تبدّدت الأحلام الورديّة للديموقراطية النيابية
ومع إندفاع ثورة المعلومات، و تطوّر تكنولوجيّاتها، فقدت هذه الديموقراطيّة مصداقيّتها، في جميع الدول التي تأخذ بها . و الشواهد على ذلك لا تحتاج إلى حصر، أو تقديم
لقد كانت هذه الديموقراطيّة مناسبة منذ قرنين، عندما كانت المشاركة المباشرة للناس غير ممكنة أومجديّة . أمّا الآن فقد تغيّر الوضع . و في هذا يقول الكاتب المستقبلي جون ناسبيت: أنّنا بصدد أوضاع جديدة، بعد مقدم ثورة الإتّصالات، و ما صاحبها من إرتفاع المستوى المعرفي للناخبين، ومع قدرتنا الحاليّة على معرفة الكثير عمّا يجري، بما لا يقل عمّا يعرفه ممثّلونا في البرلمان، و معرفتنا به بنفس السرعة
قلنا أن الأحزاب كانت حجر الأساس في العمليّة الديموقراطيّة، و خط التجميع الرئيسي في مصنع التمثيل النيابي . و كانت تمثّل الخطوط العريضة لمصالح و لتوجّهات المواطنين، التي كانت تستقطب في اليمين و اليسار و أحيانا الوسط . و بشكل عام، كان الفرد ينتسب إلى هذه الأحزاب وفقا لهذا التقسيم
353
حزبا في أمريكا

الذي حدث خلال نصف القرن السابق، أن كلّ حزب من هذه الأحزاب قد لحق به ما لحق بكلّ شيئ قي حياتنا ، نتيجة الدخول المتصاعد لثورة المعلومات، التنوّع و التمايز و الإختلاف . و بذلك تحوّل كلّ حزب إلى يمين اليمين، و يمين، و وسط، و يسار، و يسار اليسار !، فاختلطت التقسيمة التقليديّة، و فقدت الأحزاب مصداقيّتها بالنسبة للناخبين، و تحوّلت الإنتخابات البرلمانيّة إلى حرب عصابات
عن هذا يقول ناسبيت،" اليوم، أصبحت الأحزاب القوميّة السياسيّة مجرّد أسماء، لقد أصبح لدينا في كابيتول هيل 535 حزبا سياسيّاً.."، مشيراً إلى عدد النوّاب . و يقول عن قيادات الأحزاب،" القيادة، تتضمّن البحث عن موكب، و الوقوف أمامه، و الذي يحدث في أمريكا الآن هو أن هذه المواكب قد أصبحت أصغر فأصغر..ومازالت تتكاثر " . و مع المزيد من الدخول في مجتمع المعلومات، يتحوّل الشعب إلى مجموعة من المستقلّين . و الحقيقة أن إهتمام المواطن بالسياسيّين يقل يوما بعد يوم، و هذا هو السرّ في إنخفاض الإهتمام بالإنتخابات القوميّة السياسيّة

إنصراف المواطن عن الإنتخابات

و يستطرد ناسبيت قائلا، أن إشتراك الشعب في الإنتخابات القوميّة يتناقص مرّة بعد مرّة . و رقم99% الشهير لا نراه سوى في الدول الشموليّة . لقد إعتاد المحلّلون السياسيّون أن يربطوا بين ضعف الإقبال على الإنتخابات و بين اللامبالاة و الجهل . إلاّ أن هذا التحليل يفقد قوّته، عنما نرى أن الناخبين قد أصبحوا أفضل تعليماً، و أغزر معرفة، و أكثر تحديداً لموقفهم . لهذا، بدأ المحلّلون يفهمون أخيراً أن الناخبين يتخذون قراراً واعيا بعدم المشاركة في الانتخاباتً
يقول الناس أنهم لا يحملون ثقة كبيرة، لا في التنظيمات السياسيّة و لا في يشغلونها . و هم بموقفهم هذا، يعبّرون عن إيماتهم بأن السياسيّين: إمّا لا يستطيعون القيام بما يطلبه الناخبون، أو لا يريدون فعل ذلك
إلى أن يقول ..إنتزعنا جوهر القوّة السياسيّة من أيدي ممثّلينا المنتخبين، لكي نعيد إستثمارها في مجالين أساسيّين
الأول هو الإقتراع السرّي المباشر، بالنسبة لحق إقتراح و تعديل القوانين، و بالنسبة للإسستفتاء على العمليّات المعيّنة، و الثاني هو النشاط السياسي الشعبي . و في كلّ من الحالتين، يكون المواطنون و ليس السياسيّون، هم الذين يقرّرون ما يفعلونه، و يمارسونه

* * *

ماذا يعني هذا كلّه ؟ . يعني أنّنا بصدد الإنتقال من الديموقرطيّة النيابيّة إلى شكل جديد للمارسة الديموقراطيّة أكثر تلبية لحاجات المجتمع في عصر المعلومات، بالضبط كما إنتقلنا من ديموقراطيّة الشورى إلى الديموقراطيّة النيابيّة تلبية لحاجات المجتمع في عصر الصناعة
و الديموقراطيّة النيابيّة، شأنها شأن جميع مؤسّسات المجتمع الصناعي، قد إستنفذت أغراضها . و لا يجدي في هذا القيام بجهود ترقيعيّة، و إنّما الذي يجدي، هو البحث عن شكل جديد للديموقراطية ـ سواء كانت ديموقراطية المشاركة، أو الديموقراطية التوقعية، أو الديموقراطية شبه المباشرة ـ على أن يتم ذلك من خلال فهم إحتياجات مجتمع المعلومات بشكل عام، وفي مجال الممارسة الديموقراطيّة بشكل خاص
راجي عنايــت

No comments:

Post a Comment